بقلم : محمود حسونة
كان الفن في الماضي جمالاً، وأصبح اليوم أكثره قبحاً، كان إمتاعاً وأصبح معظمه إزعاجاً، كان رقياً أصبح كثيره انحطاطاً، كان إبداعاً أصبح أغلبه مسروقاً وبلغة المهذبين مقتبساً. كان الفن رصانةً ووقاراً وأصبح تنطيطاً وانفلاتاً.
لم يقتصر دور الفن على إمتاع الجمهور بكلمات ولحن الأغنية أو مضمون ومشاهد الفيلم، أو القصة والتمثيل في المسلسل، أو القضية والإيقاع في المسرحية فقط، ولكن الناس كانوا يستمتعون أيضاً بشياكة الأبطال في الملبس والإكسسوار، وكان الجمهور يتعلم مما يشاهده الإتيكيت في طريقة الأكل وأسلوب الكلام وأنماط التعامل. كانوا يذهبون إلى السينما أو المسرح أو الحفل الغنائي للاسترخاء والضحك والطرب وليرفهوا عن أنفسهم، واليوم يعودون من دور العرض وقاعات الحفلات أكثر توتراً بعد أن تصيبهم خيبة أمل سواء من الفيلم أو الحفل ومن سلوك وملابس نجومه والتنظيم العشوائي.
حالة الهبوط في مستوى الأعمال الفنية أفرزت قبحاً في المظاهر وانهياراً في السلوكيات جسدته بوضوح أعمال تنطق بلساننا ولكن أبطالها لا يشبهوننا لا شكلاً ولا مضموناً وليس لهم من هدف سوى جرّنا إلى عالمهم المبتذل والمنفلت، وأشد إفرازاتها وضوحاً موجة أغاني المهرجانات وأغاني الراب التي يؤديها مغنون جاؤوا من قاع المجتمع ليجلسوا على قمته، ومن دون أي انتقاص من القاع الذي ينبغي أن يساهم الفن في تحسين أحواله وانتشال ناسه إلى القمة، وليس السقوط بالمجتمع كله في الهاوية وطمس معالمه وتشويه حاضره.
ويبدو أننا نعيش حالياً مرحلة فاصلة، يتصارع فيها القبح مع الجمال، بعد أن أصبح للنجوم الذين ينشرون القبح الغلبة، فالنجم الذي يعتبر نفسه (نمبر وان) استولى عليه الغرور بعد أن وصل إلى قمة الانفلات، وأصبحت متعته الغناء ونصفه العلوي عارٍ تماماً، واذا لم يجد حفلاً يتعرى فيه يلاحق الناس على مواقع التواصل الاجتماعي بكل استفزاز، سواء بالصور العارية أو تلك التي تنضح غروراً، وكان آخرها وهو يغسل أسنانه بمعجون من الذهب، وكأنه يخرج لسانه للناس ويتعالى على الفقراء والمحتاجين تماماً كمن يقول لهم (أتيت من عالمكم وأصبحت المسافة بيني وبينكم كالمسافة بين السماء والأرض)، ويزايد على الأغنياء كمن يقول (لحقت بكم وسبقتكم ولا يوجد بينكم من يستطيع اللحاق بي).
رداءة ما وصلنا إليه أفرزت الكثير وكأن (نمبر وان) واحد لا يكفينا، حتى ظهر علينا من يتفاخر بجهله ويتباهى بحصوله على سيف (سيدنا أبو لهب) هدية!!.
محاطون نحن بسلسلة من الابتذال، ننتقل من حلقة إلى أخرى، وغالباً الأبطال لا يتغيرون. فُرضت علينا حلقات مهرجان التعري في الجونة، وفيها شاهدنا ما لم يخطر على عقل، صدور مكشوفة وسيقان عارية وملابس تعيدنا إلى زمن ورقة التوت، ولأنه كان مهرجاناً للابتذال أيضاً فقد شاهدنا ممثلين يطلون على سجادته الحمراء بملابس زهرية ومشجرة وألوان غير متناسقة، وكأنه كان سباقاً في الخروج عن السياق وهدم كل قواعد الذوق والشياكة.
التطور الطبيعي لما شاهدناه سابقاً على خشبات مسارح الحفلات الغنائية، وعلى سجادة الجونة الحمراء، وفي بعض حفلات البوليفارد بالسعودية، هو أن يطل مغني الراب الغريب الاسم غريب الهيئة، (ويجز) في حفل بالرياض، مرتدياً جاكت أخضر مهلهل عليه وقميص بيج بياقة طويلة غريبة وشورت فوق الركبة بنفسجي اللون.. شكل غريب وألوان غير متناسقة، ويبدو أن كل ذلك كان بهدف إكتمال الصدمة، بعد أن هرولنا للاستماع إلى أغنيات ومشاهدة فيديوهات لفقراء الصوت والموهبة والذوق والوعي والثقافة، وبعد أن اعتبرناهم الفاكهة المحرمة التي نأكلها من باب الفضول، حرص كثيرنا على وجودهم في حفلات زفافه أو زفاف أولاده، باعتبارهم نموذج غريب يخلق جواً من (الرزع، والهبد) رقصاً وتنطيطاً.
عندما بدأ الفنان محمد منير رحلته الغنائية بالملابس الكاجوال متمرداً على البذلة الكلاسيكية التففنا حوله باعتبار أنه يرتدي ما نرتديه ويمثلنا فكراً وثقافة ويعبر عن أحلامنا وطموحاتنا غناءً، أما من يغني وهو عار الصدر فإنه يستعرض عضلاته علينا، ولا يعبر عنا، ومن ينحدر ويغني بشورت موف وجاكيت أخضر وقميص بيج بياقة بطول القميص ليشكل كوكتيلاً شاذاً، فهو ينحدر بمن يتبعوه إلى الدرك الأسفل من الذوق، وعندما يغني بهذه الصورة خارج مصر فهو يسيء إلينا جميعاً، طالما أننا توافقنا أن أي مصري خارج مصر يمثلنا جميعاً، وعندما يكون هذا المصري مغنياً يقف أمام جمهور بهذا الشكل فهو أسوأ من يمثلنا، وينبغي على النقابة التي يتبعها اتخاذ إجراء ضده حتى لو تعرضت لهجوم ممن يريدون لفننا الهبوط والابتذال ولنا الانحدار باسم الدفاع عن حرية الفنان في أن يغني ما يشاء.
الحرية أبداً لم تكن مطلقة في أي شيء، وإلا انتهج العالم الانفلات طريقاً، واستغنى عن القانون وفعل كل إنسان ما يشاء وأشبع رغباته ونزواته بالطريقة التي تناسبه، وذلك بغض النظر عن مدى إساءته للآخرين وتجاوزه في حق المجموع.
mahmoudhassouna2020@gmail.com