بقلم الإعلامية الكبيرة : هدى العجيمي
لم يكن الملحن الكبير بليغ حمدي هو الوحيد الذي اخلف موعده معي (كما ذكرت في مقالة سابقة) لكنني حصلت علي تسجيل تاريخي معه رغم ذلك، لكن نفس الموقف تكرر مع العندليب عبد الحليم حافظ عندما كنت أقدم في الإذاعة برنامج (الميكروفون مع) فقد اخترت ضيفا للحلقة وكان طبيبا مشهورا وجراحا كبيرا ماهرا، وكانت طبيعة البرنامج أن أختار ضيفا للحلقة هو بدوره يختار ضيوفا آخرين يحب أن يتحاور معهم، ولما سألت طبيبنا الكبير عن الضيف الذي يحب أن يتحاور معه ويلتقيه في هذه الحلقة طلب لقاء عبد الحليم حافظ وقال انه يعرفه والتقي به من قبل، وعندما اتصلت بالفنان الكبير أبدى سروره وترحيبه بالتسجيل مع الطبيب الكبير لأنه يعرفه ويعرف قيمته العلمية والاجتماعية وحدد لي موعدا للتسجيل معهما في منزله بالزمالك.
وعندما ذهبنا أنا والطبيب إلى منزل عبد الحليم وجدناه نائما و لا يجرؤ أحد من عائلته أن يوقظه، وهنا شعرت بالخجل الشديد أمام ضيفي الكبير ذي المكانة العالية والإحساس بالغضب والندم على أني وضعت ضيفي في ذلك الموقف الذي اعتبرته مهينا للضيف وللإذاعة أيضا، لكن ضيفي المحترم كان شخصا سمحا طيبا وواسع الصدر وحكيما، فعندما وجدني فى غضب وحزن شديدين قام بالتخفيف عني بكرمه وسماحته وقال (معلش ممكن نسجل في يوم آخر، وهذا وارد حدوثه فلا تحزني)، أما أنا وكنت قد احترقت غضبا لم أملك إلا كتابة رسالة بخط يدي وبأسلوب غاضب مع كثير من اللياقة التي علمتها لي التجارب وذكرت الفنان بموعده مع هذا الطبيب الكبير ومكانته العلمية وتركت الرسالة إلى أهل بيته وعدت الي مكتبي في الدور الرابع بماسبيرو لكي انهي بعض الأعمال وذهب الطبيب الي مستشفا ه في منطقة الدقي.
وبعد دقائق قليلة أجبت علي اتصال تلفوني فإذا به عبد الحليم يقدم لي أسفه الشديد ويعتذر، لكونه تناول أدوية معينة لمرضه وهي التي دفعته للنوم المفاجئ وطلب مني الاعتذار للضيف وأبدي استعداده للحضور إلى مبني الإذاعة وإلى مكتبي لتنفيذ تسجيل الحلقة لو وافق الطبيب الجراح، وما أن سمعت هذا العرض السخي المرضي حتي وافقت عليه فورا دون مناقشة وو عدته أن الطبيب سوف يأتي إن شاءالله لمقابلته والتسجيل معه فيمكتبي المتواضع، وهذا ما حدث فعلا عندما وافق الطبيب الكريم علي دعوتي وسجلنا حلقة (الميكروفون مع)، وأذيعت في البرنامج العام بالإذاعة.
لاشك أن قراءنا الشباب لا يتصورون الآن أن هذا من الممكن أن يحدث، وأن هناك أناس بمثل هذه الإنسانية و التسامح، لكن هذا ما حدث في الماضي الجميل، وغير هذه المواقف أيضا التي تستحق الوقوف أمامها بكل التحية والتبجيل ونقصها على كل الأجيال الحالية: لم تكن كل تسجيلاتي ومو اعيدى مع الضيوف بمثل هذا الإحباط، لكن كانت هنا نقاط ضوء كثيرة أسعدتني ويسرت أعمالي، ومنها ما حدث من الأديب الكبير الدكتور يوسف إدريس الذي يحسب له متابعة أجهزة الإعلام والظهور في برامج التلفزيون والاذاعة، فعندما كنا نحضر مؤتمرا أدبيا كبيرا وفوجئت به يطلب مني أن استضيفه في برنامج (مع الأدباء الشبان) بالطبع ليس كأديب شاب ولكن طلب أن أعد له لقاء مع مجموعة من الشباب من كتاب القصة والرواية لكي يتناقش معهم ويدور حوار بين جيلين حول الأدب والكتابة بصفة عامة.
عن ملابسات هذا الطلب الذي فاجأني وأسعدني ولماذا طلب الدكتور يوسف إدريس بنفسه أن يحل ضيفا على برنامجي: أتذكر أنه كان هذا اللقاء الذي جمع بيني وبين الأديب الكبير دكتور يوسف إدريس في مدينة بغداد أثناء انعقاد مؤتمر ثقافي كبير حضره كوكبة كبيرة من أشهر الأدباء العرب وعلى هامش المؤتمر أقامت بعض العائلات حفلات ساهرة احتفاء بتجمع الأدباء العرب، وفي حفل أسطوري كأنه من ألف ليلة وليلة دعينا كوفد ثقافي مصري إلى ذلك الحفل الذي تضمن الموسيقى والأغاني العراقية والشرقية الأصيلة إلى جانب العشاء الفاخر الذي أعدته الأسرة العراقية بكل ما تفتخر به من طعام عراقي متنوع وذوق جميل، وأقيم الحفل في هذا البيت العراقي على ضفاف نهر دجلة مباشرة دون أي عوائق أو حواجز، وفي أثناء تجمع الأدباء للدردشة في هذه الاحتفالية فوجئت بصوت الدكتو ر يوسف ادريس يتوجه لي بالنداء فانتبهت!. وإذا به يقول لي من فضلك ياهدي هل ممكن تستضيفيني في برنامجك مع الأدباء الشبان الذي سمعته ويسمعه الكثيرون؟، فضحكت وقلت من عيني يادكتور قال على أن تعدي لي لقاء مع مجموعة مختارة من الأدباء الشبان من كتاب القصة والروايه لكي أتناقش معهم فيما يكتبونه، وأتعرف على أفكارهم وقراءاتهم ونظرتهم للأدب والكون، وأسمع قصصهم.
في الحقيقة كانت دهشتي تفوق سعادتي وفرحتي بأن أحد نجوم الأدب الكبار هو الذي يقدم طلبه بأن يكون ضيفا على البرنامج وأنا التي كنت أجري وأهرول وراء الكبار حتى أحظي بموافقتهم على إجراء حوار واحد أو حتى كلمتين يتوجهو ن بها إلى الشباب.. طبعا شكرت الأديب الكبير الدكتور يوسف إدريس على هذا العرض المغري ووعدته أن يتم بمجرد عودتنا إلى القاهرة، وسجلت له بعدها قصة حياته في برنامج آخر هو (مشوار حياتي).