بقلم: محمود حسونة
يمكن أن يكون الفن أحد أدوات تنفيذ الخطط التنموية في دولة كمصر، فهو الوسيلة الأكثر تأثيراً على الطبقات المحدودة والمعدومة التعليم، وأداة الإقناع التي يمكن أن تجدي نفعاً مع قطاعات عريضة في مجتمعنا الذي يحب الفن ويشاهده ويحرص على متابعته طالما أنه لا يتجاوز على قيمنا ولا ينال من ثوابتنا، ولذا فإن من يحاول تغيير قيم الشخصية المصرية عبر الفن فلن يجد سوى الفشل مصيراً، أما من يحاول تغيير صفاتها المكتسبة وبعض قناعاتها غير الأصيلة فسينجح ولكن بشكل تدريجي.
فيلم (أصحاب ولا أعز) أثار غضب المصريين الذين لن يقبلوا بالشذوذ سلوكاً حتى لو أصبح أمراً طبيعياً لدى جميع شعوب العالم المختلفة، والسبب لأنه من الظواهر التي تتجاوز جوهر الدين وثوابت الشخصية المصرية، وكذلك لم تجتذب المصريين أي من المسلسلات التي تزاحمت بها منصات العرض الإلكتروني خلال الفترة الماضية والداعية إلى التحرر في العلاقات غير المشروعة للسبب ذاته، بل لو سأل أحدُ، أصدقاءه والمحيطين به، سيجد كثيرين قد بدأوا مشاهدة نماذج من هذه الأعمال وبمجرد أن اكتشفوا نوايا صناعها الخبيثة قاطعوها ورفضوها.
من الأعمال التي تجاوب معها أهل مصر خلال الفترة الماضية مسلسل (نقل عام)، الذي يناقش قضية الانفجار السكاني، وسواء كان ذلك بشكل مقصود بعد إطلاق مبادرة تنمية الأسرة المصرية أو بشكل غير مقصود، إلا أنه من الأعمال التي تجدي نفعاً في محاولات تغيير نظرة فئة للمصريين ممن يعتبرون (كثرة الأولاد عزوة)، وهى نظرة غير صحيحة، وفاشلة ولا تجلب سوى الفقر والضياع لأبناء الأسر الذين ينتهجون هذا النهج، والوارثين إياه من الأسبقين، وما كان نعمة لأهلنا وأجدادنا قد يكون نقمة علينا.
وبالرغم من أن مسلسل (نقل عام) اتخذ من هذه القضية التي حارت بشأنها حكومات مصرية متعاقبة محوراً لأحداثه، إلا أنه قدمها في إطار درامي جاذب شكلا وموضوعاً، فالنص تتوافر فيه جميع عناصر التميز، والإخراج قدم الأحداث بصورة سينمائية معبرة، أما التمثيل فقد كان بمثابة مباراة بين عدد من الفنانين المخضرمين بخبراتهم المتراكمة وعدد من الوجوه الشابة بحماسهم المتطلع إلى المستقبل والساعي إلى اكتساب موقع مناسب على خريطته الفنية، لذا فقد حقق من النجاح ما عجزت عنه الكثير من الأعمال التي تتزاحم على العرض عبر شاشة رمضان.
المسلسل كتبه وليد خيري الذي تتلمذ على يد أسامة أنور عكاشة وتشرب منه أصول الصنعة وكيفية خلق علاقة إيجابية بين المشاهد وأبطال العمل، ويتمحور حول شخصية أحمد الشربيني، وهو سائق نقل عام يقترب من الستين، يعيش حياته مطحوناً بسبب كثرة أولاده، ورغم أنه من الشخصيات التي تمتلك حكمة في السلوك ووعياً في القول وعشقاً للوطن وقدرة على التكيف مع كل الأنماط البشرية، إلا أنه يظل طوال الحلقات الثلاثين عاجزاً عن التكيف مع ظروفه، والسبب أن كثرة انجابه لم يكن قراره ولكنه استجابة لإرادة والدته الصعيدية التي فقدت زوجها وعدداً من أولادها بسبب السرطان، ولم يتبق لها سوى أحمد وشقيقه عادل، ورغم أن هذا الأخير رفض الانصياع لإرادة الأم، وخرج من تحت عباءتها مرغماً لتكوين أسرته وفق قناعاته، بعد أن رفض تدخلاتها في حياته، وعاش حياته مع زوجته التي يعشقها وابنه وابنته اللذين تخرجا من الجامعة بتفوق وأصبحا مصدر فخر لوالديهما؛ إلا أن أحمد انساق وراء إرادة الأم وطلق زوجته الأولى التي لم يحب سواها لأنها أنجبت له ابنتين فقط، وتزوج الثانية التي توفيت وهي تنجب له ولداً، وأيضاً تنفيذا لإرادة أمه تزوج شقيقتها لتربي ابنه وتنحب له 6 أولاد، وليعيش الأب في زحام داخل بيته المتواضع، وفي زحام داخل الأتوبيس الذي يقوده، ويعيش في لهاث وراء لقمة العيش وفي لهاث وراء مشاكل أولاده، وفي لهاث بحثاً عن زوجته الأولى وابنتيه اللتين أصبحتا طبيبتين شهيرتين، وقد ترك تخلي الأب عنهما عقداً نفسية استمرت سنوات.
أولاد أحمد الشربيني نماذج متعددة لأولاد الزحام، فبينهم فيصل، العاطل عن العمل العاجز عن كسب لقمة عيشه المعتمد على والده في الانفاق عليه وعلى زوجته، وبينهم تقى التي لم تستكمل تعليمها وتزوجت من لص وأيضا يتحمل مسؤولية الانفاق عليها وعلى زوجها وعلى ابنتهما أحمد الشربيني، وسندس الفتاة الجامعية الحالمة بالشهرة للخروج من شرنقة الفقر واذا تخطيء ويكاد مستقبلها أن يُدمر، وهناك نادية المجتهدة في التعليم رغم مرضها، وهناك سيد الحالم بأن يكون لاعب كرة قدم مشهور للخلاص من عالمه المزعج، وأيضا الصغير عبدالحكيم الذي يفكر في يبحث عبر الانترنت علن كيفية تغيير واقعه وواقع أهله، انا ابنتيه من زوجته الأولى واللتين عاشتا بعيدا عن زحام الفقر فقد حصلتا على حقهما في التعليم ولكنهما عانتا عواقب الطلاق.
المخرج عادل أديب نجح في التعبير عن مكنون شخصيات المسلسل بصورة سينمائية ساهمت في تميز المسلسل الذي يؤكد أن فنانينا الكبار جواهر تزداد لمعاناً بمرور الزمن، فالفنان محمود حميدة قدم واحداً من أعظم أدواره ووصل من خلاله إلى جمهور لم تسمح له ظروفه أن يعرفه وهو نجم سينمائي، قدم شخصية المصري الأصيل الحريص على رضا والدته والساخر من عوزه وفقره والمؤمن بربه والرافض لخيانة وطنه والعاشق لأولاده والهارب من زحام بيته مع كوب الشاي بالنعناع إلى بلكونته الصغيرة ليتدبر أموره الصعبة، أما الفنانة سميحة أيوب فستظل سيدة التشخيص التي تزيدها تجاعيد الزمن إبهاراً، وسوسن بدر نموذج المرأة الحكيمة الأصيلة المتسامحة التي تحملت مسؤولية ابنتيها رافضة أي إساءة لزوجها الذي تخلى عنها رغماً عنه، أما محسن محيي الدين فقد استعاد مجده القديم بأداء الرجل المتمسك بأسرته والحالم بلحظة ترضى فيها أمه عنه، ومحمد محمود عبدالعزيز أكد أنه ابن أبيه موهبة وأداءً، وباقي الفنانين كان كل منهم نجم في دوره بما في ذلك الطفل الصغير (آدم النحاس) الذي جسد أصغر أبناء أحمد الشربيني.
mahmoudhassouna2020@gmail.com