بقلم الأديب الكبير : سامي فريد
بدأت هذه الحكاية وبدأ معها سطوع نجم عبدالرحمن الأبنودي برسائل كان يرسلها الأبنودي من الصعيد الجواني من قنا إلى مجلة (صباح الخير) وتحديدا إلى الشاعر صلاح جاهين الذي أعجب بهذا النوع الجديد من كتابة الشعر بالعامية، فكتب في أحد أعداد صباح الخير ردا على الأبنودي كان أهم ما فيه دعوته له للحضور إلى القاهرة التي تفتح له ولأمثاله من أبناء مصر ذراعيها مرحبة.
قرأ الأبنودي رد صلاح جاهين على الرسالة واستخار الله وركب القطار في طريقه إلى القاهرة لعله يجد فيها مستقبله ومستقبل ما يكتبه وكانت الأحلام تلعب به بين فرحة النجاح أو أحزان الفشل.
وفي القاهر يلتقى الوجه الجديد عبدالرحمن الأبنودي ابن الست فاطمة قنديل أو (فطنة جنديل) ما ينطقها.. وفي القاهرة التقى ببعض زملائه ومعارفه في أم الدنيا مصر.. وكان أهمهم (أمل دنقل) الشاعر الكبير وكان مثل الأبنودي يبحث عمن يفهم شعره ويتحمس له ليعرف طريقه إلى النشر.. كما التقى الأبنودي بثالث الثلاثة القاضي والمبدع الرائع يحيى الطاهر عبدالله.
إلى مقهى (ريش) ذهب الثلاثة.. وإلى جريدة (المساء، والمصور والأخبار) بحثا عن أي نافذة أو صحفة للنشر.
عن هذه المرحلة من حياته ومشواره بحث عن النجاح .. أو بحثهم جميعا عن فرصة تصعد بهم إلى سطح الحياة الأدبية والثقافية في القاهرة.
يقول الابنودي عن هذه الفترة: أنها ورغم إنها كانت فترة من الفقر (والصياعة) لكنها أيضا كانت فترة مشحونة بالعمل الدءوب والجهد ومواصلة النهار بالليل، أما عن حياتهم وكيف كانوا يعيشون فيقول: إنهم كانوا يوما يقضونه عند فلان بلدياتهم أو صديقهم ويوما آخر عند علان أو عند صلاح جاهين، وكان يحيي الطاهر من المترددين على مجلة (المجلة) التي رأس تحريرها الأديب والقاصي الكبير يحيى حقي الدبلوماسي والسفير السابق.
واتفق الثلاثة عما سيركزون نشاطهم فيه.. وكان القرار أن يحبس الأبنودي نفسه ليكتب من أشعاره وأغانيه ما جاء من أجله إلى القاهرة.. وكانت النتيجة أنه وفي ظرف أسبوع واحد كتب الأبنودي ثلاث أغنيات كانت أهمها أغنيته جديدة فرح بها صلاح جاهين وقرر مساعدة الشاب عبدالرحمن للدفع بها إلى أحد الملحنين لتأخذ طريقها إلى من يغنيها وتذيعها الإذاعة فيبدأ مشوار الأبنودي مع النجاح.
عرض الأبنودي في البداية على الفنان الملحن منير مراد الذي قرأها أمام صلاح جاهين ثم أعادها إليه قائلا: (ايه ده يا استاذ صلاح.. أنا مش فاهم حاجة خالص.. دا مش لوني أبدا)، ثم يضيف معتذرا: (يعني ايه الليل بينعس على البيوت وعلى الغيطان.. ومش عارف مين اللي واقفة تحت الشجرة تاكل البرتقان؟!).
وكان منير مراد معذورا فيما قال.. فالكلام جديد وغريب فيه الحب ممزوجا بالريف والسماء والبدر والحب العفيف البرئ ودهشة العاطفة المتفجرة من الصعيدي ابن الجنوب.
ولم يندهش الأبنودي وإنما كان رده: (هو طبعا معذور دا راجل بيعمل أغاني خفيفة وماشي وناجح مع شادية وهى صوتها ماشاء الله مطاوعه)، ولم يكن الأبنودي بالطبع قد عرف أن منير مراد كان قد فرغ من فيلمين لاقا نجاحا مع شادية ومع محمد التابعي كبير الرحيمية.. أحدهما باسم (نهارك سعيد)، والثاني باسم (أنا وحبيبي) مع زينات صدقي وعبدالسلام النابلسي، أما الفيلم الأول مع القدير سراج منير وميمي شكيب ومحمد الديب ونعيمة حنفي.
قال الأبنودي: يا جماعة أنا أولا عاوز اللي يغنيها الجدع ده اللي بيجول يا أم الطرحة معطرة.. ياللي صابحة مبدرة اللي بتذيعها الإذاعة .. وعاوز ملحن صعيدي زيي.. مثلا أجول الأستاذ عبدالعظيم عبدالحق.. هو حيفهمها وبإذن الله حتكون وش السعد على الجميع.
وسأل الابنودي عن محمد رشدي أين يجده فقال له بعض الموسيقيين من الوسط الفني إنه قد حدثت له حادثة كبير ماتت فيها المطربة نادية فهمي يوم أول سبتمبر عام 1959، وكانوا يقولون أن صوتها كان امتدادا الصوت أسمهان وهى التي كانت تغني أحيانا بعض المقاطع في جمل صغيرة مع فريد الأطرش في فيلم (آخر كذبه) أو مع محمد فوزي دون تحقق النجومية الكاملة.
ماتت نادية فهمي في الحادث وأصيب محمد رشدي بكسور مضاعفة في ساقية وجروح جعلت من وجهه (شوارع)، حتى أن رشدي كان ينظر إلى وجهه بعد خروجه من المستشفى ويبكي قائلا: (يا ربي الحكاية كانتش ناقصة! هو في مطرب يطلع يغني ووشه شوارع كده؟!).
وظل محمد رشدي يعيش في حالة شديدة من اليأس والاكتئاب رفض معها كل شيء.. فلا غناء ولا إذاعة ولا أي رغبة في أي شيء من الحياة.
ويحكي الأبنودي من أول لقاء تم بينه وبين محمد رشدي عندما وصفوا له أين يجده.. وكان اللقاء على قهوة الآلالتية أو قهوة (العوالم) كما سماها الأبنودي عندما سأل عن الاستاذ رشدي فأشاروا له إلى رجل يجلس وحيدا حزينا في نهاية القهوة، يقول عنه الأبنودي انني ظننت للوهلة الأولى أنه إنسان (متشرد) وليس فنانا ومطربا، كان شعر ذقنه غير حليق وكذلك شعر رأسه.. ولم تكن حتى ملابسه تليق به، وسأله الأبنودي.. حضرتك الأساذ محمد رشدي؟
ورد رشدي بصوت كسير وحزين: أيوه
قال الأبنودي: طب جوم معايا.
ورد رشدي: ما اقدرش.. رجليا لسه بتوجعني من الحادثة، لكن الأبنودي أصر على ما يريد قائلا: جوم واتسند عليا وحتبجي بإذن الله كويس يعني مليح.
وسأله رشدي: هو مين حضرتك؟!.
قال الأبنودي: أنا اسمي عبدالرحمن الأبنودي وجاي لك مخصوص يمكن عشان ربنا أراد لك الخير.. جوم.
على فين؟
على الأستاذ دا عبدالعظيم عبدالحج.. تعرفه؟!
طبعا .. دا أستاذ كبير.
طب جوم.
وقرأ الأستاذ عبدالعظيم الأغنية.. وفرح بها وقال للأبنودي يساله : والأستاذ رشدي هو اللي حيغنيها؟
ورد الأبنودي: إن شاء الله
فقال عبدالعظيم عبدالحق: اختيارك في محلة.. إن شاء الله خير.. بس قولي ألاقيك فين لما أخلص شغلي؟.
وقال الأبنودي .. تلاجيني عند الأستاذ صلاح جاهين في مجلة (صباح الخير).
والتقى الثلاثة للاستماع إلى الأغنية بعد انتهاء الأستاذ عبدالعظيم من تلحينها.. اندهش الأبنوى: وأشرقت ملامح محمد رشدي وغناها بحب فرح له الملحن والمؤلف وتفاءل الجميع خيرا.
ومع بدايات العام 1964 ثم عام 1965 وأغنية (تحت الشجر يا وهيبة) ترددها مصر كلها وكأن وهيبة قد أعطت إجازة عاما كام لشارع الغناء والمصري حتى تأخذ هى راحتها الكاملة في الانتشار والنجاح، وينجح معها الأبنودي وينجح رشدي ويضيف عبدالحق نجاحا جديدا إلى صمته وصبره ونجاحه.