كتب : محمد حبوشة
يعتقد الكثيرون أن الممثل البارع من يلعب دوره بشكل طبيعي ودون اصطناع واضح، لكن الحقيقة، وفقا للمخرج والمشرف الفني ماركوس، أن أداء الدور بعيدا عن الاصطناع أمر مفروغ منه، ولكن التميز يكمن باستطاعة الممثل على مفاجأة الجمهور بردود فعله وعدم قدرة المشاهد على التنبؤ بما سيقوم به، على سبيل المثال، يمكنك تخيل ردة فعل الإنسان لدى فقدانه لشخص عزيز، هنالك عدد كبير من الانفعالات الإنسانية التي يمكن أن يتقمصها الممثل في هذه اللحظة، ولكن مهمة الممثل الجيد فهم هذا الطيف الواسع من الانفعالات وإدراك عمق كل منها وعلاقتها بالشخصية التي يؤديها، ومن ثم اختيار الأداء الأنسب، عدا ذلك يتحول الممثل إلى شخصية مملة تكرر انفعالاتها بشكل مبتذل.
وظني أن النجمة المصرية (غادة عبد الرازق) التي تملك طيفا واسعا من الانفعالات وإدراك عمق كل منها وعلاقتها بالشخصية التي تؤديها ما جعلها ممثلة من العيار الثقيل، حيث يكمن باستطاعتها أن تفاجأ الجمهور بردود فعلها وعدم قدرة المشاهد على التنبؤ بما ستقوم به من حركات وإيماءات لاتشبه أحدا غيرها، فهى على حد اعتقادي سيدة الأداء المصري بلامنازع بامتلاكها أصعب المهارات المتوقعة من الممثل، والمقصود بها القدرة على الانكشاف العاطفي أو كما يسميه البعض (التعري العاطفي) الذي يعني استعداد الممثل لعرض مشاعره الإنسانية بشكلها الحقيقي في موقف درامي ما ضمن القصة التي يمثلها، إذ يكمن سبب ضعف الأداء لدى العديد من الأشخاص في هذه النقطة، على عكس (غادة) التي تعرف كيف تتحكم في لغة جسدها بطريقة احترافية تمنحها القدرة على التألق والتفوق في تقمص مختلف الشخصيات التي تجسدها ببراعة فائقة.
(غادة) كما لاحظت من خلال مشاهدتي المتأنية لمجمل أعمالها لا تلجأ أبدا إلى تزييف ردود فعلها واختلاق مشاعر غير حقيقية وتقديمها للجمهور، فهى تدرك جيدا أن مثل تلك التصرفات تضع حاجزا بين الشخصية التي يؤديها والمشاهد، عوضا عن التأثير به وسحبه إلى عالم القصة، وهى في هذا المضمار تلجأ إلى تأدية دورها وفقا لمزاجه الخاص، في هذا تجبر نفسها على تمثيل انفعالات الشخصية، وهذا ما يميز الممثل المخضرم عن الممثل الصاعد، إذ يساعد تراكم الخبرة لدى الممثل القديم بزيادة ثقته بعمله حتى إن أخطأ في بعض الأماكن أو تعرض للمعوقات في أثناء العمل، على عكس الممثل الصاعد الذي يمكن لأي مطب صغير أن يوقعه بالارتباك.
مما لاشك فيه أن البشر يملكون طيفا واسعا من الأصوات التي يمكن إصدارها من الحنجرة، ولكننا نستخدم عددا محدودا جدا منها، ولكن في حالة (غادة عبد الرازق) فإنها كممثلة محترفة للغاية تعمل على تدريب حنجرتها ولسانه على أداء أكبر عدد ممكن من هذه الأصوات، خصوصا أن الصوت أداة رئيسية في مهنة التمثيل، وبالتالي القدرة على التحكم بالصوت تعني القدرة على ضبط إيقاع كلمات النص بما يناسب اللحظة الدرامية لكل منها، ولعل واحدا من أهم الأسباب التي تدفع الممثلين إلى تصنع أدوارهم عوضا عن تقمصها بشكل جيد، تمثيلهم الدور كما يرونه من دون تطبيق أي من نظريات التمثيل، وأشهرها نظرية Stanislavsky، وهى نظرية تحتوي على مجموعة من التقنيات التي تساعد الممثل على الانتقال بوعيه إلى الشخصية التي يؤديها، وبالتالي تفعيل أفكار وأحاسيس وانفعالات الشخصية عوضا عن مشاعره الشخصية، تماما كما تفعل غادة في كل أدوارها.
تستخدم (غادة عبد الرازق) تكنيكا خاصا بها عند الشروع في الدخول للبلاتوه من خلال خطوات استكشافية لمعالم الشخصية وإضفاء نوع من المهارة الحرفية العلمية الواجب اتباعها قبل الظهور على الشاشة، فهى أولا وقبل كل شيىء تتعرف على الفكرة الأساسية من خلال قراءة النص بتمعن، وأن تتعمق بقراءة الحوار وأن يتتشف ماخلف السطور من معاني تجسد عمق وجوهر المعنى والمستتر ماخلف الكلمة، أي ماخلف السطور، وما تعنيه من المعنى الحقيقي للكلمة ليتسنى لها التعبير عنها وفق دافعها الفوقي وما تعنيه من المعنى الحقيقي لها ، لأن الكلمة قد تتاثر بأجواء الفعل والحدث ويعني باطنها غير ما يعنيه ظاهرها، غير أنها تسطيع أن تعطي لها معاني ودلالات غير ماتحملها صورة حروفها ، عليه يمكنها إيجاد العلاقة مابينها ومابين الشخصيات الأخرى بموجب ماتمليه عليها شخصيتها وفق تحليل شخصيته وإيجاد الأبعاد الثلاثه (البعد الطبيعي، البعد النفسي، البعد الاجتماعي).
(غادة عبدالرازق) تلك النجمة التى سحرتنا بطلتها الجميلة عبر شخصيات عديدة قدمتها في السينما والتلفزيون، وقوة موهبتها الطاغية، التى تمتلك ابتسامة غامضة تضئ وجهها، وتنير كافة الظلمات المتراكمة القابعة في أعماقها، (غادة) صاحبة الألف وجه والتى تتجمع خصالها كلها في ابتسامة حارة، ونظرة حزينة والتصاق حميما بنا وبأحلامنا ومشاعرنا المكبوتة ورؤانا الصغيرة، وآمالنا التى تقودنا أحيانا عكس الريح، ماذا فعلت هذه الموهوبة الصارخة بالإبداع الحقيقي حتى لا نراها على قنواتنا المصرية سواء ممثلة ونجمة في قلب رمضان؟!
لقد أرادت الأيدي العابثة أن تحدث النكبة الحقيقية وأن توقف نهر إبداعها الذي يتدفق بالحيوية والنشاط والغوص في مناطق شائكة في الدراما الاجتماعية التي تنتمي للطبقات الشعبية في مصر، فمنذ عام 2018 على أثر أزمة بينها وبين شركة إعلام المصريين بفعل التراشق بينهما، وتوالت ردود الأفعال وقتها على ما نشرته الفنانة المصرية بخصوص محاربتها من قبل مجموعة (إعلام المصريين) وشركة (سينرجي للإنتاج الفني والسينمائي)، حيث سعت أيد خبيثة للوقيعة ومنع وجودها في دراما 2019 على حد قولها.
كانت غادة عبدالرازق قد قالت على (إنستجرام) أن المجموعة أوعزت لشركات الإنتاج الأخرى بعدم التعاون معها، وأرجعت ذلك إلى أن هناك من تعمد رفض مشاركتها في السباق الرمضاني، وأنها ليست الوحيدة المهددة بذلك، وجاءت ردود أفعال مختلفة تشير إلى تجني غادة عبدالرازق على مجموعة (إعلام المصريين)، وبعد أن انهالت عليها التعليقات ومهاجمتها على الصفحة، أغلقت غادة التعليقات على المنشور الذي أعجب به بعض الفنانين منهم (نسرين أمين، طارق العريان، دينا، إيمي سمير غانم، ولطيف)، ليغلق الستار على آخر أعمال عبدالرازق مسلسل (ضد مجهول)، وهو من إنتاج شركة سينرجي المملوكة للمنتج تامر مرسي، رئيس مجلس إدارة (إعلام المصريين)، الذي هاجمته أنذاك.
والآن بعدما تغيرت المواقف وتبدلت الأحوال وتم ضم إعلام المصريين للشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، فهل من نظرة أخرى مغايرة لإعادة أهم وأكفأ وأبدع نجمة مصرية إلي بيتها القديم (الدراما المصرية الاجتماعية)؟، والسؤال الذي يطرح نفسه وبقوة الآن: ماذا فعلت (غادة عبد الرازق) حتى يتم الحجر عليها وعلى موهبتها ومنعها من الوصول إلى جمهورها العريض في الشارع المصري؟، صحيح أنها موجودة بقوة لكن من خلال فضائية عربية وليست مصرية!، لكن ماذا فعلنا لها نحن كإعلاميين لنأخذ بيدها ونعطيها الثقة في نفسها وفي موهبتها؟!، وسؤال آخر: إلى متى سيستمر هذا الوضع؟، وكيف نضييع بأيدينا موهبة مصرية كاسحة ارتدت كل المشاعر الإنسانية من خلال أدوارها المتنوعة؟!
أسئلة حارة حارقة نطرحها على أنفسنا لأن (غادة) ليست مجرد نجمة أحببناها، لكن لأنها موهبة متفجرة أسعدتنا طوال السنوات الماضية، ومازالت بهذه الموهبة التى منحها لها الله سبحانه وتعالى واختصها بها عن سواها، منذ فترة والشائعات تهمس والحقائق تؤكد، ورغم كل هذا لم نخرج بشيئ مفيد، ومازال الوضع كما هو لم يتغير!، رغم أن الساحة تضج بأنصاف وأرباع المواهب التي لاترقى إلى التعلق بزيل فستان (غادة عبد الرازق)، التي تعد أهم وأنضج ممثلات هذا الزمن على مستوى تكنيك الأداء والحركة والتجسيد بكامل المشاعر المتدفقة وبكل جوارحها، وهى لاتحتاج فقط إلا لورق جيد يبرز قدراتها كممثلة مصرية برعت في العديد من الأعمال الدرامية التي تشكل علامات بارزة في الفن المصري الحديث.
غادة اعتادت تغيير شكلها حسب الشخصية التى تؤديها ففى شخصية (نعمة الله) التى قدمتها فى مسلسل (عائلة الحاج متولي) قدمت (كاراكتر) لاينسى من عدة نواحى، فطريقة كلامها وردود فعلها ووجهها وملابسها التى اشتهرت بها وقتها بالعبايات و(القمطة) و(الغوايش الدهب) لا تختلف كثيرا عنها فى مسلسل (الباطنية)، الذى بدت فيه امرأة أكثر جمالا، وكانت (الشيشة) تلازمها فى أغلب الحلقات كى تتناسب مع شخصيتها فى المسلسل، وأيضا نفس الأمر تكرر مع (زهرة وأزواجها الخمسة) الذى اتبعت فيه (ستايل) خاص لتشتهر بكثرة ارتدائها (العبايات) مع لفة طرحة معينة تتناسب مع الشخصية، وربما اقتربت من ذلك أكثر مع شخصيتها فى (سمارة – بالملاية اللف والجلابية البلدى والبرقع)، إلا أنها عادت للاختلاف فى مسلسل (بارتدائها الملابس الكلاسيكية لتكون ملائمة للشخصية، وكذلك فى مسلسل (الكابوس) جاءت بـ (لوك) جديد أو مختلف يبهر الجمهور، فكان أغلب ملابسها تميل إلى اللون الأسود مع لفة طرحة (اسبانش).
وقد خطفت الأنظار من خلال ملابسها فى (حكاية حياة) والتى تعكس أنوثتها، ثم جاءت فى (أرض جو) لتتمتع برشاقة وأنوثة جعلتها تبدو أصغر من عمرها الحقيقي، وتعمدت عدم خلق تقاليع كى تلفت الانتباه ولكن جمالها الطبيعى مع ملابسها التى ارتدتها كمضيفة طيران وفساتين ولوك آخر جعلها فى عيون الجميع نجمة لامعة، لكنها افتقدت ذلك البريق الأخاذ فى الأداء جراء سيناريو ضعيف وحوار ساذج أوقعها فى فخاخ كثيرة نالت من نجوميتها التى كادت أن تتلاشى بنهاية هذا المسلسل، والذى يعد نقطة سوداء فى تاريخها الفنى باعتبارها (سيدة الأداء)، كما أطلقت عليها هذا اللقب ثناءا على دورها فى مسلسل (الكابوس – 2015) أي قبل 7 سنوات من الآن.
صحيح أنه بمجرد إبعادها خلال السنوات الأربع الماضية قد تراجع نجمها قليلا، ولكن لاننسى أنه (بفعل فاعل)، وربما من خلال أعمال لا ترقى لمستوى أدائها المبهر، لكننا سنفتقد أداء تلك الساحرة في الأداء في الموسم الرمضاني 2022، نعم سنفتقد تلك السخونة التي تتمتع بها في أدائها الخرافي الخلاب الذي يبدأ عادة في أولى الحلقات بمنتهى الإثارة والتشويق، ويستمر فى الحفاظ على إيقاع سريع للحلقات حيث يحمل تعددا فى الشخصيات الدرامية وخلفياتها بصورة واضحة، وحتما لايصب المشاهد بالملل حتى فى استعراض الشخصيات الفرعية التى يكون لها أدوراها فى الحلقات التالية، وهو ما يوضح أن (عبد الرازق) تنجح في كل تجربة تخوضها فى الإلمام بتفاصيل الشخصية التي تلعبها.
لقد أثبتت النجمة (غادة عبدالرازق) من خلال أعمالها المختلفة أنها تستطيع دائما أن ترسم لنفسها طريقا مختلفا فى الأداء التمثيلى إذا توفر لها ورق جيد، ولا ينافسها فيه أحد، كما أن أسلوب اختيارها لأعمالها يتسم بعدم التردد وبالجرأة فى اختيار أعمال مثيرة للجدل، وهى فى العادة لا ترضى بالأدوار العادية التقليدية التى لا تضيف إلى رصيدها الفنى عند جمهورها، والذى اعتاد أن يراها دائما فى المقدمة وفى صدارة المشهد الفنى وعلى قمة النجاح، فهى تتبع قاعدة التمثيل بحسب (هارفى كاتيل)، والتى تقول: إن التمثيل عبارة عن رحلة إلى الداخل لمعرفة الذات وفهم المشاعر والدوافع والقدرات، إنه يحتاج إلى امتلاك تلك القدرة على ارتياد وسبر وفهم والتعبير عن تلك الوفرة من الأحاسيس التى تحتدم بداخله، وكما اكتشف (كاتل) أنه من خلال التمثيل وحده يستطيع أن يفعل ذلك، بأن يعبّر عن ذاته، وأن يجسد المشاعر والانفعالات التى لا تجد لها مخرجا أو منفذا إلا عبر التمثيل.
دائما ما تجيد (غادة عبد الرازق) في أدائها بألعاب تمثيلية احترافية تضعها فى مصاف النجوم الأوائل، وهى بالتأكيد فى كل مسلسل تدخله تحرص على عناصر التشويق والغموض والإثارة، مثل الكثير من أعمالها السابقة، من خلال وجود لغز فى المسلسل يخلق حالة من التفاعل الإيجابى مع الناس والجمهور، فكما هو مؤكد فإن الحيرة والقلق يزيد من المتابعة وانتظار الحلقات بفارغ الصبر، فضلا عن ذلك فإنه يصنع حالة من التخيلات والتخمينات والأحاديث عن العمل، وهذا ما تحبه (غادة)، وتعتبره نوعا من أنواع النجاح، لأن العمل موجه إلى جمهور، وما دام هذا الجمهور تفاعل مع المسلسل على هذا النحو، فهو دليل على قدرة المسلسل الفائقة فى جذب انتباه المشاهد.
ولعل الإقبال الكبير ونسب المشاهدة الضخمة التى حققها مسلسلها (ضد مجهول – 2018) آخر أعمالها مع (سينرجي) أكد في حينه أن الجمهور المصرى أصبح يفتقد للدراما الاجتماعية بمثل هذه النوعية، وهو ما نجح فيه (ضد مجهول)، بل إنه حقق المعادلة الصعبة فى جذب المشاهد لجريمة يعرف جيدا من قام بها، ولكنه يصدم بأن بطلة العمل لا تستطيع أن تعيد حق ابنتها المقتولة، وفى نفس الوقت، يشهد العمل خطوط درامية متفرعة تنم عن عمل درامى متكامل، لجأ لأسلوب السهل الممتنع فى السرد والذى رسمه السيناريست المبدع (أيمن سلامة).
ربما يتساءل البعض عن سر نجومية (غادة عبدالرازق) التى يزداد بريقها يوما بعد يوم، وأيضا ربما يتساءل آخرون عن تلك العلاقة الغامضة التى تربط بينها وبين المشاهد منذ الوهلة الأولى ، والإجابة ببساطة: أنها أصبحت ظاهرة فنية فريدة قلما يجود الفن بها، باعتبارها بطلة متميزة تمتاز برشاقة لافتة تكسوها جوانب من المرونة فى الأداء التمثيلى والبراعة فى اختيار الأدوار ودراستها بعناية فائقة وعمق وفهم كل أبعاد الشخصية التى تؤديها، تماما كما أمتعتنا بنجوميتها فى أدوار الرومانسية والحب، وفى أدوار مركبة غاية فى التعقيد ولكنها ببراعة وذكاء ومن ثم جسدت هذه الشخصيات بدون أن نشعر بمعاناة، وكأنها لا تمثل، فهى تلقائية وعفوية ومنطلقة فى كل أدوارها، ولذلك فى كل مسلسلاتها تنجح وتبهرنا بجاذبية وطاقة جبارة وقوة إشعاع على الشاشة تخطف القلوب قبل الأبصار، لذا يبدو لي غيابها عن موسم رمضان 2022 نكبة حقيقية.