بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
يجتهد المؤرخون السينمائيون للكتابة عن فنانين مجهولين، يعرف الناس أشكالهم وصورهم ولا يعرفون أسماءهم، يحفظون أدوارهم و (أفيهاتهم) المشهورة ولكنهم يجهلون الكثير عن حياتهم، ولكنني اليوم سأكتب عن فنان مشهور، ليس مشهورا فحسب ولكن شهرته كما يقولون (طبقت الآفاق) أي ملأت بقاع الأرض، هذا الفنان هو حسين فهمي، ومَن مِنا يجهل حسين فهمي وتاريخه، حسين فهمي الفنان الكبير دارس الإخراج بأمريكا والذي كانت ينتظره مستقبلا واعدا في الإخراج السينمائي ولكن التمثيل اختطفه، كان رئيسا لمهرجان القاهرة السينمائي، ثم ضاع المهرجان عدة سنوات تحت رئاسة من شاركوا في إفساد السينما، وإفساد ذائقة الجماهير، وها هو يعود لرئاسة هذا المهرجان، يعود لكي يصحح خطأ تاريخيا وقعت فيه وزارة الثقافة لسنوات، وحسنا فعلت الوزيرة عندما أعادت الأمور إلى نصابها، ويحدونا الأمل أن يجعل حسين فهمي مهرجان القاهرة مهرجانا يليق بمصر وحضارتها وعمقها التاريحي وثقافتها الرائدة.
والآن سأعود بالزمن إلى الوراء، وتحديدا في شهر أكتوبر من عام 1980 وقتها كان الفنان حسين فهمي قد ذاع صيته وأصبحت أفيشات أفلامه تملأ دور السينما، وكنتُ أنا محاميا حديث التخرج أعمل بمكتب أحد كبار المحامين في مصر، وكان بالمكتب عدة قضايا لسفير سابق هو السفير (حسن محرم)، حيث كانت له أملاك متنوعة في مدينة أسيوط وكان بعض الأفراد ينازعونه في الملكية وبعضهم يمتنع عن سداد القيم الإيجارية المستحقة له، فكان مكتبنا موكلا عنه في إقامة قضايا ضد هؤلاء الخصوم، ونظرا لأن السفير حسن محرم ـ رحمه الله ـ كان رجلا كبيرا مُسنا فكان لا يأتي إلى المكتب إلا نادرا، ثم عندما طعن به السن اقتضى الأمر أن يذهب إليه في بيته أحد المحامين بالمكتب ليأخذ منه مستندات وأوراق بعض القضايا ويقدم له تقريرا بما تم، ونظرا لأنني كنت أصغر المحامين سنا في المكتب لذلك أُلقيت على كاهلي تلك المهمة.
وبدايات المهنة تنعكس دائما على صاحبها، وكان مما كنت أظنه من كرامة المحامي ألا يذهب لموكل في بيته، لذلك استقبلت هذا التكليف بقدر من الاستياء، ولكن صاحب المكتب ذلك المحامي الكبير هوَّن عليَّ الأمر بأنني سأذهب لرجل له قيمته وقدره في مصر، وهو من الرعيل الأول للدبلوماسيين المصريين، وأنه لولا عجزه عن المجيء للمكتب ما طلب مني ذلك، ثم أضاف: على فكرة الفنان حسين فهمي كان متزوجا من نادية ابنة السفير حسن محرم.
قفز الإسم إلى ذهني قفزا، حسين فهمي!! .. حسين فهمي هو طليق ابنة حسن محرم!!.
رد الأستاذ : نعم، ويوجد ملف عندنا به بعض صور الفرح.
قلت له وكأنني أسابق الزمن: وأين يسكن السفير حسن محرم؟
في الزمالك، خذ العنوان من ملف إحدى القضايا، وهو منتظرك الآن.
وفي بيته الأرستقراطي العتيق بالزمالك تعددت زياراتي للسفير حسن محرم، وكنت أتفانى في قضاياه، وأكتب نتائج ما وصلنا إليه وأذهب إليه أحيانا ولو لم تكن هناك مناسبة ضرورية، إذ كان شيطان الفضول يوسوس لي بأنني من الممكن أن ألتقي عنده في إحدى الزيارات بطليق ابنته الفنان حسين فهمي، أليس هو والد أحفاد السفير حسن محرم؟ ولكن لم يحدث أن التقيت به هناك على الإطلاق، وإن كنت أتذكر أنني التقيت في إحدى المرات بسيدة شابة وقع في ظني أنها نادية طليقة حسين فهمي.
وفي إحدى المرات ـ أظنها كانت آخر مرة التقيت فيها بالسفير حسن محرم ـ سألته عن حسين فهمي، فرغم أنه شخصية محافظة، ودبلوماسي عريق، لا يعطيك إلا ما يريده هو إلا أن الشجاعة واتتني فسألته: هل يتواصل معكم الفنان حسين فهمي؟
فقال: حسين فهمي من عائلة كبيرة جدا، وهو ابن أصول، وفنان أصيل ومثقف، كما أنه جد أحفادي، ولم نر منه إلا الخير، وكان والده صديقا لي لذلك فإن الود متصلا.
ومرت السنوات وظلت هذه الذكريات مخبوءة في ذاكرتي إلى أن التقيت بالفنان حسين فهمي في احتفال أقامته الدولة بعد انتهاء حكم الإخوان بنصر السادس من أكتوبر في إحدى دور القوات المسلحة، كان في مكان بعيد عن المكان الذي كنت أجلس فيه، ولكنني وجدته يترك مكانه ويأتي لي ملوحا، فظننته يلقي السلام على شخص آخر، وعندما تنبهت أنه يلوِّح لي أنا بادلته السلام، ثم قال: كنت عاوز أقعد معاك ضروري، فقلت له: نتقابل قريبا إن شاء الله، ولم تجمعنا مشيئة الله، ولم نلتق إلى الآن، فاللقاء إنما يكون بقدر الله، وكما تقول أم كلثوم: ربما تجمعنا أقدارنا ذات يوم.
ولكن أين موقع حسين فهمي من السينما المصرية؟، كنت كغيري من شباب جيلي نحب محمود ياسين ونذهب للسينما لمشاهدة أفلامه، ويالحظنا الحسن لو كانت له مسرحية على أحد مسارح الدولة، إذ كنا وقتها نتسابق لنيل شرف مشاهدة مسرحياته، ولكن نور الشريف أيضا كان قد سرق لبنا ومشاعرنا عندما كنا نشاهده في مسلسل (القاهرة والناس) حينما كنا أطفالا ثم في فترة الصبا والشباب، وكان معه أشرف عبد الغفور ومحمد توفيق وعزيزة حلمي، ثم انضم للمسلسل محمود ياسين وبوسي وكوكبة من نجوم مصر، وآخرين أصبحوا فيما بعد نجوما، كل هؤلاء كانوا صناعة يد المخرج الكبير محمد فاضل مخرج (القاهرة والناس)، حيث استمر هذا المسلسل الرائع سنوات، ولا أظن أننا رأينا مثله اللهم إلا ثلاثية الساقية والنصيب والرحيل تأليف عبد المنعم الصاوي وإخراج نور الدمرداش.
كان الحضور الأول في بداية السبعينيات إذن لمحمود ياسين ونور الشريف، ولم يكن حسين فهمي صاحب حضور في السنوات الأولى للسبعينيات، حتى أنه كان يقوم في الغالب بالدور الثاني، مثل دوره في فيلم حب وكبرياء، أو أفلام أخرى كان يقوم فيها ببطولة مشتركة مع نور الشريف أو محمود ياسين، ولم يتوقع له أحد أن يستمر حسين فهمي في سلم الصعود، فقد كانت قدرته على الاندماج في الشخصية التي يؤديها ضعيفة، وكنا نتندر عليه بأغنية سعاد حسني في فيلم (خلي بالك من زوز، ويا واد يا تقيل)، حيث كان من كلمات الأغنية (عنده برود أعصاب اسم الله ولا جراح بريطاني)، وكنا نقول على حسين فهمي إنه (بارد في تمثيله، لا تشعر بالحياة في أداءه).
وظل الأداء البارد لحسين فهمي سمة رئيسية لطريقته في التمثيل فترة، ثم كرهناه، نعم كرهناه بعد أن شاهدنا فيلم (حب وكبرياء)، فقد كان يمثل دور الحبيب النذل الخسيس الذي يخدع نجلاء فتحي ويتركها ثم يحاول بعد ذلك أن يوقع بها، ولكن للحق فقد كنا صغارا وقتها لا نستطيع التفرقة بين الممثل والشخصية التي يؤديها، وحينما كبرنا عرفنا أن حسين فهمي نجح في أداء هذه الشخصية لدرجة أننا كرهناه شخصيا، ولكن ملاك الفن وضع يده على حسين فهمي، فإذا به في فيلم (دمي ودموعي وابتسامتي) ينجح بشكل كبير في أداء شخصية ممدوح الزوج الوصولي الذي يستغل جمال زوجته ليحقق طموحاته، رأيناه يتاجر في طهارة وبراءة زوجته بدم بارد، ونجح في قيامه بهذا الدور نجاحا كبيرا، ثم يبدأ حسين فهمي في الصعود للقمة من خلال فيلم (الأخوة الأعداء)، حيث يتطور بشكل كبير ويقفز للأمام خطوات، وفي هذا الفيلم عاش حسين فهمي مع شخصية الشاب المستهتر توفيق الأرماني بكل تناقضاتها، واستطاع أن يمثل لا بوسامته فقط، ولكن بخلجات وجهه وتعبيرات جسده، وحركات يديه والتفاتات جسده.
ثم نجح حسين فهمي بشكل جيد في فيلم (أميرة حبي أنا)، خاصة في مشهده الختامي وهو يواجه عماد حمدي (شرارة بيه) ويقول له: (أقععععد .. أقعععععد)، حيث انتزع الضحكات وهو يؤدي مشهدا جادا، ويستمر حسين فهمي في نجاحاته ويتألق في فيلم من أهم أفلام أواخر السبعينيات (انتبهوا أيها السادة)، ولك أن تلاحظ أن نجاحات حسين فهمي دائما ما تأتي من خلال مباريات تمثيلية مع عملاقة، ففي الأخوة الأعداء كانت المباراة مع مجموعة لا تتكرر من الفنانين ومنهم العملاق محي الدين اسماعيل الذي لم يأخذ حظه في السينما، ولم ينل مكانته الحقيقية، وكذلك مبارياته مع نور الشريف، ثم مع محمود ياسين، وقد كان (انتبهوا أيها السادة) مباراة رائعة بينه وبين محمود ياسين.
وتستمر مباريات التمثيل فائقة الروعة في فيلم (العار) إخراج علي عبد الخالق مع نور الشريف ومحمود عبد العزيز ونورا، ومن بعده يستمر تألق حسين فهمي في فيلم (جري الوحوش) حيث تتكرر التجربة مع المخرج علي عبد الخالق والأبطال نور الشريف ومحمود عبد العزيز ونورا، ومن نجاح إلى نجاح، أثبت حسين فهمي لنا أنه ولد ليكون ممثلا متميزا، له بصمته وطريقته وشخصيته، هو الفنان الذي يحمل ثقافة متنوعة، درس الإخراج وعرف طريق الفن بشكل علمي، ثم استطاع ذات يوم أن يستخرج من داخله الممثل المحترف صاحب الحضور المميز، ليصبح علامة من علامات السينما المصرية، بحيث نستطيع أن نقول إنه أصبح في حد ذاته مهرجانا بشريا فريدا للسينما.