كتب : محمد حبوشة
نحن نعيش أكبرحالة من التيه الدرامي في التاريخ، فقد هبطت علينا فجأة موجة من الأعمال الدرامية المليئة بقصص العفاريت والغيبيات، على جناح الرعب الذي لايفضي إلى أي قيمة أو هدف سوى الإثارة، فقد انطلقت شارة البدء من مسلسل (نيران صديقة) ، ثم تلاها مسلسل (السبع وصايا)، ومن بعده مسلسل (ساحرة الجنوب) الذي حقق نجاحا كبيرا، لتتكرر القصة بشكل جديد وبناء مختلف وممثلين مختلفين في مسلسل (الكبريت الاحمر) ومؤخرا ( ماوراء الطبيعة، جمال الحريم، وشقة ستة) وغيرها من الأعمال التي تحقق هى الأخرى نجاحا جماهيريا ملحوظا.. وهكذا بدأت هذه الموجة الجديدة من المسلسلات تفسح لها مجالا، فما هو السر وراء تصاعدها في هذه الفترة ؟ وهل ستستمر أم ستنحسر قريبا؟، وما تأثيرها على وعي جماهير المشاهدين خاصة و أنها عامرة بـ (تحابيش) السحر و الجن و العفاريت؟.
كل تلك الأسئلة وغيرها تحتاج إلى إجابة عن جدوي تغييب الواقع المكدس بالتراجيديا والكوميديا وأعمال الأكشن والدراما الاجتماعية التي تدق أجراس إنذار يومية عبر رسائلها كي تحاول أن تعالج الواقع المشحون بمرارة العيش في ظل ظروف ضاغطة تحتاح إلى رسم ابتسامة على الوجوه المكلومة، وجلب البهجة والسعادة لجمهور يشتاق لأعمال رومانسية يمكن أن تحلق به في الخيال الرحب بعيدا عن الهموم والمآسي التي تحاصره كي تتنشل الناس من معاناتهم في ظرف اقتصادي يعلم الله حجم تأثيرها علينا، فمثلا يغوص مسلسل مثل (المداح أسطورة الوادي) في مساحة أكبر وأعمق من الفكرة التي طرحها في الجزء الأول، حيث ينطلق (صابر) الذي سخر حياته لعلاج الناس بالقرآن والسنة النبوية ولاسيمّا من يعانون من المس الشيطاني أو تعرضوا لأمور السحر أو غيرها، حيث ينطلق بحثا عن الحقيقة فيما يقرأ ويسمع، ويسافر إلى الكثير من البلدان والوديان ليتعرف بنفسه على حقيقة ما يسمع وتنطلق به الأحداث من مدينة لأخري وتحمل له الأقدار الكثير من المُفاجآت.. ما الجدوى إذن غير التشبث بالسحر والشعوذة كحل لبعض أمرضنا.
وقد تساءلت كثيرا وأنا أتابع مسلسلات (مكتوب عليا، المداح 2، جزيرة غمام، بيت الشدة) ما جدوى هذا العبث الدرامي الذي يسعى لتغييب المواطن وإبعاده عن مسلسلاته الوطنية مثل (الاختيار، العائدون) والاجتماعية بالغة العذوبة مثل (وجوه، فاتن أمل حربي) والكوميديا مثل (دايما عامر، جوقة عزيزة) والفانتازايا مثل (أحلام سعيدة) وغيرها من أعمال لها أهداف ورسائل تخاطب الوعي الجمعي، وهنا أسأل المؤلفون والمخرجون والمنتجون من صناع الدراما، لماذا تجنحون إلى تقديم هذا الكم من الخرافات والدجل والأعمال السفلية، تقريبا ربع المسلسلات المعروضة حاليا في لوحة دراما رمضان 2022 تتحدث عن الأعمال والجن والعفاريت وطبعا هذا النوع من الدراما يقدم بلا هدف أو سبب أو منطق درامي – على الأقل من وجهة نظري الشخصية – والنتيجة مزيد من التغييب العقلي وإغراق الناس، خصوصا النساء وهم المستهلك الأول للمسلسلات في غيبوبة اجتماعية ونفسية وبذلك يصبح الفن أخطر سلاح يهدم العقل ويحبط النفس ويدمر الجهاز المناعي للمجتمع.
وهنالك أكثر من مسلسل رمضاني كما قلت سابقا ومنها على سبيل المثال وليس الحصر (مكتوب عليا، المداح 2، جزيرة غمام، بيت الشدة)، وطبعا هذا النوع من المسلسل غير مصنف رقابيا في مصر، ومع أنني ضد المنع عموما، لكن وعي الجمهور هل يمكن الرهان عليه مع نسبة الجهل والاستقطاب الكبيرة في المجتمع؟، هى إذن أسئلة لا أملك الإجابة عليها، رغم أن هذه الأعمال نجحت في جذب شريحة كبيرة من الجمهور الفترة الماضية لأنها كسرت روتين تيمة الدراما المتعارف عليها منذ بداية عهد الدراما المصرية وهى تنحصر في (ميلو دراما وتراجيديا والدراما السياسية)، أما هذه المسلسلات فناقشت موضوعات الظواهر غير الطبيعية وهو نوعا جديدا من الدراما بالنسبة للجمهور المصري.
أما فيما يخص أصحاب النظرة التي ترى إيجابية هذه المسلسلات ومدى تحقيقها نجاحا جماهيريا دون أن تفسد عقول الناس بهذه الخرافات فيبدو لي أنها مسالة حساسة للغاية، والذين يذهبون إلى أنه لاينبغي ألا نضخم الأمور بهذا الشكل لانه في النهاية عمل خيالي والدراما تعتبر مجرد وسيط بين صناع العمل والجمهور في توصيل رسائل معينة من خلال هذه الاعمال هم مخطئون بالطبع، فإنني أعبر عن مخاوفي من أن هذه النوعية تتسبب في تخريب عقول الناس، ولا تقول لي أن الأمر يرجع لكيفية التعامل مع البسطاء وعقولهم في الشارع المصري على جناح الخيال الذي يجنح نحو الإثارة والتشويق، فيجب أن تكون هناك مساحة من الوعي والادراك في الدراما بدلا أن تتفشى الأمية الدرامية بهذا الشكل.
يا سادة: نحن نعيش في مجتمع متخلف يعاني من أمية كبيرة في مجالات عديدة، وهنا ياتي دور الإعلام والصحافة الفنية والنقد الفني، و ذلك حتى يتم هضم الفنون المقدمة، لذلك لابد من العمل على زيادة الوعي والثقافة وأن نرعي ضمائرنا في تقديم أعمال تخاطب العقل الواعي وأن نصبح مثل العالم المتقدم متطورين فكريا وثقافيا ولدينا مساحة هضم كبيرة للفنون، وذلك يرجع لكونهم يهتمون بقراءة المقالات والكتب وغيرها من وسائل المعرفة والثقافة، وعن ما يثار حول اقتباس بعض هذه المسلسلات، نعم يمكن أن تتشابه هذه الأعمال الفنية مع بعض الأعمال الأجنبية – والأمريكية على الأخص – من حيث النوعية الفنية، لكن ليس معنى هذا وجود اقتباس مباشر ، و ذلك نظرا لاختلاف طبيعة البيئة بالطبع.
لابد أن ننتبه إلى أن مساحة التعاطي مع الخرافات موجودة في مجتمعاتنا الشرقية بدرجة أكبر من أوروبا لأنهم هناك يعتمدون على العلم والتكنولوجيا ، أما نحن فمتاخرين عنهم في ذلك بما يعادل قرن من الزمان ، بالإضافة الى اننا على المستوى الديني في مجتمعاتنا نسمع دائما عن العذاب والآخرة والخيال في مجتمعنا، لذلك فالخيال خصب لدينا ويتعاطى دائما مع الغيبيات والماورائيات، بل والخرافات أيضا، لذا يجب تجديد الخطاب الديني، ونشر التفكير العلمي، بحيث يستطيع الناس التفرقة بين ماهو غيبي إيماني وماهو خرافي، و ذلك لأن الخطاب الديني الموجود حاليا هو أحد أسباب سبب تصديق الناس لمثل هذه الخرافات .
ألم يلحظ القائمين على صناعة دراما الرعب والجن والعفاريت أنه على الرغم من عدم تقبل الجمهور لمشاهدة قضايا خاصة بذلك، فإن القائمين على البرامج والسينما مستمرون في مناقشة تلك القضايا بشكل موسع، وتفضيلها على المشاكل الاقتصادية والسياسية التي تشهدها مصر في الفترة الحالية، حيث إن كل من البرامج التليفزيونية والأفلام السينمائية والمسرحيات قدمت العديد من القضايا الخاصة بتلك القضية خلال الفترة الأخيرة، البرامج التليفزيونية هذه البرامج لها النصيب الأكبر في تناول القضايا الخاصة بالجن والعفاريت في مصر، بهدف تحقيق نسب مشاهدة أعلى بعد عزوف المشاهدين عن برامج التوك شو بشكل كبير بعد ثورة 30 يونيو، حيث قدمت بعض الفضائيات العديد من الحلقات الخاصة بقضايا الجن والعفاريت للاطلاع على الطريقة التي يعالج بها من يمسهم الجن.
معلوم أن دخول مسلسلات الرعب إلى قائمة الإنتاج التلفزيوني العربي، تبدو حديثة العهد إذا ما قيس بعمر الدراما التلفزيونية العربية التي تناهز النصف قرن بسنوات، وقد ساهم في تأخير ظهورها تلفزيونيا طبيعة العرض التلفزيوني العائلي وضوابطه، خلافا للسينما العربية التي تبنت إنتاج أفلام رعب في وقت مبكر، ولا سيما في السينما المصرية، التي قدمت عددا من أفلام الرعب، لعل أشهرها عربياً وأقدمها فيلم (سفير جهنم – إنتاج 1945) للفنان يوسف وهبي، وفيلم (التعويذة – إنتاج 1987) للفنانين يسرا والفنان عزت العلايلي، وفيلم (الإنس والجن- إنتاج 1985) للفنانين عادل إمام ويسرا وعزت العلايلي، أما خليجيا، فقد شكل فيلم (القرية المنسية – (2007 أول تجربة سعودية لأفلام الرعب، وتدور أحداثه حول فريق سياحي يزور إحدى المناطق الأثرية في السعودية ويضطر لدخول قرية هجرها أهلها منذ 30 عاماً، لتواجههم هناك أحداث مرعبة، والفيلم السعودي هذا، يقدم من خلال شخصية (النمنم) معادلا درامياً عربيا لشخصية (دراكولا) الشهيرة في أفلام الرعب والتي تقوم بامتصاص دماء ضحاياها.
لا أحد يعرف على وجه التحديد: هل الصدفة التى جمعت عددا من مسلسلات رمضان هذا العام على تيمة المشاكل النفسية والتي سوف تجمعهم أيضا هذا على تيمة جديدة وهى الدجل والرعب والشعوذة والجن والعفاريت، أم أنها توارد الأفكار بين مؤلفى تلك الأعمال لأننا هذا الموسم سوف نجد كما كبيرا من النجوم يتناولون تلك التيمة، وبالطبع سنطلق عليهم نجوم الدجل والشعوذة والجن والعفاريت والرعب والأعمال السفلية فى دراما رمضان، والزريعة التي يتشدقون بها دائما أن الدراما التلفزيونية فى رمضان لم تترك شيئا إلا تناولته، سواء المشاكل الاقتصادية والسياسية وحتى العاطفية، لكن لم يتوقف الأمر عن مناقشة وطرح مشاكل المجتمع فحسب، إنما تطرقت إلى العالم الآخر وبحثت فيما وراء الطبيعة، فعلى مدار عشرات المواسم الرمضانية، استطاعت الدراما أن تعكس وجهة نظر المصريين بالنسبة للجن والعفاريت، فهناك العفريت الطيب المسالم، وآخر المحب والمساعد، وغيره الشرير المدمر وكلها نماذج سلبية لا تفضي في العادة إلا لتغييب العقول
وفي النهاية هل من عقل مؤلف ومخرج واعيين وشركة إنتاج تتطلع بمسئوليتها عن الترسيخ لهذا العبث الذي يسعى لتغييب العقول عن واقعها، فمهما كانت مرارته لايمكن انتشاله على جناح دراما تعتمد الرعب والجن والعفاريت منهجا للهروب من أعقد مشاكلنا الاجتماعية .. فليس بالتغييب وحده يمكن أن نحلق في خيال واهى، ثم وهو الأهم: لماذا نربي أطفالنا على مشاهدة الرعب والجن والعفاريت، والثابت أنه لا يمكن أن تكون مثل تلك الأعمال بديلا للهرب من واقعنا وإيجاد حلول لمشاكلنا من خلال دراما حقيقية ترصد الواقع المعاش .. ألم يقل أرسطوا (أن التاريخ يكتب الأحداث كما وقعت أما الدراما فتكتب الأحداث كما ينبغي لها أن تقع ؟) ومن ثم يصبح دور الدراما في جل رسائلها وأهدافها أن تصنع واقعا جميلا يمكن أن نحتمل العيش فيه أولا وقبل كل شيئ.