* فريد الأطرش عرفني عليه، وحسين السيد خزانة أسراره العاطفية، وحليم ونجاة وفايزة الأقرب إلى قلبه
* صوته كان في الواقع أجمل وأمتع عن كل ما يأتي عبر أثيرالإذاعات
* أهداني أغنيته (ساعة ما بشوفك جنبي)، وحضرت تسجيل بروفات أغنية (أنده عليك بالحب) لوردة
* أشهد أمام الله أنه لم يكن بخيلا في حياته كما أشيع عنه، وكان يعتز جدا بساعة الخديو إسماعيل
أجرى الحوار : أحمد السماحي
على ضفاف حنجرته عاشت سنوات من العمر الجميل، ومن نبعه الموسيقى العذب أصابت جانبا كبيرا من المتعة المحببة إلى القلب، وبعد أن ظلت سنوات الصبا والشباب تحلم بلقائه عن قرب التقت به فجأة في بيروت وطالت أسوار موهبته المصرية الفذة، حتى صارت بينهما صداقة وطيدة على مدى 25 عاما، جمعت الكاتبة الدكتورة (لوتس عبدالكريم) بنهر الموسيقى الخالد الموسيقار (محمد عبدالوهاب)، لتعايش إبداعه وتألقه عن قرب، وتطال أحلامه الكبرى نحو الحب والفن والجمال، وتلمس جانبا مهما من رؤاه الصائبة في الناس والحياة.
وفى الذكري الـ 31 – التى تهل علينا بعد غد وبالتحديد يوم 4 مايو – تكشف لنا الكاتبة والأديبة (عبد الكريم)، تلك الجوانب الغامضة في حياة فنان تربي في حدائق النغم الأصيل، ليخلف لنا تراثا رشيقا يليق بمقامه الرفيع كواحد من رواد التنوير في زمن الفتوة المصرية، فإلى نص الجزء الأول من الحوار المليئ بالأسرار والمفاجأت سننشرها تباعا.
بداية الصداقة
نسترجع مع الدكتورة لوتس عبدالكريم بداية معرفتها بموسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب فتقول: منذ طفولتي وعبدالوهاب بالنسبة لي يمثل حلما جميلا ظل يطاردني في صحو ومنامي، خاصة أن والدتي كانت تعزف مقطوعاته الموسيقية القديمة على البيانو، وكان حلم حياتي أن أراه بعيني، وفجأة أصبح الحلم واقعا عندما التقيت به صيف نكسة 1967، كان زوجي فى هذا الوقت سفيرا للكويت فى اليابان، وفى طريقنا إلى اليابان أصبت بإجهاد شديد، فتوقفنا في بيروت لنقضي بضعة أسابيع فى لبنان فى مصيف (شتورة)، فتعرفت على الراحل الكبير (فريد الأطرش).
وفى إحدى الأيام وأنا جالسة معه شاهدت (عبدالوهاب) فقلت لنفسي هذا هو عبدالوهاب حقيقة ولا صورة أو يمكن سينما، ووجدته قامه رشيقة وأناقة مفرطة ووسامة جذابة، يروح ويغدو فى ساحة الفندق ولا يمل وكأنه يؤدي واجبا، وعندما انتهى من المشي، أقبل علينا، وقال لفريد الأطرش: (مش تعرفنا على الناس اللي جالسين معاك يا فريد) فتعارفنا، وتشاء الصدف أن نلتقي مرة أخرى فى (بحمدون) وتعددت جلساتنا، وكان الضيوف المشاركون دائما الجلسة: الموسيقار فريد الأطرش، المطربة نجاة الصغيرة، النجمة صباح، والفنانة القديرة شادية، والشاعر الكبير نزار قباني.
وفى أحد الجلسات كان يعيد تلحين أغنيته القديمة (ساعة ما بشوفك جنبي/ مقدرش أنساك)، فكان يحتضن عوده ويدندن وبجواره السفير المصري فى لبنان – آنذاك – محمود غالب، ولاحظ إنى أستمع وأنا مشدودة إلى صوته الجميل الذى أجده أجمل وأمتع فى الحقيقة عن كل ما يأتي عبر أثيرالإذاعات، وأجده يذوب في اللحن ويمتزج بكل أحاسيسه ونبراته فى عشق حتى أنه يبلغ أحيانا حد التصوف، ولما لاحظ اهتمامي وعدني بأن يرسل لي شريط الأغنية عندما أعود إلى مصر.
بروفات (أنده عليك بالحب)
تضيف الكاتبة الكبيرة : وحين عدت بعد عام واتصلت به عرف صوتي على الفور، بمجرد أن قلت (ألو)!، وأراد أن يبرهن فدندن ضاحكا: (مقدرش أنساك) تذكيرا بالأغنية التى وعدنى بإرسال نسخة منها هدية لي، وبالفعل في اليوم الثاني وجدت الشريط في يدي وتوطدت صداقتنا جدا خاصة فى العشر سنوات الأخيرة، فنحن كنا مشتركان فى عشق مدينة النور (باريس)، وكثيرا ما كان يردد قول أمير الشعراء أحمد شوقي: (إيه باريس لو أدرك الغزاة جمالك ما غزوك)، وفى فندقه المفضل (انتركونتيننتال) وفى جناحه (نابليون) حضرت تسجيل لحنه (أنده عليك) الذى غنته المطربة الراحلة (وردة)، وكان يقول: (نجاح المغني فى أن يعيش معنى اللحن ويحسه وينفعل به، وهذا هو سر نجاح عبدالحليم حافظ، أما وردة فعندها صوت صحته كويسة).
الأقرب إلى قلبه
عن الذى يميز (عبدالوهاب) بحكم صداقتهما قالت الدكتورة لوتس: من عرف (عبدالوهاب) عن قرب يشعر أنه شخص مثل النهر متدفق، مليئ بالوهج والألق والروحانية والتعقل والتأمل الهادئ الرزين فضلا عن الذكاء الشديد، ذكائه كان أنيقا متأنقا ينتقي اللحظة ويختار الوقت ولا يضلل صاحبه، فحين يقول له ذكاؤه لا تنفعل بالغضب الذى يسيئ إليك فيمتثل لذلك ويصفح، عاش فى كبرياء وإباء وأناقة.
كان طيبا يحب الخير ويحث عليه، يعالج السيئة بالحسنة، ويكتم استياءه وغضبه إذا ما هوجم، ولا يبالي أبدا بكل من أراد الإساءة إليه، يغض الطرف عن أخطاء الآخرين، بل ويستمر فى مجاملاتهم، قدرة فائقة على الصفح وعلى الحب بصدق، لقد أحب الحياة بل عرف كيف يحب الحياة؟ ويحترمها ويعاملها برفق وذكاء وذوق وفهم شديد فأجزلت له العطاء، وعرف كيف يعيش صديقا وزوجا وفيا!.
وكان (عبدالوهاب) متعلقا بالشاعر (حسين السيد) كان يقول إنه الوحيد الذى يفهم مشاعره ويستطيع أن يترجمها إلى قصائد وكلمات كلما أراد ذلك، وكان يستشيره فى أموره العاطفية الخاصة بالنساء لهذا حزن كثيرا عليه وأصيب بالاكتئاب عندما رحل (حسين السيد)، وكانت (نجاة الصغيرة وعبدالحليم حافظ وفايزة أحمد) من أقرب المطربين إلى قلبه، وكان يحيط نفسه بالأطباء خاصة بالليل ويطمئن إلى وجودهم بجانبه كل وقت خاصة الدكتور (سيد الجندي) جراح المخ والأعصاب.
ساعة الخديو إسماعيل
ونفت الدكتورة لوتس بقوة الشائعة القوية التى رددها كثير من العاملين فى الوسط الفني عن بخله، وقالت: كنا ذات مرة فى باريس ودعوناه أنا وزوجي على العشاء فى المكان الذى يقترحه هو فاقترح مطعم (جراند كاساد) فى غابات بولونيا، وهو مطعم عبارة عن قصر يعتبر فخر القصور القديمة، جدرانه وأسقفه مطلية بالذهب وخدمه يرتدون زيا ملكيا خاصا، باختصار هو من أفخم وأغلى المطاعم فى باريس، كان معنا على العشاء الدكتور (عبدالأحد جمال الدين) وكان مستشارا للسفارة وقتها، وأسرة لبنانية.
وكان العشاء الفاخر مكونا من أطباق عديدة غير أطباق الضيوف، وبعد الانتهاء من العشاء وحين طلبنا فاتورة الدفع فؤجئنا بالجرسون يخبرنا بأن الحساب مدفوع!، وضحك عبدالوهاب وهو يخبط كتف زوجي بيده قائلا: (بقى عشان ما أنت وزير مالية الكويت يعنى أغنى رجل فى العالم أنا مقدرش أعشيك!).
وفى إحدى المناسبات عرض عليه شخص غني جدا أمامي أن يختار الهدية التى يريده أن يرسلها له فقال له : (هدية أيه أنا عندي ساعة الخديوي إسماعيل، وهدايا كثيرة من هذا النوع، أنا شبعت خلاص هدايا وفر يا راجل هديتك)، كانت أعظم هدية لديه عبارة عن إيشارب صوف (تلفيحة) يلف بها رأسه إذا خرج فى الشتاء، كان عبدالوهاب عندما يردد أحدهم أمامه ضاحكا شائعة بخله يقول: (أنا أحترم الفلوس جدا، لكن أحب أن القرش يكون فى مكانه وما أحبش الحال المايل).
…………………………………………………………………………..
غدا نستكمل الحوار المليئ بالمفاجأت والأسرار.