كتب : محمد حبوشة
لماذا اختفت الطبقة الوسطى من الأعمال الدراميا في رمضان وحلت محلها الطبقات الشعبية الغارقة في الفوضى والعنف والبلطجة، فضلا عن احتلال الطبقة المخملية قمة الهرم الدرامي لسكان الفيلل والقصور الذين يرفلون في النعيم .. ثم ترى من الذي يتحكم الآن في صناعة هذه الدراما المقرونة بالنجم الشعبي، أو (السوبر هيرو)؟
للإجابة علي هذا التساؤل لابد لنا من العودة إلى أصل الظاهرة، فقد ارتبطت ظاهرة النجومية التي تألقت بمصر في عالم المسرح والسينما منذ فترة الأربعينيات من القرن الماضي وحتي الآن بالتطور الاجتماعي والنمو الاقتصادي للطبقة المتوسطة التي عالجت قضاياها العديد من الأعمال السينمائية والمسرحية والتليفزيونية.. هذه الطبقة كادت تختفي من الأعمال الدرامية في رمضان بينما نجد لها وجودا قويا في دراما المواسم الموازية، خاصة أن شركات الانتاج هى التي أصبحت تتحكم في القضايا المطروحة.
بصراحة الطبقة المتوسطة بمصر منذ النصف الثاني للقرن الـ 19، كانت تحمل القيم والأخلاق وتري في نفسها مسئولية قيادة حركة التحرر الوطني والحداثة والتعليم والإبداع، وظل الحال كذلك طوال النصف الأول من القرن العشرين، حيث ظهر ذلك في العديد من الأعمال الفنية مثل فيلم (ليلي بنت الفقراء)، ثم فيلم (الأرض)، وفيلم (أفواه وأرانب)، وظل الحال كذلك طوال فترة السبعينيات والثمانينيات لنشهد أفلاماً أخري مثل (الكرنك، المشبوه، سواق الأتوبيس)، ومن بعدها سجلت الطبقة الوسطى وجودا حقيقيا في مسلسلات مثل (القاهرة والناس، ليالي الحلمية، نصف ربيع الآخر، الليل وآخره، الشوارع الخلفية، قصة حب، حارة اليهود) وغيرها من أعمال لاتسعفي بها الذاكرة الآن.
ولكن مع مرور الزمن تراجعت هذه الظاهرة في السينما والمسرح وجميع الفنون التعبيرية، مع سيطرة الموزع الخارجي علي الدراما التليفزيونية والسينما، حتي ظهرت ضوابط أخلاقية ورقابية جديدة تستجيب لشروط قنوات الخليج العربي، ومن هنا بدأت الطبقة المتوسطة تخرج من على الشاشة والمسرح بالتدريج ليحل محلها شركات إنتاج الدراما الكبيرة وهى الأقرب للمشهد الانتاجي خلال السنوات القليلة الماضية بتعميق الاستقطاب الحالي إذ أصبحنا نري البلطجية واللصوص من ناحية والأغنياء السذج من ناحية أخري.
وغياب الطبقة المتوسطة المصرية من المشهد ظل يباعد بينها وبين وجودها على الشاشة حتى جاءت مسلسلات (الطوفان، سابع جار، أبو العروسة)، حيث يحكى (أبو العروسة) عن أسرة مصرية بسيطة من الطبقة الوسطى، أب وأم وخمسة من الأبناء، يتعرض جميعهم لشتى مواقف الحياة التى تجعل من دوائرهم مادة لا تنفد من المواقف التى تنتظر أن تعرض على الشاشة حول المشكلات المثارة داخل الأسرة بين الآباء والأبناء، نظرا لاختلاف الأجيال والتطور الكبير الذى طرأ على المجتمع، وهو من بطولة الفنانين (سيد رجب وسوسن بدر ومدحت صالح ونرمين الفقى ورانيا فريد شوقى وأحمد صيام وصفاء الطوخى وخالد كمال، ويقدم مجموعة من الشباب فى مقدمتهم ميدو عادل ومحمود حجازى وأحمد عبد الله محمود وولاء الشريف ومحمد حاتم وأمانى كمال.
وتبدو روعة الكتابة فى (أبو العروسة) فى الحوار الجاذب الذى صاغه كاتب العمل (هانى كمال)، خصوصا فيما يتعلق باختلاف طريقة تفكير جيل الآباء والأبناء، وتناوله نموذجا جديدا لفتاة الطبقة المتوسطة التى تبحث عن الحبيب الزوج، فضلا عن علاقات معقدة لنماذج مختلفة من الشباب ما بين فقدان الذات والعمل والحبيب، فمنهم من يبحث عن الهجرة أو يحاول أخذ قرض لعمل مشروع، ومنهم أيضا من يفوته قطار الزواج وتتركه خطيبته، ما جعل أحداثه تعتمد على شكل الحياة اليومية، المليئة بالتفاصيل بين أفرادها، خاصة الذين تربطهم ببعضهم روابط إنسانية واجتماعية، لذا استهدف الطبقة المتوسطة فى مصر، والتى تعد الأكثر تأثيرا على المجتمع، حيث إنها تعتبر أساسه، فمنها من خرج من تدهور حاله وأصبح فقيرا، ومنهم من هو عكس ذلك وأصبح غنيا.
ولعل المؤلف قصد هنا أن الطبقة المتوسطة غنية بالأحداث القريبة من المجتمع المصرى الذى تعد غالبيته العظمى منها، فلذلك نجح المسلسل فى أن يلقى إشادتهم، ويجذب انتباههم، لأنهم وجدوا ما يعيشونه بشكل يومى فيه، خاصة أن تلك الطبقة مهمشة فى الكتابة، كما يبدو أيضا أن هنالك ملمحا مهما فى هذا المسلسل أنه جاء ليعيد للأذهان أخلاقيات الطبقة الوسطى، مع رصد حى للتغيرات التى طرأت عليها مؤخرا، ومنها أن كثيرا من الرجال يجهلون فن إرضاء المرأة أو صلحها، وهذا ما أبرزه (عبد الحميد) الذى جسد دوره الفنان القدير (سيد رجب) من خلال تشغيل أغنية تحمل ذكريات لهما، أو دعوتها للخروج أو حتى الثناء على شكلها وجمالها أو نصرتها على الأبناء فى بعض الأوقات.
ويمكن القول إجمالا إن مؤلف المسلسل نجح فى رصد التغيرات التي حدثت للطبقة المتوسطة وشكل البيوت المصرية واستطاع أن يعالج مشاكل الأسر وعلاقتها بأبنائها، وهى مشكلات لم تعد موجودة على الشاشة، وإن تم التحدث عنها يتم ذلك بفجاجة شديدة على الرغم من كون هذه الطبقة الحاملة للقيم، فكان من الطبيعى أن ينجح مسلسل (أبو العروسة) باعتباره عملا دراميا يجمع الأسرة كلها من أجل متابعته، كما أن أكثر شىء يركز عليه المسلسل هو التفكير بمدى وجود الله في حياتنا وكيف (ترمى تكالك على الله)، وهناك جملة قالها الفنان (سيد رجب) في المسلسل توضح هذا عندما سألته (سوسن بدر): من أين أتى بالفلوس ؟ فيرد: (استلفتها من ربنا لأننا عايشين بقية الشهر بالستر والبركة)، وليس قصد المؤلف هنا أن يعلم المشاهدين، ولكنه يوضح لهم من خلال المواقف لأن المسلسل به رقى أخلاقى، وعلى ذات القدر من البراعة.
والمشاهد لأعمال رمضان هذا الموسم الرمضاني لايرى وجودا حيا للطبقة الوسطى في مصر إلا لماما ضمن بعض أعمالنا الوطنية (الاختيار والعائدون)، رغم ما تعانيه هذه الطبقة من مشكلات تستحق تسلط أضواء كاشفة عليها في ظل دراما العنف والأكشن، ومن ثم يجب علينا عودة هذه الطبقة للمشهد مرة أخري لأنها تمثل عقل مصر من العلماء والأدباء والمفكرين والفنانين، أما البلطجية والفاسدون فقد أثروا في ظل الفساد، فلا يستحقون الظهور على الشاشات لتمجيدهم حتي كاد الناس في مصر ينسون من هو الشريف المحب لوطنه والمكافح من أجل رفعة وعزة هذا الوطن.
يا صناع الدراما المصرية: هنالك في حياة المهندسين والأطباء والعلماء والمفكرين روايات تحكي في الحب والغرام والانتصار على الصعاب والبقاء، وهؤلاء لا تتناولهم الأعمال الفنية الآن، ولقد أشار كثيرا من الباحثين والأساتذة الأجلاء إلي أن المجتمع المصري في القرن الـ 20 لم يشهد تميزا حادا وواضحا بين الطبقات البورجوازية والإقطاعية والطبقة العليا لأنه مجتمع متجانس، حيث أشار بعض الباحثين إلي وجود طبقة شعبية تندمج فيها الطبقة الفقيرة مع الطبقة المتوسطة، وبالتالي فإن من يصنع النجوم في عالم الفن هي الطبقة الشعبية في الأساس، وتشمل معظم الطبقات الموجودة في المجتمع المصري، وهي تمثل القوة الشرائية والمشاهدة.
أن الفن المصري في الدراما التليفزيونية والسينمائية قدم علي مر العصور مختلف الطبقات الاجتماعية وعبر عن مصالح الطبقة الدنيا في كثير من الأفلام والمسلسلات، وكذلك عبر عن الطبقة الوسطي وأيضا قدمت لنا طبقة ارستقراطية في كثير من الأعمال، وبالتالي فالفن المصري لم يترك طبقة دون أن يتحدث عنها أو يشير إليها، لكن يبدو أن شركات الانتاج الكبري أصبحت الآن هي من تصنع النجوم، ولم تعد الطبقة المتوسطة تقوم بصناعة نجوم السينما والمسرح والدراما التليفزيونية، حيث نري الآن رأسمالية جديدة بقيادة رجال أعمال من أصحاب شركات الانتاج الفني تتحكم في هذه الصناعة.
وظني أن مسألة صناعة نجوم السينما والمسرح والدراما التليفزيونية من عدمه ليست مرتبطة بطبقة اجتماعية بعينها، إذ أن المسألة مرتبطة بالكفاءة الفنية ومدي تحمس المنتج للنجم حتي في حال أن يكون هذا المنتج هو وزارة الثقافة، ومن ثم فالمسألة هنا غير مرتبطة بطبقة اجتماعية، ولكن مرتبطة بطرق الإنتاج الفني المختلفة، فضلا عن ترسيخ صورة البطل الأوحد الذي يقوم بتفصيل العمل على مقاسه الشخصي، لذا لجأ معظم أبطال الأعمال الدرامية الحالية إلى ورش الكتابة التي تلبي رغبتهم في الانفراد بالبطولة، وذلك من خلال تدخلات سافرة في الكتابة كي يبقى النجم وحده متصدرا قمة العمل الدرامي بغض النظر عن المضمون والرسالة.
المشكلة أن غالبية مسلسلاتنا الحالية تجنح في جوهرها إلى خلافات على أخلاقيات المجتمع وأمراضه الاجتماعية، ومنها مسلسل (فاتن أمل حربي) الذي حاول البعص أن يحمل الفن دورا ليس دوره في الأساس، فالفن وظيفته الأساسية والأولى هى الإمتاع، ويمكن بعد ذلك أن يحمل رسالة ويرسخ أخلاقيات، ولكن تلك ليست وظيفته الأساسية، ولذلك بالتحديد لم يحظ مسلسل (فاتن أمل حربي) باستحسان بعض الجمهور والنقاد على حد سواء، فالمسلسل عبارة عن كليشيهات تقترب كثيرا من السذاجة، ويحاول بكل جهده أن يزيح أفكار تتعلق بصحيح الدين جانبا حتى أنه نحت أشهر مشهد يرصد خلافات(فاتن) مع زوجها المتعنت، كل هذا حدث لأن صناع المسلسل رأوا أن واجبهم الأول هو تصدير رسائل إيجابية للمجتمع عن الأسر التي تنتمي للطبقة الوسطى، على سبيل تجديد الفكر الديني، لا أن يقدموا مسلسلا جيدا، وهذا بالتحديد هو ما لا يجب أن يفعله الفن، ولكن لا يوجد بيننا من يصغي سوى لصوت الفضيلة الزائفة والتي – قطعا – ليس لها أي علاقة بالفن.
وفي النهاية دخلت الطبقة الوسطى نفقا مظلما خلال السنوات الست الماضية، ودفع ارتفاع أسعار السلع والخدمات بنسب تزيد عن 100% إلى تراجع قدرة الأسر المصرية على توفير نفس درجة ونوع التعليم والصحة وخدمات الرفاهية لأولادها، والتي كانت توفرها لهم في السابق، وكل ما سبق كان متن حوار ممتد بين النخب المصرية وبين قادة التأثير على مواقع التواصل الاجتماعي، الجميع يتفق على أن ثمن الإجراءات الاقتصادية الأخيرة ستدفعه بالأساس الطبقة الوسطى وإن رفع الأسعار سيقود هذه الطبقة الضخمة في المدينة إلى السقوط في هاوية الطبقات المعدومة، وهذه يتطلب منا أعمالا تنويرية تتناول أحوال الناس ومعيشتهم الصعبة في ظل ظروف اقتصادية ضاغطة.
هكذا أصبح جيل الأبناء من هذه الطبقة في مواجهة أزمات لم يعتادها، فقد أصبحت الوظيفة بدخل 5 آلاف جنيه لا توفر له سوى حياة الفقراء، فنحن في نهاية فيلم نمثل (الموظفون في الأرض)، ووسط هـذه المفرمة الاجتماعية فإن الوجع سيكون قاسيا لأبناء الطبقة الوسطى الحالية للتمسك بمكانتهم وأنماط سلوكهم، وهنا يبقى يبقى علينا إنتاج أعمال درامية تعبر عن أوجاع الطبقة الوسطى التي أصبحت تتآكل على صخرة البلطجة والعنف.