بقلم الفنان التشكيلي الكبير : حسين نوح
في أول زيارة للإقامة في القاهرة وكنت لا أعرف عنها شيئ الا من خلال السينما التي أعشقها منذ نعومة أظافري وبعض الكتب فكل خيالاتي سينمائية حالمة.
القاهرة هى نجمات السينما وأبطالها وشقاوة حسن يوسف ويوسف فخر الدين وشكري سرحان وسعاد حسني وشمس البارودي ونوال أبو الفتوح حبذا لو هند رستم، فقد شاهدت ما يحدث في أفلام (هى والشياطين وحمام الملاطيلي وحكاية ثلاث بنات وليلية الزفاف، وابن حميدو).
وأنا النازح الضحية لمراهقة الأقاليم ولدي عشم في القاهرة العامرة بالفاتنات وبعيداً عن ملاحقة (الحاجة نوحة) وهي تردد ذاكر.. ذاكرت.. حتذكر!.. كلمات كان لها وقع على أذني كأنها تطلب مني التطوع للجهاد ضد الأعداء.
أخيراً أنا في زيارة لأخي وأبي (محمد نوح ) في القاهرة العامرة، وفي إحدي الأيام بعد وصولي وأنا أقف بجوار شقيقي (شاكر) في البلكونة ونحن بالدور الثامن ظهرت لي من بعيد في عمارة تطل علي حديقة الأزبكية رأساً فتاة.. نعم أنثي كاملة المعالم والفاكهة المثمرة. وقد انعكست الشمس على شعرها المسدل عل كتفيها. وأصبح المشهد جاذبا للنازح المراهق، ولم تسقط عيوني كصقر عنها.. وأخي ينظر لي ولا يتخيل القادم.
الفتاة تعرف أن في تلك البلكونة يعيش (محمد نوح)، وقد أصبح نوح معروف عند البعض وخاصة الجيران، فقد شاهدوا مسرحيه (سيد درويش)، ومسلسلي (صابحة، والزوجة الثانية)، ولم تمضِ دقائق وابتسمت ومالت تستعدل شعرها الكستنائي وأستعدلت أنا واستدعيت طاقتي وانطلقت للداخل فلم أجد إلا طبقا به بطيخ، وبسرعه أحضرت قطعة بطيخ وكتبت بعد أن وقفت فوق كرسي بالخط الكبير فوق باب البلكونة (922408) رقم لم أنساه، وهكذا ارتمت السنارة وانتظرت السمكة واختفت الجميلة وتقريباً وقفت باقي اليوم في البلكونة، ولكن عبثاً وقد اختفت كل الأسماك، وكانها قد هاجرت أو تأكدت أن الصياد مقيم وقاطع تذكرة انتظار.
وفي ظهيرة اليوم الثاني استيقظ (نوح) وكان أخي شاكر قد توجه إلى وحدته بالجيش، وسألني نوح أنا عندي بروفة في التليفزيون.. ايه رأيك وأجبت بسرعه كطفل مذاكر لا أنا قاعد أقرأ.
ورن جرس التليفون وكصقر يلتقط ثعلب، كانت السماعة علي أذني وصوت سمائي ناعم:
بطيخ معقول تكتب ببطيخ وعلقت.
وشمام ونظرت لنوح، وتحول وجهي كألالوان التي تظهر قبل الإرسال Color bars tv، وعلقت بكلمة:
انت ازاي قمر كده.. وأعقبتها بأخري للتأكيد:
انت ازاي قمر كده.. ولؤم طيب أنت وكأني أتحدث إلى صديق.
شعر نوح وأبويا الحنين ان السنارة بتلعب فانطلق يرتدي ملابسه وعلت وجهه ابتسامة دمنهوري أعرفها كما أعرف عكسها لو المود سيئ.. وسألتني الجارة القمر
شكلك عايش مع الأستاذ (نوح) صاحب بابا كان بيشتغل في السينما مصوراً.
وانطلقت وأجبت علي السؤال الأول بطلاقة:
أنا أخوه من دمنهور بدرس فنون.
وضحكت وضحكت مصر وتلاقينا وكانت شديدة الجمال وأصبحت ملاذي وتعرفت علي شوارع وسط القاهرة، وتابعت كل دور السينما.. عشقي في شوارع عماد الدين وسليمان وشريف من خلال البنوتة.. والفنانة القادمة ابنة الفنان، وكانت لا تحدثني إلا عن الفن وعشقها للتمثيل وتقربت مني وكنت أحدثها عن السينما والأبطال والمخرجين وأري منها طموح جارف لفتاة لم تتجاوز السادسة عشرة.
مرت سنوات وقد اختفت تلك الفتاة وفقط بالصدفة وأنا انتظر ميعاد الشغل مع نوح في الثمانينات بالشاليمار وجدت طاولة طويلة لمجموعة من نجوم التمثيل يحتفلون بالانتهاء من أحد الأعمال، ونظرت فوجدت وحيد سيف وفاروق فلوكس وآخرين وبينهم كانت فتاة البطيخ التي كتبت لها النمرة منذ أكثر من عشر سنوات وتذكرتني وقد مررت لألقي السلام على فاروق فلوكس فوقفت وأبلغته أنني سبب من أسباب عشقها للفن، وأني من اكتشفها.. وضحكت ضحكة عالية وانطلقت للاستعداد لبداية ظهور نوح.. انتشرت فتاة البطيخ في معظم أفلام الثمانينات وعملت مع عادل امام ثم محمد نجم، ثم في كثير مما أطلق عليها أفلام المقاولات، وسافرت لاحقاً الي ليبيا وتزوجت وعادت وعملت بعض الأفلام ثم مرضت سنه 2010 وتوفاها الله بعد معاناة مع المرض. واتذكر حين جاء نصر اكتوبر 1973، وتسابق كل الفنانين علي تقديم ما لديهم وازدحمت الاستديوهات.. معظم الفنانين ونوح كالأرض الشرقانة لترتوي بالنصر.. ليغني ويصرخ.
ورن جرس المنزل وكانت السيدة سميحة أيوب مديرة المسرح الحديث، وطلبت من نوح أن يقابلها فورا في المسرح.
عرضت عليه أن يتم عمل مسرحية تشعل حماس وفرحة المصريين بالنصر وأخبرته ان المخرج عبد الغفّار عودة أحضر شاعرا من المنصوره لكتابة الأغاني للعمل واقترح وحيث لا وقت لكتابة وتلحين أغاني، فالعرض عبارة عن أغاني نوح الحماسية التي يعرفها الشباب، ويقوم شاعر المنصورة (زكي عمر) بعمل ربط بين الأغاني بفقرات تمثيليته يلقيها الفنانون منهم فؤاد أحمد وَعَبَد السلام محمد وميرفت سعيد، ونجوم المسرح، واقترح نوح ومن خلال البروفات أن يلقي البيانات العسكرية خلال العرض، وسميت المسرحية باسم (مدد شدي حيلك يابلد).
وجاء يوم الافتتاح والمسرح عن بكرة أبيه والشباب الذي يعرف أغاني نوح يقف في الطرقات وانطلق نوح يصرخ:
مدد مدد شدي حيلك يا بلد
ان كان في أرضك مات شهيد
فيه ألف غيره بيتولد
واحميني من ليل الغربة داريني
وامسحي بقميصك طيني
أنا ابنك شادد حيلي وفي حبك أقول مواويلي
ويختم بشيلي طرح الحزن السودة والبسي توب الحرية
واطلعي بالقامة المفرودة ع السكك الاخضرانية
يا بلدنا يا أم ولادنا يازادنا يازوادنا
وتحول المسرح إلى حالة وطنية/ يصرخ نوح ويصرخ الشباب فرحاً بالنصر، وكنا أحياناً وبعد العرض نخرج ونجد شبه مظاهرات تهتف بالنصر وتردد (مدد مدد شدي حيلك يابلد).
في تلك الفتره كنت أجد نوح دائما يستمع للاسطوانات الغربية أحياناً موسيقي كلاسيكية ثم كثير لنجوم البوب، أمثال (توم جونس و چيمس براون، وديمس روسس وانجل بيرت وبول أنكا)، وأعجب بما يسمي في تلك المرحله بالـ (سول ميوزيك)، وزاد ثقة في أنه في الطريق القادم والصحيح، فقد كان أحياننا يكتب البعض أن موسيقي نوح غربية ويستخدم آلات غربية، فظهر مع أماني ناشد وتحدث عن أن الآلات وسيلة مثل ماكينة الخياطه تصنع بها بدلة وجلباب. وبالطو للدكتور، أنا بقدم ألحان شرقية بوسائط أكثر تأثير للشباب وأنه عازف عود جيد وملم بكل المقامات الشرقية.
زادت معرفة الوسط الثقافي المصري بالنجاح الذي أحدثه (محمد نوح) في حفلاته، وبدأت الشئون المعنوية بالقوات المسلحة والمسؤلين عنها العقيد (رفعت صقر) الانتباه لحالة الحماس التي يبثها محمد نوح، فقد غني في معرض الغنائم بعد نصر أكتوبر 1973 بأرض ألجزيرة موقع الأوبرا الآن، وانفعلت حوله الجماهير يهتفون بالنصر وبأعداد رهيبة، ويرقص الجنود والمصابين من العساكر علي أغاني (المدد) و(احميني) لعبد الرحمن الأبنودي (والله حي) كلمات إبراهيم رضوان، ولكن كانت بعض الأشخاص المسؤلة عن الإعلام لا ترحب به وتراه مزعجا ومقلقا، وخصوصاً بعد أغانيه في مسرحية (كلام فارغ) لأحمد رجب وإخراج سمير العصفوري، ونوح مازال منطلقا يغني للنصر ويصرخ (مدد شدي حيلك يا بلد، والله حي بكره جاي) للرائع إبراهيم رضوان.
الله حي بكرة جاي راكب مهرة
جايب مهرة قصر ونصر لمصر وضي
بكرة يا بكرة وصلني بريدك
أيوه جميع الناس بتريدك
توصل بكره فارد ايدك
بالأعلام الخضرة وعيدك
طاوي الليل الظالم طَي
والله حي.