كتب : محمد حبوشة
هى دراما فنية ليبية، محبوكة بمزيج من قصص الماضي والحاضر، جمعت بين ثناياها شظايا وتكوينات المشهد الليبى لتغوص فى العقل الباطن للمشاهد المأسور دائما بسردية الحنين للماضى، عبر ثنائية المشهد الدرامى الذى يخاطب العيون وسردية النص الشعرى الذى يواكب أحداث المشاهد فيصنع ترابطا قويا، يذكر بالواقع، ويستحضر التاريخ، لتكتمل الحبكة الدرامية المصنوعة بعناية فائقة في طريقة المزج بين الأرشيف الحقيقى الموثق والخيال الذى يخاطب المكان ويربط الجغرافيا بالنص، فى وحدة درامية مثلت سابقة فى الأعمال الفنية الليبية المعاصرة.
المسلسل عرض على شاشة (218.TV) التي أنتجته للجمهور المغاربي فى شهر رمضان، حيث جمع مؤلفه ومخرجه (نزار الحرارى) بين الفانتازيا والتقنيات البصرية، وتعمد التركيز على مسألة التنوع والغنى الثقافى فى المجتمع الليبى، وهو تنوع تعكسه الثقافات والأعراق ويبرز فى متغيرات الشخوص والأماكن، من خلال أحداث تقترب بالمسلسل نحو رسالته الجدية التى تظهر فى بانوراما الأحداث والوقائع والإسقاطات المعززة بالحبكة الدرامية، وقد استعان كاتبه بشخصية (السيفاو) التى تتولى سرد الوقائع وربط الأحداث فى (السيرة العامرية) التى تنتقل من زمان لزمان، حيث يعمد (السيفاو) إلى السفر بالزمن ليحكى السيرة كما يراها هو ويغوص فى ثنايا الرحلة التى قادته لأمر غامض وسر غريب لن نعرفه إلا عند نهاية الرحلة، لتزداد عوامل الجذب للمشاهد، حيث يستنطق الراوى المكان ويسائل التاريخ ويحاكى الواقع فى ثلاثية مترابطة وشيقة جذبت المشاهدين عبر الحلقات.
وقد استحوذ مسلسل (السيرة العامرية)، الذي يحكي تاريخ ليبيا المعاصر، على نسب عالية من المشاهدات للأعمال الدرامية خلال شهر رمضان، ليتصدر (تريند) مواقع التواصل الاجتماعي داخل ليبيا وتونس وجذب إليه الجمهور الجزائري الذي عبر عن إعجابة الشديد بالعمل لجعلها في صدارة مشاهداته لدراما رمضان 2022، وهذه الصدارة لم تكن وليدة الصدفة، حسب ما صرح به مؤلف ومخرج العمل (نزار الحراري) بل نتاج مجهود وقصة درامية محبوكة مستوحاة من حقبة خمسينيات القرن العشرين، وأحداث جسام كونت المخزون الاجتماعي الذي يعيشه الليبيون حتى الآن، رغم ظروف الحرب والدمار الذي لحق بهذا البلد العربي في ظل سيطرة الجماعات الإرهابية على مفاصل الحياة التي حولها لمستنقع كاد يخرج ليبيا من التاريخ.
والتوثيق الدرامي في (السيرة العامرية) كما شاهدت حلقاته التي تتمتع بأداء تمثيلي من جانب فريق عمل احترافي وعلى درجة عالية من المسئولية، يسرد سيرة ترويها شخصية المحامي (السيفاو بن عامر)، ورغم صعوبة العيش في مناطق أكثر وعورة على مستوى الجغرافيا والتاريخ إلا أنها جاءت بشكل جذاب وجديد على الدراما الليبية، وهى قصة أسرته التي هاجرت من قريتهم الأم (قصر الخوابي) خمسينيات إلى طرابلس، بداية الرحلة صعبة مليئة بالإثارة والغموض الذي لم تتكشف مفاتيحه إلا في نهاية المسلسل لمزيد من التشويق، وتستمر أحداث هذه السيرة لتقود أبطال العمل إلى أحداث وإسقاطات تمزج الماضي بالحاضر، ليأتي المسلسل كدراما تاريخية يتوقف عند حقبات تاريخية مختلفة وصولا إلى (حي الأكواخ) ، بما يعني أنه يحاول الخوض في مسارات تاريخية وسياسية واجتماعية من خلال عوائل وشخصيات تصنع الأحداث المتلاحقة التي ينتظر أن يكون لها جزء ثان في رمضان 2023.
ويبدو لي من خلال المشاهدة – رغم بطء الأحداث في الحلقات الأولى – أن الغرض من المسلسل هو سرد سيرة مليئة بالرمزيات بشأن الصراعات والمشكلات الخاصة بكل الفئات والجنسيات التي وجدت في ليبيا، خلال هذه السنوات، استخدم فيها (الحراري) مؤلفا ومخرجا النص الشعري والسردي في الرواية، بهدف مخاطبة العيون والآذان بالنص الشعري الذي يسير مع المشاهد فيخلق ترابطا قويا، ويذكر في القت نفسه بالواقع ويستحضر التاريخ في حبكة غير مسبوقة في الأعمال الفنية الليبية، ولعله يبدو ملحوظا أن منذ سقوط ليبيا في الفوضى بعد الاحتجاجات التي أسقطت نظام معمر القذافي عام 2011، والدراما الليبية تهتم برصد ملامح المجتمع وجذور المشكلات التي تسببت في تشتت كلمة أبنائه خلال الأزمة، إضافة إلى استعادة أحداث التاريخ الليبي للاستفادة من دروسها، ومنها هذا العام مسلسلي (السرايا، وشط الحرية)، وربما يأتعي لهما حديث آخر سوف أتناوله فيما بعد.
وأستطيع القول بأنه مما لاريب فيه أن جيلا جديدا من الموهوبين الليبيين قد شرع يشمر عن سواعده ويميط اللثام عن ترسانة أفكاره برباطة جأش وبقدر لا يخلو من الإبداع والجرأة وهؤلاء سواء أكانوا شعراء أو روائيون أو صحفيون أو منتجون مثل قناة (218)، لاغرو بأنهم استطاعوا تمزيق حواجز الخوف وتجاوز محطات الارتباك والقفز نحو آفاق بعيدة متحصنين بأقلام يقطر يراعها صدقا وحرية، والمتابع والمهتم يلمس بوضوح النقلة النوعية للدراما الليبية وما شهدته شاشاتنا المحلية من زخم وتنافس فبتنا نرى أعمالا تلفزيونية ليبية تحدث ما تحدث من الجدل والنقاش والتباين في التقييم ووجهات النظر ولعهدنا أنه معطى مهم ومؤشر مضيء يمكننا من حتمية الرهان على ما هو آت حتى بعض تلك الأعمال ذات الجودة الضعيفة والرديئة أحيانا وجودها ضروري كي يتحقق التوازن المطلوب.
ولا شك أن الزمن كفيل بالغربلة فضلا عن كون تلك الدراما تعبر عن واقع راهن تفسخت فيه الأخلاقيات العامة وانحدرت منزلة الذائقة للحضيض، وخلال شهر رمضان المبارك لعام 2022، جاءت (السيرة العامرية) لتستدرج المشاهد من أولى حلقاته لدوامة من الشجن أثرى بها حنايا الوجدان وأعاد ثقة المشاهد للعمل الدرامي الليبي، ولعلها من المناسبات النادرة أن يعكس عملا ما هموم الإنسان الليبي على مرآة الشاشة لكيتشف المتلقي حجم هويته الممزقة على شاشة التلفزيون، ولاشك بأن خلف هذا الإنتاج الدرامي الفذ من جانب قناة (218)، بصيرة واعدة شكلتها رؤية الكاتب والمخرج الشاب (نزار الحراري)، فقد أفلح هذا الطبيب وإلى حد ملموس في وضع مشرطه على مواطن الجرح وتقحياته المزمنة.
نزار الحراري أثبت في السيرة العامرية أنه يمتلك تجربة خصوصيتها وفرادتها مبكرا، وها هو ذا يبرهن على أنه ابن أصيل لبيئته بكل تعقيداتها وتاريخها الملتبس بالضباب، فهو القارئ النهم الذي درس علوم الطب ومارس العمل الصحفي يعلن عن ولادته الحقيقية والناضجة في هذا العمل الناضج جدا، وقد عبر هذا الحوار عن فهم ملامح تجربته الإخراجية والكتابية، وربما ذلك ناجما عن أن (الحراري) يكتب المقالة الأدبية والقصة والسيناريو، نشر نتاجه الأدبي والصحفي في عدة صحف ودوريات ومجلات محلية وعربية، أشرف لفترة على إدارة تحرير صحيفة (الكتاب)، وحصل على جائزة أفضل كاتب ليبي لعام 2013م وعلى جائزة صحيفة الحياة اللندنية عام 2014م.
ولتأكيد موهبة (الحرارى) الفنية المغايرة قبل أيام كرمه (بيت شباب الزاوية)، حيث قام بكتابة وتأليف وإخراج باقة من الأعمال والمسلسلات التلفزيونية منها (كيخ لاند)، و(فيه ما ينقال) بجزئيه الأول والثاني، و(هدرزة)، بالإضافة لمجموعة من الأفلام الوثائقية، وأخيرا مسلسله (السيرة العامرية)، الذي قال عنه: (نص السيرة العامرية كان بالأساس قصة سبق وأن نشرت في مسابقة عربية حيث نال الترتيب الأول برفقة مجموعة نصوص أخرى قمت بكتابتها عام 2014م، فمنذ بدايتي في الكتابة لطالما خالجني طموح وهو أن أتصدى لكتابة عمل درامي يلخص الحياة المعاصرة في ليبيا والتاريخ المعاصر بشكل روائي بعيدا عن المباشرة والسطحية في الطرح لتتفتق فكرة السيرة العامرية التي تدور كل أحداثها تقريبا وشخوصها مستوحاة من خيال الكاتب انطلقت بها كقصة ثم عملت على تحويلها إلى نص درامي كسيناريو مقسم على أكثر من جزء، ونأمل أن نكون قد وفقنا في إيصال الهدف الرئيس من هذه القصة المتمثل في طرح التاريخ الليبي المعاصر في إطار درامي وبصري ثري يوصل رسالة أو فكرة معينة للأجيال الجديدة سواء في ليبيا أو لغير الليبيين للحياة الاجتماعية في فترة الخمسينيات والستينيات ومدى ارتباطها بالواقع المعاصر، فعبر عشرات العقود ظهرت الكثير من الأسئلة التي لم تتم الإجابة عنها بعد ما جعلنا بالتالي ضحايا لهذه الأسئلة.
الرؤية الأساسية في مسلسل (السيرة العامرية) – بحسب الحراري – كانت صناعة قصة تحتوي على عملية الإبهار البصري تتضمن حبكة مغرية تدفع المشاهد لتتبع أحداث وحلقات العمل، هذا من ناحية ومن ناحية ثانية حاول أثناء ذلك أن يمرر في الخلفية المحطات التاريخية الكبرى في التاريخ الليبي المعاصر كمرحلة الاستقلال وأحداث تزوير الإنتخابات في فبراير عام 1952، وما جرته من تداعياتها بدءا بنفي الزعيم الراحل (بشير السعداوي) بالإضافة لبعض الأحداث الأخرى مثل اكتشاف النفط وأثره على التركيبة المجتمعية وصولا لأحداث الأول من سبتمبر عام 1969م ومن خلال هذا التتبع المطرد للوقائع حاول أن يصير من الدراما جسرا يقود التاريخ وليس العكس، فالأولوية كانت دائما لعملية الحبكة الدرامية حرصا منه على أن يظل المشاهد في حالة شغف وتشوق مستمرين لمتابعة الحلقات اللاحقة.
ويضيف (الحراري): هى بالمناسبة ليست تركيبة تقليدية حتى على صعيد الدراما العربية كأن يكون بها عقدة مبكرة تسير الأحداث ثم ينطلق الكاتب لفك هذه العقدة ووضع حلول لها بالتدريج، فقد تبنيت خطين متوازين ما بين الماضي والحاضر واللعب بينهما وصناعة النقلات لم يكن سهلا أبدا، ويركز على أن الدراما هي الأساس لكن في الخلفية ثمة أحداث تاريخية مهمة لابد من تمريرها وإيصالها للأجيال الجديدة وللمشاهدين بوجه عام، نعم للحدث التاريخي تأثيروبقوة مع الأسف على معطيات ونتائج الحاضر وذكرتها على لسان شخصية الراوي (السيفاو بن عامر)، الماضي يتحكم في الحاضر والمستقبل في ليبيا، ونحن عجزنا عن التخلص من عبء الماضي بجميع تركيباته التاريخية والاجتماعية حتى الاقتصادية منها، للآن بلد كليبيا لازال تحت عبء اكتشاف النفط وتحت عبء التركيبات الاجتماعية المعقدة والتركيبات الجهوية والقبلية التي بدأت بالتشكل في أوائل ومنتصف القرن المنصرم، ولذلك أعتقد بأن التاريخ لازال يُسيّر الحاضر الليبي كل ما أتمنى ألا يسير المستقبل.
جدير بالذكر أنه قد شارك في (السيرة العامرية) الممثلون (محمد عثمان، واصف الخويلدي، نضال كحلول، سند تنتوش، خدوجة صبري، جميلة المبروك وذكرى يونس)، بالإضافة للمسرحي الكبير (أحمد إبراهيم)، مع ظهور مميز للممثلين التونسيين (كمال التواتي وأحمد الحفيان) الذي مثل وجودهما في العمل الفني إضافة لافتة، مع الخصوصية والتقارب الكبير في اللهجات وجغرافيا المكان بين البلدين، وتولى المخرج نزار الحراري كتابة وإخراج العمل الذي استغرق منه عاما كاملا بين التحضيرات وإعداد الشخصيات واختيار الملابس والأزياء ومعاينة الأماكن التي تحاكي الوقائع التاريخية، حيث صورت كل مشاهد العمل في (تونس) نظرا لقربها من البيئة الليبية، بمشاركة أكثر من 50 ممثلا وممثلة، قضوا عاما كاملا في تصوير مشاهد العمل الذي تفاعل معه الجمهور في دول المغرب العربي كله وليس ليبيا وحدها.