بقلم الفنان التشكيلي الكبير : حسين نوح
علي فترات متباعدة تنتج لنا الحالة الإبداعية في معظم المجالات الفنية مبدعين حقيقيين يعرف قدرهم الكبار ويحتفي بهم المدركون لعظمه التفرد والمهنية والموهبة الحقيقية، هكذا تعودنا خلال التاريخ الفني المصري من بدايات القرن العشرين ومن قبله، واليوم اتحدث عن الإخراج السينمائي والتليفزيوني فحين أتابع عملاً فنياً وبعد عمر طويل من تعامل ومشاهدات لعظماء مصر والعالم ومتابعة بشغف للسينما العالمية وبحث ودراسة وملاحظة كانت واعية للحاله العامة من الإبداع المصري وما يحدث فيها من عدم تباين وقليل من فرز وقليل من نقد موضوعي غير انطباعي.
تزداد سعادتي كثيراً حين أشاهد مخرجاً واعياً بحركة الكاميرا واختيار حجم اللقطة ومَوضع الكاميرا ومدرك لمعني ودلالة الكادر ومتي يكون التوظيف الحقيقي للإضاءة ومصدرها وتأثيرها واختيار الديكور من وعي وثقافة من بداخله، فلا يجوز مثلاً أن يكون الديكور فقط لمجرد إظهار جمال أو ثراء الإنتاج أو شقاوة المخرج أو مهندس الديكور، فكثيراً ما يصدمني أن أجد ديكور شقة نجمة العمل قريب من محلات الأحذية أو صالونات التجميل، فقط ألوان بغبغانية وبلاستيكية وليس لها أي علاقة بثقافة الشخصية أو مستواها الاجتماعي في الدراما وتلك من مهام المخرج المهمة، فأحياناً أشاهد أعمالاً يكون دور المخرج فيها فقط الصوت العالي وهو ينادي (أكشن) ويجلس بعدها لينظم دخول وحركة الممثلين كي لا يصطدم أحدهم بالآخر، ويتحول إلى عسكري مرور طيب أكثر ما يشغلة استغلال وجود الشمس ليزداد حجم إنتاجة اليومي ويرضي عنة المنتج.
تلك مقدمة كي أتحدث عن مخرجة أراها من أكبر مكاسب الوسط الفني السينمائي والتليفزيوني، أتابعها من سنوات وكما أتابع واستمتع بعبقريه كبار المخرجين أمثال (ألن باركر وأنطونيوني وكيرو ساوا الياباني ومارتن سكورسيزي)، و(يونج جون هو) المخرج الكوري الحائز علي الأوسكار في أمريكا عن فيلم )الطفيليين( أستمتع جدً بذكاء ووعي (كاملة أبوذكرى) منذ (سجن النساء) وهى تنطلق إلى الأمام مروراً بفيلم (ملك وكتابه، العشق والهوي، وواحد صفر، ويوم للستات)، ثم في الدراما التليفزيونية (بنت اسمها ذات، سجن النساء، واحة الغروب)، والكوميديا الرائعه (بـ 100 وش)، ثم (بطلوع الروح) الذي أقف أمامة الآن متحققاً من تطور وتألق القديرة ( كاملة أبو ذكري).
هذا العمل أتوقع أن يكون بصمة في تاريخ الإبداع للمخرجة فمن اختيار الورق الواعي للمبدع (محمد هشام عبيه) إلى أماكن التصوير ووضعية الكاميرا ومتي تقدم الضياع وتأخذ اللقطه من أعلى ومهارة عبقرية في الكادرات الواعية واستخدام (البيج كلوز) لتأكيد قيمة ما يقال ليصل للمشاهد والاهتمام بالتفاصيل والموسيقي واختيار الكاست (نجوم العمل) مثل (منه شلبي) بعيونها المليئه بالشجن والمعبرة وهى من أهم أدوات الممثل، فكما (سالي فيلد وآل باتشينو وأحمد زكي وزكي رستم وسعاد حسني وأنطوني هوبكنز) كانت منه شلبي تعبر في كل اللحظات عن مشاعر وأحاسيس (روح) الزوجه المخطوفة والمصدومة في زوجاً مُضللاِ (أكرم / محمد حاتم).
وكان اختيار النجمة (إلهام شاهين) لدور أم جهاد وتقمصها الواعي للشخصية وكيفية الحركه وطريقة الخطوات تقترب من الطريقة العسكريه وذلك منهج (ستانسلافسكي) فهي بقناعتها وموقفها المعلن القوي داعماً لصدق الأداء مخلوط بوعي النجمه بمدي خطورة الدواعش وأفكارهم العقيمة فتوحدت وذابت مع الشخصيه بأداء مبدع وأتعرض هنا لمشهد عبقري في الحلقه (12) للنجمة إلهام (أم جهاد) وهى تطلب الزواج من عمر في أداء نسائي يغلفه كبرياء قائدة للواء الخنساء، فعلاً قديرة ومبدعة.
ويؤدي بإبداع أحمد السعدني في أحسن وأعظم حالاتة في التقمص والمعايشة المدركه لمكنون الشخصيه المركبة، ثم نري كيف استخدمت المخرجه (البيج كلوز) اللقطه الكبيرة وهى تركز على وجه (أبو أسامة)، وهو يخرج الوعود الكاذبه بالجنه ويستقبلها (أكرم ) في (بج كلوز) على أذنه لتأكيد أن بعض الكلمات قبور كما قال عبد الرحمن الشرقاوي، وأضيف بل وبعضها ضلال يقذف به في أذن الشباب مجرد وعود للحالمين.
هذا العمل تعرض إلى قضية نحن في أشد الحاجة إلى طرحها حتي يستفيق بعض الشباب الحالم والمضلل بكلمات وأوهام معسوله، وقد شاهدنا كيف يستقبل شاب في سن العشرين خبر اختياره للاستشهاد وبكل سذاجة كيف كانت سعادته وهو ذاهب منتحرا، ولكنه الضلال والكذب في سبيل تحقيق مآرب خسيسة نتيجتها حرق وتدمير لأوطان وتشريد للنساء والأطفال في سبيل وهم كاذب.
ومشهد آخر عظيم حين يتحدث محمد حاتم (اكرم) في منزلة وقد أعطته (روح) ظهرها رفضاً لأفكارة ثم تعتدل محاولة توجيه النصح في محاولة بائسة ورافضة أفكاره وتسأله بعيون حانية مستفسرة: (انت مصدق نفسك)، ومرة أخري تخبره أنها لن تسامحه على ما فعله بابنه وزوجته وتحاول أن تنقذ أسرتها، ولكن عبثا فالشاب قد تم تجريف عقلة بأفكار كاذبه من خلال (عمر) أو (أبو أسامة) الشيخ الداعر الذي نري من خلال تصرفاته أنه ومنذ الجامعة يضع عينه علي زوجة صديقة محاولا ومتلصصاً ومفتوناً بها.
إنه مظهر المخادع وضلال المتاجرة بكلمات مثل الجهاد والشهادة ويكشف لنا العمل بمهارة ووعي كذب ما يدعون أن ارتداء الملابس الإسلامية الشكل انما تخفي أحيانآً تحت طياتها فجوراً واطماعاً ومآرب خسيسة وحيوانية غير إنسانية تصل إلى خيانة العرض والأوطان وكيف لا فقد أرسل عمر صديقه أكرم إلى الجهاد المزعوم، وأري أن محمد حاتم قدم في هذا العمل أداء واعيا ومسيطرا على الشخصيه يضعه بين مصاف النجوم الكبار.
وقد قدمت القديرة (كاملة) في العمل ممثل قدير هوالفنان (جلال العشري)، فالرجل تيب وصوت وأداء يستحق كل الاهتمام فقد قدم شخصية (الشيخ نصار) بأداء ملفت ومتمكن واختيارة للدور موفق جداً، ثم التنازل التام للنساء جميعاً عن المكياچ واختيار الملابس وتحريك المجاميع في جو نشعر وكأننا في واقع بكل تفاصيلة وتختلط السيارات المدججة بالأسلحة مع الخيول التي يعتليها البعض تقليداً لفروسية رجال الخلافة وكذبة الدولة المزعومة وتأكيد صراع الماضي والمرتد ضد الحضارة والحداثة وأعمال العقل.
ثم في الحلقه (14) في مشهد عبقري، فبعد أنا استحوذ عمر علة روح وأنقذها من القتل وبفتوى وأصبحت من السبايا وعاد بها إلى منزله محققآً مراده، وفي أداء مسكون بوعي ممثل موهوب فقد أخذ عمر يتشمم شعر روح ويتأمل ملامحها في أداء مهووس متذكرآً مدي صدمته حين رفضته روح وهو يحاول التقرب منها معلنا عن حبه أيام الجامعه .. كثير من التناقضات تعايش معها أحمد السعدني بكل الوعي والصدق والمهنيه في حراسة المبدعة القديرة الواعية كاملة أبو ذكري.
ثم ننتقل لمشهد الهروب لـ (روح) ومن معها بعد أن انهارت وتداعت وتهدمت الرقة، بل ووهم ما يعيشه المضللون، إنني أمام مخرجه أرفع لها القبعة في نوع من الأعمال الصعبة في التنفيذ ويدرك ذلك كل من يعمل في المهنة، أعجبت جداً بالنهايه الذكيه المفتوحة، فداعش مازالت تتوغل في محاولات بائسة وأمثال أكرم متواجدون علي فترات يظهرون، واختيار أن تذهب روح بعد جحيم الدواعش إلى لبنان هى في تلك المرحلة لا تملك إلا التفكير بالخروج مع ابنها المريض إلى بلد تستطيع أن تعالجه، وتتواصل مع من تريد ومعها نور الصحفي المتخصص في نقل مهازل الحروب جرائم الدواعش مسجلاً لحظة إعدامها واختيار اسم (نور) للصحفي دلالة لدور تلك النوعية من الصحافة التي تنير للبعض وتسجل.
نحن أمام عمل كامل يؤكد أن لدينا معظم مفردات العمليه الإبداعية الدرامية في كل المناحي، فهل لنا أن ندرك قيمة الإخلاص والمهنيه والوعي، وأن الفنون ليست للترفيه فقط بل لإعمال العقل وغرس قيم الولاء ونهاية الشر وفلاح الصدق وإعمال العقل.. شكراً لكل من شارك في هذا العمل الذكي والصادق والذي جعلني أتابعة وانتظرة بشغف.. شكراً نانسي عبد الفتاح مديرة التصوير وشكراً تامر مروان الموسيقي التصويرية .. مصر تنطلق ورائدة وتستحق فنون واعية.