بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
أنا اليوم في حضرة الشيخ طيب الذكر سيد النقشبندي عليه رحمة الله، فمن هو؟ الاسم سيد، والصفة أيضا سيد، فهو سيد الابتهالات، أما النقشبندي فهو لقب العائلة، وهي أيضا الطريقة الصوفية التي ينتمي الشيخ إليها، لذلك فحق لي أن أطلق عليه (سيد الابتهالات النقشبندي).
مرت علينا ذكرى رحيله منذ شهرين أو أقل قليلا، وقد تعودنا في ذكرى الوفاة أن نكتب في صحفنا ومواقعنا في ذكرى أي راحل من مشاهيرنا عن مآثره وأفضاله، فنقول إنه ولد في يوم كذا وعاش زمنا قدَّم فيه لنا كذا وكذا، ثم مات عليه رحمة الله في يوم كذا، نسخة واحدة نظل نكررها مع كل شخصية فقدناها منذ سنوات لا يتغير منها إلا الأسماء والتواريخ، ولكن العظماء بحق يجب أن نكتب عنهم بشكل مختلف، ومن هؤلاء شيخنا سيد الابتهالات النقشبندي، إمام أئمة أصحاب الأصوات العبقرية، يقولون إن صوته كان منحة من الله، نعم أنعم الله علينا جميعا بخاصية (الصوت) الذي به نعبر عن أنفسنا وحياتنا، فأعطانا الحنجرة والأحبال الصوتية، هذه نعمة، ولكنه سبحانه أعطى بعض خلقه منحة فوق هذه النعمة، هى منحة الصوت الجميل القوي الدافىء، تماما كما فعل مع سيدنا داود إذ أعطاه الله صوتا جميلا كأنه آلة موسيقية، كأنه مزمار شجي النغمة.
ولكن من أين استمد شيخنا النقشبندي جيناته الصوتية؟، يبدو أنه استمده من والده أو جده، نعرف أن جده محمد بهاء النقشبندي كان شيخا للطريقة الصوفية النقشبندية، وأن أصله يعود إلى أذريبجان، ونعرف أن شيخنا المبتهل سيد النقشبندي أتم حفظ القرآن وهو في طفولته، وعندما شب عن الطوق واشتد عوده تفرغ للابتهالات الدينية فكان أن استقر في طنطا إلى أن توفاه الله، وعرفنا أنه كانت له إبنة ذات صوت جميل وأنها كانت تغني للسيدة أم كلثوم، وكذلك كان ابنه أحمد سيد النقشبندي رحمة الله عليه، ويقال إن حفيدا له توفي قريبا كان جميل الصوت أيضا.
وقبل أن أكتب هذا المقال كنت قد تحدثت مع ابنة شقيق شيخنا، وهى شخصية فاضلة تعمل في مجال تدريس اللغة العربية، وهى كما عرفت متميزة في مجالها، فأخبرتني أن الصوت الجميل كان عاملا مشتركا مع معظم إخوة الشيخ إلا أنه كان الأكثر تميزا وتفردا، وأن قلبه اتجه إلى الإنشاد الديني وكأنها رسالة كلفه الله بها، هذا التاريخ من الأصوات الجميلة ورثه الشيخ من أبيه وجده، ولكن لأن والده وأعمامه كانوا قد تفرغوا في حياتهم لنشر الطريقة النقشبندية، وكانوا من أجلها يذهبون إلى أضرحة الأولياء، فيتنقلون بين الأقصر والأسكندرية وطنطا وقنا، لذلك شغلتهم الطريقة عن استثمار موهبة الصوت التي منحها الله لهم، إلى أن قيَّض الله للابتهال الديني ابنهم سيد النقشبندي ليصدح بالتواشيح ويصبح أشهر من ابتهل في تاريخنا.
ولكي ألخص لكم صوت الشيخ سيد النقشبندي في كلمات، فلا أجد عندي إلا أن أقول إنه جمع في جمال الصوت وعذوبته وحلاوته وطلاوته وقوته بين أصوات الشيخ محمد رفعت، والشيخ محمد الطوخي صاحب ابتهال ماشي بنور الله، ونقاء صوت الشيخ نصر الدين طوبار، مع صوت وديع الصافي، وأسمهان، وأم كلثوم، وفيروز، ومحمد عبد الوهاب، وأظنكم قرأتم عن المطربة الأوبرالية اليونانية (ماريا كلاس)، أو قد يكون بعضنا قد استمع إليها، والآن خذ (ماريا كلاس) وضعها معهم جميعا في بوتقة واحدة، ثم لك أن تقسم جهد إيمانك أن الله سبحانه جعل كل هذه الأصوات في خلطة واحدة ثم وضع هذه الخلطة في حنجرة واحدة هى حنجرة الشيخ سيد النقشبندي، بمعنى أن صوته هو التلخيص الوافي لأعظم الأصوات البشرية التي أمتعتنا في الغناء والتلاوة والإنشاد، ولكي تتأكد مما أقول فلتأخذ الآن خطوة مهمة وأنت تقرأ هذا المقال، وهى الاستماع لأغنية (مولاي إني ببابك قد بسطت يدي) التي قام بتلحينها بليغ حمدي، وهى من أشهر ابتهالات شيخنا النقشبندي، ويقول المعاصرون لخروج هذه الأغنية إلى الحياة إنها تمت بناء على طلب من السادات الذي جمع بين المؤلف الشاعر الصوفي المبدع عبد الفتاح مصطفى، والملحن بليغ حمدي، مع الشيخ النقشبندي – عليهم رحمة الله جميعا.
وتلك قصة معروفة حتى أننا كدنا أن نحفظها من كثرة كتابتها في كل ذكرى لوفاة النقشبندي، وقد أصبح معروفا من الابتهالات بالضرورة أن النقشبندي حينما حم قضاء الله وتحتم بأمر من الرئيس السادات أن يغني أغنية دينية من تلحين بليغ حمدي، والشيخ لا يستطيع أن يرد أمر الرئيس، ولكن خلفيته وطريقته الصوفية وابتهالاته السابقة تتأبى على أن يبتهل بصحبة الموسيقى، ليس اعتراضا على الموسيقى ولا تحريما لها، ولكنه كان آنذاك يضع فارقا بين الأغاني والابتهالات، ولم يكن من المعتاد أن تصاحب الابتهالات موسيقى، ولكن قرارات الرؤساء لا تُرد، وقد يكون الشيخ تساءل: إن كان ولا بد فأين السنباطي ملك تلحين القصائد؟، ولكن لا سنباطي ولا عبد الوهاب ولا يحزنون، هو بليغ وحده وفقا لأمر السادات، ولكن النقشبندي مع ذلك كان على استعداد لرفض اللحن إذا جاء بشكل راقص، فوقار الابتهال يتأبى على ذلك، ويبدو أن النقشبندي لم يكن يُحسن الظن ببليغ، فكان أن اتفق على علامة يبديها لرئيس الإذاعة وقتها (وجدي الحكيم) أثناء سماعه للحن في ستديو الإذاعة، وهى أن يخلع الشيخ عمامته إذا أعجبه اللحن، وما أن انتهى بليغ من عزف اللحن حتى خلع النقشبندي العمامة والجبة والقفطان، مبديا إعجابه الشديد باللحن، فكانت الأغنية التي لا زالت تعيش في قلوبنا وتترك أثرها في مشاعرنا.
هل ستسمع هذه الأغنية معى لتعرف مساحة صوت النقشبندي، سأفترض أنك بدأت تسمع، نحن الآن في البداية، وخذ بالك أن مساحة الصوت وقوته قد لا يكون لا علاقة لها بالجمال والحلاوة والعذوبة، فرب صوت قوي ولكنه لا يُمتع ولا يُحرك القلوب والمشاعر، أما النقشبندي فصوته يجمع بين القوة واتساع المساحة والحلاوة والعذوبة والرقة والتمكن، والقدرة على الانتقال بين المقامات الموسيقية بسلاسة، والانتقال من الجواب للقرار ومن القرار للجواب دون أن يُصاب صوته بأي شرخ أو نشاز، الآن نحن مع (مولاااااي إني ببابك قد بسطت يدي)، وها نحن نستمر في السماع (مولاااااااي ، يا مولااااااي) فيدخل بنا الشيخ إلى طبقة (السوبرانو) ويليها طبقة (ميزو سوبرانو) ويتردد بين الطبقتين، إلى أن وصلنا للشيخ وهو ينشد (تحلو مرارة عيش في رضاااااك) وينطلق مع (رضاااااك)، وكأنما هو يستعرض قوة صوته وقدرته فيدخل مرة أخرى إلى طبقة (السوبرانو)، والسوبرانو والميزو سوبرانو كما يقول خبراء الأصوات هى طبقات أوبرالية تمتلكها الأصوات النسائية، فهي من الطبقات التي وصلت إليها (ماريا كلاس) المغنية اليونانية بسهولة ويسر ودون جهد جهيد، وكلاس بالقطع هي أشهر سوبرانو في العالم، وفي بلادنا عندنا أسمهان، وفيروز، ومن بعدهم عفاف راضي.
ولكنك ستتعجب عندما تعرف أن أم كلثوم في شبابها وإلى منتصف عمرها كانت هي الأعلى في الشرق، فلا تقل لي أسمهان ولا غيرها، فقد كانت أم كلثوم هى الأكثر قدرة على الوصول إلى طبقة السوبرانو والتنقل منها لباقي الطبقات، والانتقال من الجواب للقرار ومن القرار للجواب بحرفية مذهلة دون عناء أو تكلف، كانت أم كلثوم لا تقل أبدا عن (ماريا كلاس)، بل إنها كانت تتميز عنها بجمال وحلاوة وعذوبة الصوت، فحدة صوت (ماريا كلاس) كان يهيمن على جمال صوتها، في حين أن جمال صوت أم كلثوم كان مهيمنا على حدة صوتها السوبرانو، وفي الشرق تأتي أسمهان بعد أم كلثوم، ولكن أم كلثوم بعد ذلك مع تقدمها في العمر تراجعت قدرتها على الوصول لطبقة السوبرانو، وهذا من الأشياء الطبيعية، ولكي يصبح الكلام مفهوما سأطلب منك أن تستمع لام كلثوم وهي تغني رائعتها (وحقك أنت المنى والطلب) لتراها وهى تنتقل بين الطبقات الصوتية من (الكونترالتو) إلى (الميزو سوبرانو) إلى (السوبرانو)، وللعلم هذه طبقات نسائية نادرا ما توجد في الرجال، ثم استمع لأغنية النقشبندي (مولاي إني ببابك)، حينها ستعرف أن النقشبندي كان ينتقل بصوته بين مساحات مختلفة من الطبقات الصوتية بنفس السلاسة والبراعة والسهولة، وأنه وصل إلى طبقة (السوبرانو) ثم (ميزو سوبرانو) ثم (الكونتر ألتو)، وهى كما قلت طبقات قلما تتوافر في الرجال، ولكنه كان متمكنا في الأداء بشكل مذهل .
ولأن الكلام عن الأصوات والطبقات هو من الأمور الخاصة بالمتخصصين في الأصوات ومعهم السميعة لذلك ضرب لكم الأمثال، ولكن لا مانع ونحن نقوم بتقييم صوت الشيخ النقشبندي أن نضع تعريفا بسيطا لطبقات الأصوات، وأتمنى أن تتحملوني، ففي الموسيقى يتعامل الموسيقيون والملحنون مع أصوات المغنيين والمطربين كما يتعاملون مع الآلات الموسيقية، ولتأكيد ذلك من المؤكد أننا سمعنا الأغنية التي لحنها العبقري محمد فوزي وجعل الفرقة الموسيقية هى أصوات (الكورال) البشري الذي يقف خلفه وهو يغني، حيث حوَّل فوزي أصواتهم إلى آلات موسيقية، وهي أغنيته الشهيرة (كلمني طمني وارحمني)، وقد كان صوت الكورال مثل الآلات الموسيقية، وبالتالي فإن الله وهب لكل صوت خصائصه وقوته، والمغني إنما يغني بحنجرته وأحباله الصوتية، وتنقسم أصوات النساء عادةً إلى ثلاث مجموعات: (سوبرانو ، وميزو سوبرانو ، وكونترألتو)، والسوبرانو هو الصوت الرنان، أما الميزو سوبرانو فهو نصف سوبرانو، أي أنه أقل في درجة الرنين من السوبرانو، أما الكونترألتو فهو الصوت النسائي العميق، وقد كان صوت أم كلثوم بعد أن انتصف عمرها يتراوح بين الميزو سوبرانو والكونترألتو، وكذلك صوت الشيخ محمد رفعت وإن كان في تسجيلاته الأولى استطاع أن يصل للسوبرانو.
أما الغالب في أصوات الرجال فهي تتراوح بين خمس طبقات، أولها (الكونترتينور)ٍ وهو قريب من طبقة محمد عبد الوهاب في شبابه، وإن كان عبد الوهاب له أكثر من طبقة يستطيع التنقل بينها جميعا بتمكن منها طبقة التينور، أما صوت وديع الصافي فهو صوت عالي الطبقة يشبه (الميزو سوبرانو) في النساء وفي بعض أغانيه رأيناه وهو يصل لطبقة السوبرانو حتى يخيل لك أن الذي يغني هو صوت أوبرالي متمكن، ثم طبقة (التينور)، وقد أطلق عليها مجمع اللغة العربية الصوت الصادح، وينتمي صوت عبد الحليم حافظ لطبقة التينور، وكذلك هاني شاكر وعمرو دياب إذ أن طبقة صوته تنتمي لشريحة من شرائح هذه الطبقة وهى التينور الخفيف، ثم طبقة الباريتون، وأطلقوا عليها الصوت الجهير الأول وهو الذي يميل للعمق، ثم طبقة (الباص باريتون) وهى طبقة منخفضة، ثم طبقة الباص، ويطلقون عليه باللغة العربية (الجهير) وهى خاصة بالمدى الصوتي الأدنى.
لماذا تكلمت معكم عن هذه الطبقات الصوتية، ثمانية من الطبقات، هى كل الطبقات الصوتية وفقا لعلماء الأصوات، ولربما كانت هناك طبقة تاسعة خاصة بأصوات الأطفال، تكلمت معكم عن هذه الطبقات لأن الشيخ سيد النقشبندي كان يمتلكها جميعا، وقد كانت طوع بنانه ؟!، أي بنان يا رجل، الأصح أن نقول إنها كانت طوع حنجرته، وتحت أمر أحباله الصوتية، يأمرها فتستجيب، فقد كان قادرا على أن يبتهل وينشد ويغني بكل هذه الطبقات، فينتقل من طبقة إلى طبقة بسهولة وبلا أي معاناة أو جهد، كل هذه وصوته لا يفقد حلاوته وطلاوته ورقته وعذوبته، وهذا شيء نادر لا أظن أننا يمكن أن نصادفه، ولأن الوقت طال وشهر رمضان لا يتحمل المقالات الطويلة، لذلك سأتوقف الآن على وعد أن أعود للشيخ النقشبندي في مقال قادم إن شاء الله.