كتب : محمد حبوشة
خالف عبد الرحيم كمال في (جزيرة غمام) ما كان معتادا عليه من تقديم أعمال تحكي عن حياة بعض الناس في قرى الوجه القبلي جنوبي مصر، واتجه لأجواء ساحل البحر الأحمر ليغزل قصة تجمع بين الرمز والخيال، يصبغها بطابع تراثي، حيث تدور أحداثها في زمن يعود لـ 100 عام، وفي قالب مثير تدور قصة بقرية صعيدية على ساحل البحر الأحمر، شرقي مصر، حول ما تنشره الفتن الداخلية والخارجية من صراع بين الأشقاء، كما يرويها المسلسل الذي يحوي في طيات أحداثه لمحات من عناصر التشويقوالإثارة في فتنة بالغة، ومنها أن الحياة في القرية الهادئة تتأثر بدخول وافدين عليها ويسهمون، إلى جانب الطمع في النفس البشرية، وخلافات بين الأخوة، في تحويل هذا الأمان إلى فوضى عارمة، ويغير الوافدون ملامحها وتراثها.
وقد اجتهد صناع (جزيرة غمام) على أن تعكس ملابس الممثلين والديكورات أجواء ما قبل 100 سنة، وهو ما يمنح العمل طابعا جذابا لما في العادات والملابس القديمة من حنين لدى المشاهدين، حيث قدم شخصية غجرية اسمها (العايقة)، تنتمي لقبيلة من الغجر من الذين يفدون على مصر من الصحاري ولهم حياتهم الخاصة، وتدور الصراعات على نيل حبها وهى تمثل غواية الدنيا، وهنا يأتي حوار عبد الرحيم كمال ليس مجرد كلمات للدراما على جناح الشعر والفلسفة، لكن في بعض الأحيان عبرة ومنهج حياة، حتى أن كل واحد منا في عصرنا الحالي بموجب تلك الأحداث التي تعكس الواقع المعاش يبحث عن إجابات شافية للعيشة والحياة والسياسة، ربما تبدو الكتابة مرهقة والأحدات معقدة لكنه يبقى هذا مسلسلا بديعا ومبهرا في لغته الدرامية التي تستحق المشاهدة.
لا أنكر أنني لم استسغ تلك اللغة في بداية الأمر، لكن مع تطور الأحداث والوقائع المذهلة وفك الطلاسم المعقدة بفضل أداء مخيف لكوكبة من النجوم على رأسهم (طارق لطفي) الذي برع في أداء دور الشيطان (خلدون) في تجلياته المرعبة عبر عيون تعرف مواطن الرعب ولغة جسد تقوى على ترجمة ما يدور في رأس الشيطان بسلاسة، فضلا عن فلسفة عميقة حول قضايا الحب والعاطفة من جانب (أحمد أمين) الذي نجح بأداء تراجيدي ناعم أن يأسر قلوبنا وعقولنا التواقة إلى تنقية النفوس ورأب صدع الفكر المتطرف الذي يكمن في نفس (محارب/ فتحي عبد الوهاب) وعناد (البطلان/ محمود البزاوي) وسيطرة (عجمي/ رياض الخولي) الذي يحاول جاهدا السيطرة على مقاليد أمور (الجزيرة) الغارقة في أعمال الغيبيات التي تكسو الحالة العامة عبر أحداث تتسم بالإثارة والتشويق، فضلا عن (محمد جمعة/ الشيخ يسري) في خنوعه ودعته للتفاعل مع صعف النفس البشرية.
في تواز تام بين السيناريو فائق الجودة من جانب المبدع (عبد الرحيم كمال) مع أداء خرافي من جانب طاقم عمل تمثيلي استطاع حسين المنباوي استخراج أفضل ما فيه من طاقة تمثيلية خاصة (وفاء عامر) في قدرتها البديعة، لكن (كمال) في جنوحه نحو الفلسفة قدم على طريقة السهل المتتنع قيم فكرية غارقة في الصوفية التي ينتمي إليها عقلا وروحا، وأدخلنا في عالم من الأسرار يحمل دلالات ورموز صوفية، لكن بأجواء الشخصية المصرية التواقة إلى الحب الإلهي وحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك عبر حكاية تبدو أسطورية في شكلها الخارجي، لكنها في ذات الوقت تقدم إسقاطا واضحا على واقع نعيشه حاليا في ظل غيوم وملابسات مرعبة، وربما شيئا من هذا القبيل قد أوقعني شخصيا في حالة من التشويش بين متعة المشاهدة ومحاولة فك رموز وطلاسم تعنى بالدرجة الأولى بالتشويق الفني الذي يجنح في عرض الحدث نحو الإطالة في بعض الأحيان، وهو ما أربك المشاهدين بداية الأمر وأنا منهم.
لاشك أني من محبي كتابات (عبد الرحيم كمال) الذي يحلق دوما في عوالم مغايرة لما اعتدناه في دراما هذه الأيام، فهو عادة ما يتحفنا بأعمال ملوءة بالألغاز، بحيث يجعل المشاهد في حالة ترقب وفضول وتساؤل حول ما يقصده من رسائل في طي دراماه فائقة الجودة، وها هو في (جزيرة غمام) يقدم لنا عالما خاصا جدا بحبكة درامية في سيناريو وحوار واحد يذكرنا بقصة سيدنا يعقوب، كما جاء في سيرة (الشيخ مدين) حكيم القرية الذي غادرها في الحلقات الأولى، وحكاية (الشيخ عرفات) التي تذكرنا بحكاية ظلم سيدنا يوسف على يد أخواته، وربما إذا دققنا أكثر في تصرفاته تجد فيها المقابل الموضوعي لشخصية (المسيح) عيسى ابن مريم، كما أنه عمد إلى عرض جوانب من شخصية الشيطان في صورة إبليس الرجيم (خلدون)، كما أنه لم ينسى أن يرمز لـ (العايقة) بغواية الدنيا، كما جسدتها ببراعة (مي عزيز الدين) التي أعادت اكتشاف نفسها في هذا المسلسل.
أجمل ما في هذا المسلسل الصعب في أحداثه الممتعة في تجلياتها وتقلباتها المرعبة تارة، وتارة أخرى قدما لنا (كمال) بمثابة واحة راحة وأمان مسكون بالحب والزهد، أكسبتها الموسيقى التصويرية طابعا جميلا للغاية، أنه يجمع كوكبة من النجوم أمثال (طارق لطفي فتحي عبد الوهاب، رياض الخولي، ومي عز الدين، وفاء عامر، عبد العزيز مخيون، أحمد أمين، محمد جمعة)، ومن إخراج حسين المنباوي، وقد بدت هنالك مباراة ساخنة في الأداء الاحترافي على نحو مغاير لكل أشكال الدراما المطروحة في كعكة رمضان 2022.
وقد لفت نظري في نهاية الحلقة (14) أن عبد الرحيم كمال أفصح عن كيفية سير الخطوط الدرامية متوازية حتى النهاية من خلال مشهد أعتبره (ماستر سين) العمل حتى الآن، من خلال لقاء حميمي بين (عرفات/ أحمد أمين)، والعايقة/ مي عز الدين) يكسوه المحبة .. محبة الروح رغم معرفته أنها تحلق في ملكوت الرزيلة، ومع ذلك أصر (عرفات) على بث شجونه للعايقة التي وقع في حبها رغما عنه، وعلى شاطئ البحر المالح يدور حوار من القلب للقلب المعذب ليقول معاتبا:
كيف الدنيا يا عايقة؟.
العايقة : الدنيا هى الدنيا تشارو لنا نطيروا عليه .. نقرب منها منلقوهاش!.
عرفات : ليه غبتي عني كل ده؟
العايقة : ما غبتش كتير.. انته عامل ايه؟
عرفات : عقلي صغير .. كل شوية يرجع يتيم.
العايقة : وايه اللي رجعك يتيم تاني.
عرفات : أيامي.
العايقة : متخليك في حالك ياولد الناس وتحل عن العايقة.
عرفات : ليه؟
العايقة : أنا صعبة ووحشة قوي ياعرفات.
عرفات : انت وحشة قوي .. أومال الجمال يبقى اسمه ايه؟
العايقة : الله يكرم أصلك .. وانته ايه اللي شايفه فيا حلو .. دا انت قلت انك انته الراجل العاقل في الجزيرة دي.
عرفات : لا يا عايقة انتي كلك جمال.
العايقة : كلي ؟!.
عرفات : كل أما أجي أقول فيك كلمة .. كلمة غزل .. ألقي روحي بتسبح ربنا .. بتحمده وتصلي على النبي .. ده كل اللي على لساني.
العايقة بصوت مبحوح : عليه الصلاة والسلام .. اسمع : انته تبعد عني خالص .. تحل عن سماي .. تخليك في طريقك وأنا في طرقي أحسن لك.
عرفات : والعلام .. قولتي حتعلميني وأعلمك.
العايقة بصوت متشنج : كبرت على العلام خلاص .. واللي كبرنا عليه حنموت عليه .. سيبني في حالي.
تدخل العايقة خيمتها متمتمة بكلمات بينها وبين نفسها : مالي ومال عرفات .. ومالي ومال القراية .. أنا (العايقة وصاف) .. النار مني لهيبة.
في تلك اللحظة الفارقة يدخل عليها (خلدون/ طارق لطفي) كالشيطان الذي يعرف كيف يسيطر على فريسته، وكأنه كان علم ما يدور في ذهنها أو سمع حوارها مع (عرفات) قائلا بصوت الواثق: ده ظني فيك يا بنت وصاف .. وعمرك ما خذلتيني.
العايقة : من يوم ما خدتني وأنا عيلة وأنا عرفاك .. انته الضلمة اللي حاكمل فيها باقي عمري.
خلدون : عمري خذلتك؟ .. مين لبسك .. مين لف بيكي بلاد الدنيا .. مين وعدته انها تبقي ملكة على جزيرة غمام وست حريمهم؟.
العايقة في استسلام غريب : انته.
خلدون : يبقى هاتي ايديك جلالتك واتفرجي على نفسك انتي وخلدون وطرح البحر .. كيف حنبقى حكام.
يخرجان على شاطئ البحر ثم يقول خلدون : أنا بس ليا طلب صغير قد كده.
العايقة : ايه ؟
خلدون بابتسامة ذئب بدأ يكشر عن أنيابه : عرفات.
العايقة : ما فضناها يا خلدون.
خلدون : لا ياروح قلب خلدون.
العايقة : متلفش وتدور يا خلدون .. أنا الدنيا ديقت خلقي وحدها.
خلدون : عاوزه يدوب يسكر .. يحبك حب عبادة .. أنا خلاص مش عاوز أفضحه .. بس كمان مش عاوزه يفضل عرفات .. عاوزه زي الناس .. زي طرح البحر .. يحب ويعشق .. ساعتها يبقى راح عرفات .. لا حيقدر يشق خيمي ويعدي ولا يطلع من باب مقفول .. ولا يقفل باب أوضته عليه .. حيبقى زيه زي يسري ومحارب والبطلان والعجمي .. ليهم في الدنيا حاجة .. وأنا بالحاجة دي عليهم ملك .. فهمتي، ولا قلبك تقل فهمك؟
العايقة باستياء المضطر : فهمت.
خلدون : أنا جبتك الجزيرة دي مخصوص علشان عرفات .. أيوه علشان عرفات .. لما لقيته بيقرب غيرت .. مش بس عليكي.. وعليه .. ده الصيد بتاعي أنا .. طول ما عرفات حي موجود خلدون يموت .. ولو مات خلدون يعيش .. ربنا خلقنا كده .. قبال بعض .. يا أنا يا هو!.
ويتضح لنا من هذا المشهد الكاشف للرسائل الغلف بها العمل، أن (خلدون) انتهز أن العايقة في حيرة من أمرها بعد لقاء (عرفات)، الذي نصحته بالبعد عنها، ليكشف (خلدون) عن أفكاره الشياطنية وفساد أخلاقه لبث سمومه تجاه أهم شخصية في الأحداث (عرفات) على مستوى الروح والفكر الصوفي الذي يسمو بالنفس الإنسانية، المتجذر في داخل نفسه الراضية بقسمة القدر، لتبدو رسائل عبد الرحيم كمال في أوج تجلياتها الصوفية النورانية التي تهدف في جوهرها إلى تنقية الفكر المتطرف الكامن في الروح الشريرة التي تلحق في سماء تعلو البحر في زرقته وصفائه لتعكر صفو الأجوء الملبدة بغيوم سوداء قاتمة من الأساس، ومنن هنا يرسم مستقبل الأيام القادمة في (جزيرة غمام) ليغرقها في وحل الرزيلة التي يراهن عليها في تفكيك أواصر الحب الذي حاول من خلاله (عرفات) زرع ثماره الطيبة، لكنها جاءت في أرض بور جدباء لاتسكنها الرحمة كما كان يتوقع، فقد صدته الحياة عنها، ربما خوف عليه أو أن الشر الذي يسكنها لا تمحوه لحظات عاطفية يمكن أن تقلب حياتها رأسا على عقب وهى الغجرية التي جاءت بغواية الدنيا إلى جزيرة غمام، وفي كل هذا إسقاط على الواقع المعاش حاليا كما يقصد عبد الرحيم كمال بالتأكيد كما اتضح من رسائله المهمة في (جزيرة غمام) على أسطورية مسلسل ينحاز للتراث.