بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
سبحان الله، لا زال إلى الآن اسم الفنان الكبير الراحل عبد الحليم حافظ يتردد بين الناس، لم ينسه أحد، ولا زالت أغانيه تثير الإعجاب وتحرك المشاعر، لك أن تتأمل الكلمات مع اللحن مع الأداء لتعرف أن عبد الحليم كان أكاديمية متحركة للغناء، ثم لك بعد ذلك أن تشاهد أفلامه لتكتشف موهبة كبيرة في فن التمثيل، خفة ظل وتلقائية واندماج كامل في الشخصية التي يؤديها، شاهده في (الوسادة الخالية) مع لبنى عبد العزيز لتعيش معه قصة حب رومانسية، قصة الحب من أول نظرة، تلك القصة التي كتبها إحسان عبد القدوس وسجل فيها (حب المراهقين) الذين يبحثون عن الحب، فيجدونه في أول فتاة يرونها ويظنون أنها تعلقت بهم، وستتشارك مع عبد الحليم وهو يؤدي تلك الشخصية، وستعيش معه في عذاباته واحتراق قلبه عندما تزوجت حبيبته من غيره، أجاد عبد الحليم في أداء تلك الشخصية حتى وهو يسير في شارع السبق بمصر الجديدة لينظر إلى نافذة أو شرفة حبيبته لعلها تطل عليه، إذا نظرت لعينيه وهو ينظر للشرفة ستجد القلق وقد ارتسم فيهما، بل وستخرج من الفيلم باعتقاد جازم بأن عبد الحليم أحب لبنى عبد العزيز، ثم في نهاية الفيلم سيكتشف عبد الحليم حبه الحقيقي، حبه لزوجته زهرة العلا، وستظن وقتها أن حليم أحب بشكل حقيقي زهرة العلا خاصة عندما رآها تعاني من آلام الولادة، لاشك أن لبني عبد العزيز أجادت هي الأخرى، ولا شك أيضا أن زهرة العلا كانت عبقرية في أداءها لدرجة أنني أعتبر أنها وصلت في هذا الفيلم إلى أعلى درجاتها الفنية.
وهكذا كان عبد الحليم حافظ الممثل، مبدعا في كل فيلم مثله، حتى أول أفلامه التي أداها عام 1955 وهما (لحن الوفاء) و(أيامنا الحلوة) كان رائعا فيهما مما يدل على أن الله كما أعطاه موهبة الغناء وحلاوة الصوت ورقة الإحساس فإنه أعطاه أيضا موهبة التمثيل، المهم أن عبد الحليم كان حالة متكاملة، له شخصيته وكاريزمته، وستجد على الناحية الأخرى مواهب غنائية ممتازة لكنها فشلت في التمثيل بامتياز، مثل الفنان الراحل محرم فؤاد، وأيضا ماهر العطار، ثم عمرو دياب وهكذا، إلا أنني بمناسبة هذا والشيء بالشيء يُذكر فإنني يجب أن أشيد بتجربة الفنان (حمادة هلال) في التمثيل، وكذا تجربة (مصطفى قمر)، فكلاهما أجاد الأدوار التي قام بها ونجح فيها نجاحا كبيرا.
ما علينا، نعود إلى عبد الحليم وتجربته في التمثيل والغناء التي جرَّت عليه العديد من المشاكل، أولها مشاكله مع الحركة الإسلامية التي كانت تكرهه كراهية التحريم، حتى أن شيوخهم كانوا يقولون عليه (عبد الحليم حرام شرعا) وفي فترة السبعينيات انهال الشيخ عبد الحميد كشك على عبد الحليم سبا وقذفا وسخرية، ففي إحدى خطبه سخر من أغنية (زي الهوا يا حبيبي) التي يقول عبد الحليم في أحد أبياتها (واتاريني ماسك الهوا بإيديا … ما سك الهوا)، وأخذ يسخر من كيفية مسك عبد الحليم للهواء، وفي خطبة أخرى يسخر منه لأنه قال في أغنية (إني أتنفس تحت الماء) ووصفه بأنه سمكة لكي يستطيع التنفس تحت الماء، وفي خطبة ثالثة يتهمه بشرب الخمر ويقول إن الخمر قد لعب برأسه عندما احتار في أغنية (فاتت جنبنا) فأصبح لا يدري هل ضحكت له حبيبته أم ضحكت لصاحبه؟!.
أما وجدي غنيم داعية الإخوان الذي يضعونه في مرتبة كبيرة، لم يكتف هذا الوجدي بالسخرية من عبد الحليم حافظ ولكنه في عدة خطب كان قد ألقاها في الأسكندرية بعد وفاة عبد الحليم قام باتهامه بالإلحاد والكفر، وقال إنه يعلم أن عبد الحليم في النار لأنه في أحد أغانيه قال (قدرٌ أحمق الخطا) وأن من يتهم القدر بالحماقة كافر كافر، ثم أكد على كفره من خلال كلمات أغنية (جئتُ لا أعلم من أين ولكني أتيتُ)، ثم استمر وجدي غنيم على طريقته في التكفير والسخرية حتى أنه ظهر في أحد البرامج التي تبث من تركيا مع مذيع من مجاهيل الإخوان وأخذ يشتم في عبد الحليم ويتهمه بالفجور لأنه في أغانيه كان يدعو الناس للحب، والحب عندهم هو دعوة للفجور، وكأن تلك الطغمة المنحرفة عقائديا لا تريد أن تترك عبد الحليم بعد وفاته.
وكلهم نسي كتب الحب والعشق التي كتبها كبار الفقهاء مثل ابن حزم الأندلسي وكتابه (طوق الحمامة) الذي يحكي فيه ابن حزم بعض قصص العشاق والمحبين ويضع فيه دراسة ممتعة عن الحب ومشاعر من منظر إنساني تحليلي، وفيه يكتب عن الحب من النظرة الأولى وقصص العشاق الذين وقعوا في هذا الحب، وأيضا المفسر الأشهر للقرآن الكريم (جلال الدين السيوطي) له ست كتب عن الجنس وكيفية ممارسته أكد المؤرخون صحة أربعة من هذه الكتب وحدث اختلاف في صحة كتابين، ليس هذا فحسب ولكن الإمام محمد الغزالي صاحب (إحياء علوم الدين) له في الإحياء فصول عن الجنس ومنها فصل (شهوة الفرج).
وفي حياة عبد الحليم حافظ لم يسلم من شيوخ الأزهر، فعندما كتب له عبد الرحمن الأبنودي أغنية (المسيح) عام 1967 اقتضى الأمر رقابيا أن تذهب كلمات الأغنية للأزهر الشريف كي يوافق عليها، بحسب أنها أغنية عن السيد المسيح يغنيها مطرب مسلم في مصر وليس في الفاتيكان، وجاء الاعتراض من الأزهر ممثلا في رأي الشيخ (حسن مأمون) شيخ الأزهر وقتها، الذي طلب تغيير بعض الكلمات، إذ رأى الشيخ أن الكلمات تتبنى ما جاء في الأناجيل عن صلب المسيح، وطلب الشيخ تغيير كلمة (صلبوه صلبوه نفس اليهود) إلى (خانوه خانوه نفس اليهود) ، وقام بليغ حمدي بتلحين تلك الأغنية، ولم يستطع عبد الحليم غناء هذه الأغنية في مصر أو في أي دولة عربية ولكنه غناها في لندن عام 1967 في قاعة مسرح (رويال ألبرت هول) وهى قاعة شهيرة قديمة أطلقت عليها الملكة فيكتوريا (ألبرت) إحياء لذكرى زوجها الأمير ألبرت، وفي هذه القاعة حضرت الآلاف من الجماهير العربية لتستمع لتلك الأغنية التي تنتصر لقضية الإنسان الفلسطيني في بلده المحتل وعن خيانة اليهود المتأصلة فيهم منذ فجر التاريخ، وكانت هذه هي المرة الوحيدة التي غنى فيها عبد الخليم تلك الأغنية حيث اعترض عليها اليهود ومشايخ المسلمين، ولا تزال الإذاعة المصرية والتلفزيون المصري ممتنعين عن إذاعة تلك الأغنية إلى الآن!!.
ولا زلنا مع الأزهر حيث ننتقل إلى الشيخ صلاح أبو اسماعيل والد الشيخ حازم صلاح أبو اسماعيل له قصة مع عبد الحليم حافظ، كان الشيخ صلاح من رموز الإخوان في الأزهر، وكان مديرا لمكتب الشيخ الفحام شيخ الأزهر في الستينيات ثم أصبح مديرا لمكتب الشيخ عبد الحليم محمود أشهر شيوخ الأزهر في بداية السبعينيات، وكان الشيخ صلاح أبو اسماعيل يخطب الجمعة في أحد المساجد بالجيزة، ثم كان له درس أسبوعي يوم الثلاثاء في مسجد الخلفاء الراشدين بمصر الجديدة، ومن على منبر هذا المسجد أصدر الشيخ صلاح فتوى بتكفير عبد الحليم حافظ وأن دمه حلال لأنه أعرب عن كفر بواح بأن قال في أغنية له (قدرٌ أحمق الخطا) وقال في أغنية أخرى (جئت لا أعلم من أين ولكني أتيت) وأن ترديده لتلك الكلمات يؤكد كفره، ثم عاد الشيخ بعد وفاة عبد الحليم عام 1977 ليحرم صلاة الجنازة عليه وأستند في ذلك إلى كلمات الأغاني السابقة ثم زاد عليها بأن عبد الحليم مارس الفجور في فيلم (أبي فوق الشجرة) وأنه أيضا على المسرح قام بتقبيل امرأة غريبة عليه هى الفنانة (وردة) التي صعدت على المسرح في إحدى أغنياته فقبلها من خدها، وهى قبلة رأي الشيخ صلاح أنها نشر للفجور.
وفي النهاية يجب أن تكون هناك قصة، والقصة عن (يوم) كانت نقابة المحامين قد قررته عام 2002 لمساندة الشعب الفلسطيني، وكنت وقتها على وشك الخروج من الإخوان وتطليق جماعتهم ومشروعهم الفكري طلقة بائنة بينونة كبرى، وجاءت كل القوى السياسية لتشارك في هذا اليوم، وكنت قد اتفقت مع بعض الشباب الناصري على أن أقيم معهم ـ بعيدا عن الإخوان ـ معرضا لجهاد الفلسطينيين وكانت خلفية هذا المعرض بعض الأغاني الوطنية لعبد الحليم حافظ مثل أغنية (أحلف بسماها وبترابها) وأغنية (فدائي) وغيرهما.
وكذلك وضعنا أغنية المطربة فيروز (يا قدس عيوننا إليك ترحل كل يوم) وعندما سمع أمين عام النقابة الإخواني أحمد سيف الإسلام حسن البنا صوت عبد الحليم ثم صوت فيروز حتى أصابه الفزع وقام على الفور بإلغاء هذا اليوم وقطع الكهرباء عن النقابة حتى لا يتم إذاعة تلك الأغاني، وعندما نقلت الخبر لصديقي مختار نوح الذي كان في السجن وقتها فإذا به يقول ضاحكا: جته خيبة، هو فيه حد يقدر يجادل في فيروز وعبد الحليم!!، فيروز وحليم حلال شرعا، وسيف الإسلام ابن حسن البنا حرام حرام حرام.