بقلم الأديب الكبير : سامي فريد
دق جرس التليفون في مكتب الأستاذ يحيى حقي في مصلحة الفنون بعد عودته من فرنسا التي كان يشغل فيها منصب الوزير المفوض. كان المتحدث هو الأستاذ فتحي رضوان وزير الارشاد ليبلغ يحيى حقي برئاسة مصلحة الفنون، ثم يطلب من الاستعداد لأنه يرسل إلى الصين فريقا تراثيا فنيا يمثل مصر هناك.
وأسقط في يد الأستاذ يحيى حقي.. فالمسألة هى مفاجأة كاملة له.. وتساءل الأستاذ يحيى حقي بينه وبين نفسه ماذا سيفعل وما طلبه منه فتحي رضوان كان شيئا جديدا عليه ولم يتوقعه بالمرة.
قال الأستاذ يحيى حقي إنه سيفكر فالمسألة جد ومستعجلة بعد أن وقع الرئيس عبدالناصر اتفاقا في الصين مع الرئيس الصيني للتبادل الثقافي بين البلدين.. قال فتحي رضوان: يا يحيي بيه الفرقة الصينية ربما تصل لتقديم عروضها تبعا للاتقافية الموقعة في النرويج خلال أسبوعين ولابد من أن تكون مصر جاهزة بفريقها التراثي الذي يمثل فنونها – وأنت يا يحيى بيه الآن مدير مصلحة الفنون.. يعني كل الفنون.. أرجوك فكر بسرعة وقل لي ماذا فعلت وماذا أعددت للسفر إلى الصين؟!
لا وقت إذن فالمسألة كما تبدو جد.. وجد جدا.. وفكر يحيي حقي بسرعة وقرر استشارة معاونيه في مصلحة الفنون، وكان قد انضم إليها نجيب محفوظ ثم على أحمد باكثير، لابد إذن من استشارة نجيب محفوظ فيما يجب أن يعمله يحيى حقي أو مصلحة الفنون.
وجاء الأستاذ نجيب محفوظ وكان الأستاذ يحيى حقي قد ضمه للمصلحة ليوفر له المكان والجو المناسب لمواصلة كتابة روايته الجيدة التي بدأ العمل فيها وهي (اللص والكلاب) بعد أن شاعت حكاية .. لاحظ (محمود أمين سليمان) الذي مثله شكري سرحان في الفيلم.
جاء نجيب محفوظ بعد أن ترك قلمه وأوراقه ليعرف ما الذي يطلبه منه يحيى بك!..
وشرح له الأستاذ يحى حقي الموضوع وطلب منه رأيه.. أحكم نجيب محفوظ أزرار الجاكيت وقال إنه لا رأي له في موضوع كهذا فالرأي رأيك يا أستاذ يحيى ولا رأي لنا بعدك.. وكان واضحا أن الأستاذ نجيب محفوظ لا يفكر الآن إلا في (محمود أمين سليمان) واللص والكلاب.. أدرك يحيى حقي أنه لا فائدة من طلب رأي نجيب محفوظ فتركه يعود إلى مكتبه ليواصل كتابة بعد أن فقد فيه الأمل.
ثم طلب رأي الأستاذ علي أحمد باكثير الذي كان أكثر إيجابية فقال إن له رواية اسمها (البيرق النوبي) إن كان يصلح للسفر إلى الصين باعتبار انه موضوع محلي.. لكن الأستاذ يحيى حقي لم يكن مستريحا لهذا الرأي فهو أيضا له مشروع عمل اسمه (يا ليل يا عين)، لكنه لا يظن انه يصلح للسفر الي الصين.
لكن على أحمد باكثير اقترح اقتراحا بدا وجيها للأستاذ يحيى حقي، حيث قال باكثير: ولماذا لا نسأل (زكريا الحجاوي) فهو رجل الفن الشعبي.. والفرق الشعبية.
رأقت الفكرة للأستاذ يحيى حقي فتشبث بها واستقر في ذهنه أنه لن يخرجه من هذا المأزق سوي (زكريا الحجاوي) بالفعل، فصار يسأل كل من يصادفهم ويعرفهم في المجلس الأعلى للفنون والآداب أو في قصور الثقافة أو في هيئة المسرح عن زكريا الحجاوي، اين يجده ويرجو كل من يراه أن يخبره بأن يحيى حقي يريده في أمر عاجل وحيوي وخطير.
وقال بعض من سألهم يحيى حقي انه رآه آخر مرة في مهرجان شعبي بالشرقية.. وقال آخر إنه قد سمع أنه في الصعيد وتحديدا في الأقصر يعد هناك لحفل شعبي تراثي كبير.
جلس يحيية حقي في مكتبه بالعمارة 27 شارع عبدالخالق ثروت الدور الثالث الشقة الشمال بمصلحة الفنون، جلس يفكر في الوقت الذي يجري وينفلت من بين أصابعه كما يتسرب الماء.. ويفكر فيما يمكن أن يقول لوزير الإرشاد عما تم إعداده للسفر الي الصين لتنفيذ دور مصر في اتفاق التبادل الثقافي.. جلس يحيى حقي يفكر في كل هذا عندما سمع صوتا عند الباب يسأل عنه.. وقال يحيى حقي لنفسه إنه يعرف هذا الصوت.. ولم يفكر كثيرا فقد دخل عليه ملهوفا الفنان (زكريا الحجاوي) متهللا ومندهشا من سر سؤال الأستاذ يحيى حقي عنه.
قال زكريا الحجاوي:
خير يا يحيى بيه.. شغلتني.. بتسأل عليا ودا شرف كبير خلاني سبت كل حاجة وحيت على طول.. خير؟!
ونهض يحيى حقي مرحبا يستقبل زكريا الحجاوي ليجلس معه.. وفيما كانا يتناولان فنجاني القهوة حكى يحيى حقي لزكريا الحجاوي المطب الذي وقع فيه بعدما أخبره فتحي رضوان بالمطلوب، وقال إنه سأل نجيب محفوظ رأيه فيما يمكن عمله فلم يخرج منه بإجابة .. كما سأل علي باكثير وكان هو الذي اقترح اسم (زكريا الحجاوي)، وأن كل ما يستطيع أن يقدمه على أحمد باكثير هو مسرحية أو أوبريت اسمه (البيرق النبوي)، لكنه لا يظن أنه يكون مناسبا مع ما ستقدمه الصين من استعراضات تراثية في مصر ورقصات أعمال سيرك إلى آخره.
ابتسم زكريا الحجاوي ابتسامة واسعة تحولت إلى ضحكة كبيرة اندهش لها يحيى حقي فسأل زكريا الحجاوي عن سبب ما يضحكه؟!
قال زكريا الحجاوي:
يا يحيى بك المسألة أبسط من البساطة.. اسأل فتحي بك رضوان عن موعد سفر الفرقة التراثية المصرية إلى الصين.. وفي الوقت نفسه اطلب ميزانية لتنفيذ بعض الملابس الجديدة المناسبة لاسم مصر مع تحديد الآلات وحجز تذاكرة الطائرة إلى بكين.. أما الباقي فدعه على زكريا الحجاوي.
أضاف الحجاوي: يا يحيي بك انت سيادتك عندك كنوز اسمها (الريس متقال).. وفرقة الربابة.. وكفاية ان عندك (خضرة محمد خضر وجمالات شيحة ومحمد طه)..
وواصل زكريا الحجاوي كلامه:
ما تقلقش يا يحيى بيه.. احنا حنخلي الصين تتكلم عن مصر وفنها سنة بحالها.. بس من فضل حضرتك نبتدي من الوقت نستعد زي ما قلت لحضرتك.. ميزانية للملابس الجديدة ونشوف الوزارة حتكرمهم بايه.. لو ان دي آخر حاجة نفكر فيها مادام باسم مصر.. ومانتساش تذاكر الطيارة واعتمد على الله.
وانصرف زكريا الحجاوي وقد ترك يحيى حقي يرى النجاح وقد تحقق.. وكان يوما سعيدا في مصلحة الفنون!!.