بقلم : محمود حسونة
فرق كبير بين أن يمارس الفنان حريته بشكل منفلت يدوس على القيم ويشوه المجتمعات ويسئ إلى فئات أو طبقات أو أشخاص، وبين أن يمارس حريته بشكل مسؤول وبما لا يمثل اعتداءً على حياة الآخرين وعاداتهم وقيمهم، وبما لا يدوس على أوجاعهم ولا يتاجر بآلامهم.
العمل الفني يمكن أن يوحد كما يمكن أن يفرق، ومسلسل (من شارع الهرم إلى..) والمقرر عرضه على قنوات شبكة (إن بي سي) ومنصة (شاهد) خلال شهر رمضان، يكاد يخلق فتنة بين الشعب المصري الغيور على وطنه الرافض لأي إساءة إلى نساء شعبه، وبين الشعوب التي ينتمي إليها صناع هذا العمل تأليفاً وإخراجاً وتمثيلاً وإنتاجاً، وهى فتنة أطلت برأسها على مواقع التواصل الاجتماعي بين المصريين وقطاع عريض من العرب يرفضون هذا المسلسل شكلاً وموضوعاً ويطالبون بوقف عرضه، وبين المدافعين عن حق المسلسل في العرض بصرف النظر عما يحمله من إساءات للشعب المصري، وهى الفتنة التي يمكن أن يقتلها في مهدها قرار بعدم عرضه.
البعض اعتبر أن من يحكمون على المسلسل بأنه يحمل إساءة للمصريين متسرعين، وأنه ينبغي الانتظار حتى عرضه، وكأنهم لا يدركون أن (الجواب بيبان من عنوانه)، والعنوان في ذاته يكشف مضمون المسلسل ويفضح نوايا صناعه، فعنوان (من شارع الهرم إلى..)، يؤكد أنه يحمل إساءة للمصريين وخصوصاً أن شارع الهرم في الذاكرة الجمعية المصرية هو الشارع الذي أقيمت به بعض الكباريهات والملاهي الليلية التي يهوى ارتيادها الأثرياء الذين اعتادوا إنفاق جزء من ثرواتهم على اللهو والمجون، وهو ما ينطبق على أثرياء مصريين وأثرياء عرب، وهو شارع يوجد له نظير في معظم العواصم ان لم يكن جميعها، وبالتالي فالعنوان في ذاته يحمل دلالة على أن المسلسل سيتعرض بشكل أو بآخر لنمط العاملين في هذا الشارع أو مرتاديه.
عندما يكشف الإعلان الترويجي للمسلسل عن راقصة تبدو مبتذلة من المشهد الذي أطلت عبره، وعندما يتسرب أنه يدور حول راقصة مصرية تذهب للرقص في حفل زفاف لدى عائلة كويتية ثرية، وتستخدم أساليبها لإغواء رب الأسرة حتى تهدم هذه الأسرة (المتماسكة)، فهو ما يعني أن المسلسل يقدم نساء مصر راقصات غوايات و(خرابات) بيوت، ولكن ما لم يثره الناشطون على مواقع التواصل من الجانبين أن هذا المسلسل يسيء لرجال الكويت ويظهرهم جاهزين للإغواء ومستعدين للتخلي عن أسرهم لأجل راقصة، كما يظهر العائلة التي يعمل كل أفرادها في المجال الطبي كعائلة مهترئة جاهزة للتفتت حتى ولو بدت من الخارج متماسكة.
(من شارع الهرم إلى.. ) تم تغيير اسمه عدة مرات، حيث كان في البداية (من شارع الهرم إلى المسايل) ثم تم تغييره إلى (من شارع الهرم إلى المسيلة)، والمسيلة والمسايل منطقتين بالكويت يقطن بكل منهما عائلات مرموقة، وخوفاً أو احتراماً لسكان المنطقتين تم الاستقرار على (من شارع الهرم إلى..)، من دون أي احترام لسكان شارع الهرم في مصر ولا المرأة المصرية ولا الشعب المصري كله!!
(من شارع الهرم إلى..)، هو مسلسل يحمل تنمراً من مؤلفته ومخرجه ومنتجه وجميع المشاركين فيه على الشعب المصري، ويمنح الفرصة لمن يبحثون عن شيء يتنمرون به على المصريين عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وإذا كان الغضب الحادث الآن على السوشيال ميديا قد انفجر بسبب إعلان ترويجي للمسلسل.. فماذا سيكون حجم الغضب عند عرضه بتفاصيله؟!
هذا المسلسل يعد ابناً شرعياً لزمن القبح الفني الذي نعيشه، بعد أن تحول الفن من ميدان للجمال وساحة للرقي إلى دولة للقبح ومدينة للانحطاط، وبدلاً من أن يرتقي بالنفس البشرية أصبح ينحدر بها بعد أن هبط بالذوق بالصورة التي نطالعها في عوالم الغناء والسينما والدراما، وطالما توافقنا أننا نعيش في زمن القبح، فمن حق أي مدعي فن أو إبداع أن يستغل حرية التعبير في الإساءة للآخر، وعندما يكون هذا الآخر شعباً صاحب حضارة ضاربة في أعماق التاريخ ويدرك أعداءه قبل أصدقاءه وأشقاءه أنه هو أول من عرف العلم والفن والإبداع، وهو الذي علم الدنيا وستظل حضارته شاهداً له، يكون القبح الفني قد بلغ منتهاه.
الإساءة من الشقيق دائماً ما تكون أشد إيلاماً وأكثر وجعاً، وهذا المسلسل هدية بعض الأشقاء غير الأشقاء للمصريين في شهر رمضان، بعد أن أغواهم الغاوون ليقدموا مسلسلاً يسيء للمرأة المصرية ويتجاوز في حقها، ويبدو أن المؤلفة (هبة المشاري حمادة) لا تجد المرأة المصرية سوى راقصة، علماً أن الرقص مهنة يمتهنها قليل جداً من النساء في كل شعوب الدنيا، وترى المؤلفة أيضاً المصرية (خطافة أثرياء)، ومن المؤكد أن المؤلفة ومعها المخرج والقائمين على هذا العمل المشين لا يقرأون ولا يبحثون ولا يسألون، وبالتالي لا يعرفون أن المرأة المصرية كانت تحكم وتقود الجيوش وتنتصر في المعارك، ونساء الدنيا مستعبدات مقهورات يتعامل معهن الرجال كجواري، ولا يعرفون الملكة (إياحة حتب)، والملكة (مريت نيت) والملكة (حتشبسوت) والملكة (نيت إقرت) والملكة (نفرتيتي) والملكة (تاوسرت) والملكة (نفرتاري)، والملكة المصرية المقدونية والساحرة الداهية (كليوباترا)، وأيضاً لا يعرفون (شجرة الدر) التي أخفت خبر وفاة زوجها نجم الدين أيوب، وتولت الحكم حفاظاً على وحدة الجيش الذي كان يقاتل الصليبيين في معركة المنصورة الشهيرة، وأيضاً لا يعرفون السيدات الأوائل في مجال الطيران والذرة والقانون والصحافة وتعليم المرأة (لطيفة النادي وسميرة موسى وأمينة السعيد ومفيدة عبدالرحمن وصفية زغلول وهدى شعراوي) وغيرهن الكثيرات ممن ملأن الدنيا نوراً وإشعاعاً في عصور كانت ظلام في ظلام.
ليت هؤلاء الذين لا يعون قيمة الحرية ولا معنى الإبداع يدركون أن الجبل لا يهزه ريح، وأن محاولاتهم النيل من مصر الحضارة والتاريخ والعلم والاعتدال والتسامح هى محاولات لن تقل عنهم فشلاً ولن يحققوا نجاحاً ما داموا يحاولون أن يكون على حساب حقائق التاريخ وقيم الشعوب، ولن يجنون سوى غضب على غضب.
وبعيداً عما سيجنيه هؤلاء من الإساءة للكبار، فلا ينبغي أن يترك أصحاب القرار هؤلاء الباحثين عن الشهرة وإثارة الجدل يعبثون بمقدرات الشعوب ويسيئون إلى الدول ويثيرون فتنة وينثرون بذوراً للكراهية والحقد بين أبناء الأمة.
mahmoudhassouna2020@gmail.com