بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
فى العاشر من رمضان نعود دائما إلى الذكرى المحببة إلى قلوبنا ، ذكرى انتصارنا فى حرب رمضان ، إنها الذكرى التى لا تنمحى أبدا من عقولنا مهما كانت التداعيات و مهما فرضت متغيرات السياسة من تغيير فى المواقف ، و لكنها تغييرات نحسبها مؤقتة ، ندرك أن صانعيها ربما مضطرون إليها ، و لكنها لن تدوم و لن تصمد أمام حقائق التاريخ ، التاريخ الذى حاول العدو تزييفه أكثر من مرة ، فى أكثر من مجال و بكل الطرق المكنة ، حتى ادعى أنه انتصر فى حرب أكتوبر ، أو على الأقل انتهت الحرب بالتعادل ، فكما عبرنا القنال عبرها العدو ، و كما حررنا جزءا من أرضنا احتل اجزاء جديدة . و لكن هذه الافتراءات المبنية على واقعة الثغرة لا تصمد أمام النقاش الجاد العاقل ، فكما شهد كبار القادة أن الثغرة لم تكن أكثر من ( شو إعلامى) يحفظ لأمريكا بعضا من حياء ، بعد أن انتصر الجيش المصرى بأسلحته الروسية على ترسانة السلاح الأمريكى ، بفضل إخلاص و استبسال المقاتل المصرى . و ترد على تلك الادعاءات أيضا وثائق الحرب الصادرة عن الكيان الصهيونى نفسه ، و التى أصبحت الآن متاحة باللغة العربية بعد أن أصدر المركز القومى للترجمة منذ أسابيع قليلة الجزء الأول لأول ترجمة عربية كاملة لتقرير لجنة ( أجرانات ).
إنها اللجنة التى شكلها الكيان الصهيونى فى نوفمبر من عام 1973 برئاسة ( شيمون أجرانات) كبير قضاة المحكمة العليا الإسرائيلية لبحث أسباب هزيمة جيشه فى الحرب و أدت الى سقوط 2182 جندي إسرائيلي قتيلا ، عدا الأسرى و الجرحى . و تشكلت اللجنة نتيجة لضغط شعبى و صحفى و تساؤلات حول ( من المسئول عن الهزيمة ؟) و فاقم من تلك الأسئلة استقالة وزير العدل بعد أن فشل فى جعل وزير الدفاع يعترف بالمسئولية . و بعد تشكيل اللجنة تعامل معها المجتمع هناك على أنها لجنة الإنقاذ ، ومدحتها الصحف على اختلاف تياراتها . و استمرت اللجنة فى العمل حتى أصدرت تقريرها في 30 يناير 1975 و المكون من ثلاث تقارير، كل تقرير جاء في جزئين، أحدهم طويل ومفصل وعلى أعلى درجات السرية والآخر قصير ومتاح للجميع فى مجموعة بلغت أكثر من 1500 صفحة ، و لكن هذا التقرير المطول لم ينشر منه فى حينه سوى 42 – هى عبارة عن المقدمة – و اعتبرت بقية الصفحات سرية.
و تناول التقرير أسباب مفصلة للهزيمة العسكرية خاصة فى الأيام الأولى للحرب قبل إقامة الجسر الجوى الأمريكى لإنقاذ الكيان الصهيونى ، و انتقد التقرير بالتفصيل جيش العدو و أجهزة مخابراته بشدة ، و وصف الخلل فى التنسيق بين وحدات الجيش بعضها البعض . و لم يتعرض التقرير للمسئولية السياسية لمجلس الوزراء و رئيسته (جولدا مائيير) ووزير دفاعها (موشي ديان) ، حتى أنهم فازوا فى الانتخابات التالية لانتهاء اللجنة من عملها ، فى حين أوصت اللجنة بإقصاء بعض كبار القادة العسكريين ومنهم ( إلياهو زعيرا ) مدير المخابرات العسكرية ( أمان )، وكذلك رئيس الأركان (دفيد بن أليعازر)، وقائد الجبهة الجنوبية ( المسئولة عن الدفاع عن سيناء المحتلة ) شلومو جنين، وكذلك عدد من ضباط الاستخبارات و تم تنفيذ التوصيات. و مع ذلك لم يهدأ الغضب هناك ، وخرجت المظاهرات تنادى ديان بالقاتل وتطالبه بالتنحى عن منصبه وتصب الإهانات على جولدا مائير التى تمسكت بمنصبها. ولهذا أصاب السخط اللجنة هى الأخرى و لم تسلم من الإهانات ، وتم اتهامها بالكيل بمكيالين، فقد حاسبت العسكريين و ابتعدت عن محاسبة الوزراء.
وبرغم كل التحفظات على عمل اللجنة ، خاضت بعض الصحف الإسرائيلية معركة من أجل نشر التقرير بالكامل ، و بعد عامين من التداول فى أروقة المحكمة العليا وافقت تلك المحكمة على النشر عام 1995 مع التوصية بحذف صفحات تخص دور جهاز الاستخبارات ( الموساد ) و بالرغم من هذا القرار لم ينشر من التقرير إلا مجرد خطوط عامة ، ثم أصدر الكنيست الاسرائيلى قانونا يقضى بحجب بعض المعلومات لمدة 30 سنة بعد انتهاء الحرب . وفى عام 2007 عادت المطالبة بنشر التقرير كاملا، و تكررت المطالبات حتى تم الكشف عن بعض التفاصيل فى عام 2012.
و فى مشروع ضخم قاده الأستاذ الدكتور إبراهيم البحراوى لنشر ما يخص انتصار أكتوبر فى الوثائق الإسرائيلية صدر جزء من تقارير اللجنة – و الأجزاء الأخرى مازالت تحت الطبع – و لكن للاسف لم يشهده صاحب المشروع إذ رحل الى ربه قبل الاكتمال و لكن تلاميذه و مريديه استكملوا المشروع و أهدوا الى الراحل الكريم هذا العمل واصفين إياه بإبن مصر البار.
الحقيقة أن تقارير ( لجنة أجرانات ) ليست المطبوعة الوحيدة التى تستحق القراءة والتأمل و لكن لدى المركز القومى للترجمة كنز رهيب من الكتب التى لابد من قراءتها فى نفس السلسلة المعنونة بانتصار أكتوبر فى الوثائق الإسرائيلية – ربما نعود اليها – و لكن من يعلم بها !! فللاسف الشديد لا يملك المركز القومى للترجمة منذ إنشائه وحتى الآن جهازا للدعاية لمطبوعاته يرقى إلى مستوى تلك المطبوعات و أهميتها ، و يعتمد المركز فقط على معرضه الدائم بأرض الأوبرا و معارض الكتب التى يشارك فيها ، و صفحة على مواقع التواصل لا تصل للكثيرين . فى حين أن دور النشر الكبرى تعتمد أموالا طائلة للدعاية لأعمالها ، برغم أنها تبحث عن الربح فقط ، أما المركز فبمثل هذه الترجمات يصبح شريكا فى حراسة أمننا القومى.
والسؤال المنطقى الذى يؤرقنا : ما دمنا نحلم بجمهورية جديدة يسود فيها الوعى ، لماذا لا تتعاون وزارة الشباب ووزارة التعليم العالى والشئون المعنوية بالقوات المسلحة مع المركز القومى للترجمة فى إصدار ملخصات لتلك الكتب تناسب الشباب و غير المتخصصين ، تطرح الحقائق و تؤكد انتصارنا بدلا من ترك الشباب فريسة للمواقع المشبوهة و الفيديوهات الممولة ؟
أعتقد أنه لدى الأستاذة الدكتورة كرمة سامى مدير المركز مشروعا متكاملا يفى بالغرض.