بقلم الإعلامية الكبيرة : هدى العجيمي
أهدي هذه الذكرى وهذا المشهد إلى الأجيال الجديدة من أبنائنا وأحفادنا إلى كل صناع القرار الحريصين على تقديم أعمالهم بشكل يرضي ويفيد الجميع.
كانت الإذاعة فى فترة الأربعينيات تقدم برامجها بشكل بسيط ومتنوع في نفس الوقت مثل إذاعة القرآن الكريم ونشرات الأخبار والأحاديث الدينية والاجتماعية والأدبية والقصص والترجمات من الآداب العالمية وبعض المسامع الدرامية، وكانت تقدم البر امج في شكل الأركان مثل (ركن الطفل / ركن العمال/ ركن الريف)، و(ركن المرأة) الذي كانت تشرف عليه الأستاذة (صفية المهندس) الرائدة الإذاعية المشهورة.
وكان (ركن المرأة) هذا برنامج يومي بسيط يتضمن نصائح للمرأة والأسرة إلى جانب طريقة لطهي بعض الأطباق للأطعمة التي تحبها الأسرة، وأساليب التنظيف وغير ذلك في خمس عشرة دقيقة فقط، وفي نهاية الخمسينيات ومع تطور الحياة في مصر بعد ثورة يوليو انتابت الإذاعة موجة من النشاط والرغبة في تطبيق مبادئ الثورة ونشر قيم العدالة والحرية، وبدا كل إذاعي يفكر في تطوير برامجه ففكرت صفية المهندس في تطوير برنامج المرأة وجعلته نصف ساعة يوميا علي شكل برنامج المنوعات، فأضافت أليه الأغنية التي تناسب المرأة والأسرة واستضافة كبار الأطباء من أجل صحة الأسرة النفسية والبدنيه، وأيضا مصممي الازياء لتوجيه المرأة الي اسأليب الموضة الحديثة، وأستاذة الاقتصاد المنزلي لتقديم وجبات الاطعمة الشهية.
ولعل أهم ما أضافته كان المسلسل الدرامي (عيلة مرزوق أفندي)، الذي استوحت فكرته من الدراما البريطانية اليومية التي كانت تقدمها إذاعة الـ (بي. بي. سي) الانجليزية خصيصا للمرأة والأسرة صباح كل يوم، فكانت عيلة مرزوق أفندي هى الإضافة اليومية التي أثارت انتباه المستمعات والمستمعين والتفت حولها الأسرة بكامل أفرادها واستمرت الي اليوم.
كانت السيدة (صفية المهندس) سيدة مثقفه ومتحضرة ومنفتحة علي كل جديد في الحياة والمجتمع، وكانت تسعي دوما للحفاظ علي نجاح البرنامج الذي أطلقت عليه اسم (إلى ربات البيوت) واعتبرته رسالة إعلامية مهمة من أجل رفعة المرأة وبناء الأسرة والمجتمع، وقد ألهمها ذكاؤها ألا تنفرد بالرأي والقرار في التخطيط لهذه المؤسسة الجديدة، فكانت تؤمن بالاستشارة والرأي الآخر واحترام رد الفعل من الجمهور ومعرفة رأي كبار الكتاب والمفكرين فيما تقدمه كل يوم من مواد متنوعة للاسرة بكل افرادها.
ومن هنا كان مكتبها يتحول إلى (صالون اجتماعي) صباح كل يوم فيتردد عليه كبار الصحفيين والكتاب فكان منهم الاستاذ رأفت الخياط، الكاتب الصحفي ومؤلف الدراما الإذاعية،والأستاذ محسن محمد الكاتب الموسوعي الكبير، والأستاذ محمد عفيفي الكاتب الساخر والأديب، وأحيانا الأستاذ أحمد رجب الكاتب الصحفي وصاحب عمود (نص كلمة) في صحيفة الأخبار، وغيرهم من كبار الكتاب المتابعين للإذاعة ولهذا البرنامج علي وجه الخصوص، وكانت المناقشات تدور حول ما اذيع في اليوم السابق في برنامج (إلى ربات البيوت) وما إذا كانت لهم ملاحظات نقدية حولها، وفي الوقت نفسه تنشأ عن الدردشة والمناقشات اقتراحات بناءة للتطوير وتلبية رغبات المستمعات، وتقديم كل ما يفيد الأسرة وما يسهو عنه البرنامج، أو مايعتبرونه من احتياجات الأسرة الأساسية.
وكنت بصفتي متدربة في هذا البرنامج وقريبة من المديرة ومقدمته وصاحبة فكرته وأيضا هى المضيفة لكل هؤلاء الضيوف فكنت أحضر هذه الجلسات الصباحية المفيدة لكل إعلامي والتي تمده بالمعلومات والأفكار الجديدة، ولهذا فأنا لا أنسي أبدا ماتعلمته في (صالون صفية).. صفية المهندس.
ومن خلال احتفالية وطنيه في أرض (النوبه) في نفس الفترة أيضا تلقي البرنامج دعوة لزيارة منطقة النوبه التي كان أهلها بصدد ترك المنطقة التي يعيشون فيها جنوب أسوان والغنية بالآثار العظيمة (التي عرفت باسم آثار النوبه) إلى منطقة أخرى، نظرا لأعمال بناء السد العالي الذي سوف ينتج عن بنائه بحيرة هائلة هي بحيرة ناصر والتي سوف تغرق كل المنطقة وكل الآثار التي سارعت الدولة ومنظمة اليونيسكو العالمية في نقلها الي أماكن اخري أمنه.
تلقينا الدعوة للزيارة فقامت السيدة صفية المهندس باختيار بعثة من أفراد محددة لهذه الزيارة واصطحبتني معهم لكي أقوم بعمل لقاءات مع سيدات النوبه حول أثر التهجير علي أسرهم، وعلي مستقبلهم وما أن وصل الوفد الإذاعي إلى أول قرية نوبيه حتي كانت المفاجأة التي لم نكن نتوقعها وهي وقوف تلاميذ المدارس في صفين علي الطريق مع أصوات عزف الموسيقي وتلويح التلاميذ بالإعلام المصرية وترديد الأناشيد الوطنيه الحماسية ترحيبا بالإذاعة، وزيارة نجوم الإذاعة (صفية المهندس وعلي فايق زغلول الإذاعي المشهور) وبعض المهندسين وأنا معهم مندهشة ومبهورة بهذا الاستقبال الجميل من هؤلاء البسطاء الذين منحوا التلاميذ إجازة في ذلك اليوم ليخرجوا إلى الطريق لاستقبال الضيوف والترحيب بهم.
وبهذا ارتجفت قلوبنا وتعاطفت تعاطفا كبيرا مع هذا الشعب البسيط النبيل مما أثر في نفسي لفترات طويلة وشجعني علي زيارتهم فيما بعد في بيوتهم الجديدة بموطن آخر داخل منطقة النوبه جنوب أسوان وهى التى وفرتها لهم الدولة بدلا من قراهم التي غمرتها مياه بحيرة السد.. وبعد هذا بسنوات قدمت حلقات متعددة مع أدباء النوبة في برنامج (مع الأدباء الشبان) ومع سيدات النوبه في برنامج (الي ربات البيوت).