بقلم الإعلامية الكبيرة : هدى العجيمي
كانت الإذاعة في كل عام تتحول إلى خلية نحل وحركة دائمة قبل حلول شهر رمضان المبارك بعدة شهور، فتبدأ إدارة التمثيليات والدراما في البحث عن موضوع يناسب حالة الترفيه التي ابتدعتها الإذاعة بعد الخامس من يونيو عام 67 وبدأتها بتقديم ذلك اللون الذي أعجب الجمهور وقام بالترفيه عن المستمعين بمسلسل كوميدى أبطاله هم النجم الكوميدي (فؤاد المهندس والنجمة الجميلة شويكار)، و هو (شنبو في المصيدة)، واستمر هذا اللون من المسلسلات الفكاهية لعدة سنوات فيما بعد وبالتالي كانت بقية الإذاعات وأقسامها وإداراتها تحشد كل جهودها من أجل تقديم البرامج التي تشد أسماع المستمعين في ذلك الشهر الكريم.
فكانت الإذاعة تقدم فوازير رمضان في الفترة التي تلي أذان المغرب وكان يكتبها الشاعر الكبير صلاح جاهزين في البداية وبعده كتاب آخرون، ثم المسلسل الدرامي الكوميدي غالبا، ثم باقة من البرامج القصيرة السريعة التي يتفنن المذيعون والمعدون في تقديمها للمستمعين للحفاظ على ارتباطهم بتلك الإذاعة مثل (البرنامج العام) و الحرص على عدم تحويل مؤشر الراديو إلى إذاعة أخرى في منافسة حرة شريفة، وكنت أشارك أحيانا في تقديم هذه البرامج القصيرة التي تضم ضيوفا محببين إلى المواطنين ويقدمون لهم أخبارا وأحاديثا مفيدة وحوارات مسليه.
في عام 73 جاء شهر رمضان محملا بكثير من الآمال الوطنية بعد ما شهدته البلاد من توتر وقلق وحالات ضبابية بعد النكسة وتصميم القيادة السياسية على إزالة آثار الهزيمة والعمل على بناء القوات المسلحة المصرية على أحدث النظم الحربية العالمية، وأيضا بناء الإنسان المصري الذي تحمل اليأس والهزيمة وعودة الروح المعنوية العالية لإحراز النصر، كنت أقدم في ذلك العام برنامج بعنوان (ابن الوز) وكان فكرة الأستاذ محمد صالح الكاتب الصحفي بجريدة الأهرام، وكانت فكرة البرنامج هى استضافة أحد النجوم في مجالات مختلفة وأحد أبنائه الواعدين ويدور الحوار حول ماذا كان هذا الابن سوف يرث موهبة الوالد ويصبح لامعا مثل أبيه أم لا؟، كما
حدث مع أحد الموسيقيين عندما أنكر علي ابنه أي مواهب سوف تظهر في المستقبل لأنه لا يبذل الجهد المطلوب لتنمية الموهبة.
ومن بين الضيوف كانت مجموعة من السيدات الناجحات ومعهن الأبناء بعضهم كان لامعا فعلا مثل حلقة المخرجة المنتجة (ماري كويني) وابنها المخرج الشاب في وقتها (نادر جلال)، والفنان الكبيرة (مديحة يسري) وابنها (عمرو) الذي توفي في وقت مبكر جدا، وكان من الضيوف أيضا الطبيبه الكبيرة (تماضر النمرسي) وابنتها الطبيبة (مؤمنة كامل) أستاذة التحاليل حاليا، المهم انني سجلت وقدمت تسع حلقات في شهر رمضان المبارك، أما الحلقة العاشرة فكنت قد اتفقت عليها مع المخرج والممثل الكبير (السيد بدير) لتسجيل الحلقة معه هو وابنته (سميرة بدير) المخرجة في إذاعة (صوت العرب) في وقتها، وكان موعدي معه في الساعة الثانية بعد الظهر فى مكتبه بشارع سليمان باشا، وكنت قد أعددت أسئلة الحلقة وحملت جهاز التسجيل وذهبت إلى موعدى مع السيد بدير، لكنني أثناء ذلك ومن راديو سيارة التاكسي الذي استقله سمعت الخبر المنتظر غير المتوقع في نفس الوقت والذي كان زلزالا هز كيان العالم كله وهو خبر العبور.
ولما وصلت الي مكتب السيد بدير وجدته يبكي بكاء مرا وبدموع غزيرة وكان الراديو في مكتبه ما يزال يذيع ويردد البيان العسكري المبشر بعبور قواتنا المسلحة المانع المائي لقناة السويس وتدمير خط بارليف المنيع، ومع دهشتي وألمي حاولت التخفيف عليه بكلمات مواسية وأيضا أحدثه عن فرحة النصر والعبور الذي كان أملا، لكنه استمر في بكائه فحدثني عن تذكره لابنه الشهيد الذي استشهد من قبل في حرب الاستنزاف وأن دموعه هى دموع تمزج بين الفرحة بالعبور وتحقق الثأر لاستشهاد الابن وحزنه علي رحيل فقيده الابن الشاب الذي تغنت له الأم شريفة فاضل باغنيتها المؤثرة (أم البطل).
وهكذا كان على الانسحاب وعدم تسجيل الحلقة التي كنت علي يقين بأنها لن تذاع في وقتها إذ تأكدت نظرا لخبرتي الإعلامية أن البرامج جميعها سوف تلغي ولا صوت يعلو علي صوت المعركة والانتصار وعدت إلى الإذاعة لأجد كل الفنانين يملاون أروقة الإذاعة واستوديوهاتها والفرحة والنشاط والإبداع الرائع هو السائد علي المكان، وهكذا ألغيت برامج رمضان كلها ولم أقدم من برنامج (ابن الوز) إلا تسع حلقات فقط واليوم العاشر استمعنا من الراديو إلى (وانا علي الربابة باغني، وباسم الله، والله أكبر.