بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
وقفت أصفق بحماس شديد ، أصفق مبهورا و معجبا كما لم أصفق منذ سنوات طوال ، فما أجمل من لحظة مشاهدة زهورا جديدة تتفتح لتنشر عطرا وهاجا . أكثر من خمسين شابا و فتاة ملأوا المسرح بالضحك و الدموع فى اتقان شديد و سلاسة مبهرة و إبداع فى الارتجال و الحركة و التمثيل و الرقص و الغناء لمدة ساعة و نصف – او أقل قليلا – فلم نحس بمرور الوقت و كأنه لحظات خاطفة ، قدموا لنا خلال تلك اللحظات خلاصة تدريبهم لمدة ثمانية شهور فى عرض مكثف يروى أحلامهم و آمالهم و رؤيتهم للحياة ، عرض شاركوا فى صنعه على مستوى الصياغة الدرامية و صياغة الصورة المسرحية ، قاده مخرج موهوب هو شادى الدالى .
شباب تجمع من قرى و مدن محافظة بنى سويف ليجتازوا اختبارات طويلة ، ليتم اختيار مجموعة منهم لتمارس تدريبات جسدية شاقة ، و تتلقى محاضرات فنية وثقافية، ليقدموا لنا هذه القطعة الرائعة التى اقتطعوها من أنفسهم و صاغوها من كلماتهم ومن كلمات كبار كتابنا و شعرائنا و ملحنينا فى انضباط و إخلاص شديد يثبت أن مصر منجم للمواهب و القدرات ، قادهم فى تلك التدريبات مجموعة متميزة استطاعت أن تبرز أفضل ما فيهم ، فرقصوا و كأنهم راقصين محترفين بفضل التصميمات البديعة لتامر فتحى ، و قاموا بالصياغة الدرامية تحت إشراف الدكتور محمد الشافعى ، وتعلموا الصياغات البصرية على يد مهندس الديكور محمود حنفى .
إنه عرض التخرج الرابع لمشروع (ابدأ حلمك) ، المشروع الأروع و الأجمل فى مسرح الأقاليم – من وجهة نظرى – الذى يعيد له رونقه و جماله البهى ، و قد سبقه ثلاث عروض لمحافظات أسيوط و الشرقية و الفيوم فى مرحلته الأولى ، و بدأت المرحلة الثانية التى تضم خمس محافظات ببنى سويف يتلوها بورسعيد و كفر الشيخ و الجيزة و أسوان . مشروع بدأ منذ سنوات قليلة فى مسرح الشباب بالبيت الفنى للمسرح و عندما شاهدت وزيرة الثقافة نتاج المشروع طلبت أن يتم نقله إلى أقاليم مصر كلها ، فلقد أدركت أنه قادر على تحقيق مجموعة الأهداف التنموية المرتبطة برؤية مصر 2030 ، و لذا دعمت المشروع ووقفت خلفه فى إصرار و سهلت له كل الأمور لكى ينشر فى ربوع الوطن قيم الانتماء ، إلى جانب رعاية المواهب و صقلها ، فالعمل المسرحى عمل جماعى يعوّد المرء على التعاون و ترتيب بذل الجهد داخل مجموعة ، و يصبح تحقيق مصالحها مجتمعة مقدمة على كل مصلحة فردية ، ويستلزم الأمر خلال التدريب و الإعداد للعرض قراءات و مناقشات مكثفة من أفراد الفريق ، تتيح لهم التعرف على ثقافتهم الأم و ثقافات أخرى و قدرة على مناقشة الأفكار والتحلى بعقل ناقد .
هذا المشروع يعيد للثقافة الجماهيرية أهدافها التى أنشئت من أجلها ، عندما أصدر الزعيم جمال عبد الناصر قراره بتحويل الجامعة الشعبية التى بدأت نشاطها عام 1945 إلى الثقافة الجماهيرية لكى تحقق ما نسميه الآن ( لقد بدأ حلمك) أى إتاحة الخدمات الثقافية للجميع ، يتساوى فى هذا الريف و الحضر ، و الغنى و الفقير ، فى عصر كانت موجات الإذاعة تصل بالكاد للقلائل الذين يملكون أجهزة راديو ، و التليفزيون كائن وليد لا يستغرق إرساله إلا ساعات معدودة يوميا ، بل إن الكهرباء نفسها لم تكن منتشرة فى كل الأماكن ، لذا تحركت الى القرى و النجوع قوافل تعرض الأفلام و تعقد الندوات و تقيم الأمسيات ، و بجهود الوزير ثروت عكاشة و الأب الأول للثقافة الجماهيرية سعد كامل – الذى ظلم حيا و ميتا – بدأ الجهاز فى التوسع تدريجيا ، و أقامة قصور للثقافة تضم مسرحا و قاعة ندوات و مكتبة و معرضا للفن التشكيلى ، و ترسل الفنانين و الأدباء تلك المواقع لتكتشف الموهوبين و تحتضنهم ، حتى وصلت الثقافة الجماهيرية إلى مرحلة الرسوخ و الانتشار لتصبح أحد أهم إنجازات ثورة يوليو فى مجال الثقافة و الفنون ، فمنها خرج آلاف الأدباء و الشعراء و الفنانين التشكيليين و الممثلين و المخرجين و كتاب المسرح و فرق الفنون الشعبية و غيرها ، بل إن بعضهم وصل الى العالمية و خاصة فى مجال الأدب .
و فى مجال المسرح تحديدا بدأت فرق الثقافة الجماهيرية بأربع فرق فى عواصم المحافظات إلى أن وصلت فى نهاية الستينات إلى 17 فرقة قدمت تجارب مغايرة ومتميزة مازال يشار إليها كعلامات هامة فى تاريخ المسرح المصرى ، و استمر مسرح الثقافة الجماهيرية فى النمو إلى أن تعدت فرقه المائة فرقة تقدم عروضها بشكل سنوى إلى جانب تجارب نوادى المسرح – و هى فرق غير ثابتة – تقدم حوالى 200 تجربة سنويا . و لكن خلال تلك الرحلة الطويلة أصاب مسرح الأقاليم بعضا من أمراض عطلت مسيرته أو أضعفت تأثيره أو حادت به عن طريقه ، فصار البعض يقلد مسرح العاصمة أو يقدم أعمالا لا تمت للواقع بصلة ، و لكنه لم يعدم من أولاده المخلصين من قام ليحاول أن يرده إلى رسالته الأصلية و الأصيلة ، و ينفخ فيه الروح من جديد ، و لو تتبعنا كل تلك الجهود لكتبنا مجلدات ، فبرغم كل الكتب و المقالات التى ترصد تاريخ مسرح الثقافة الجماهيرية إلا انها تظل قاصرة عن إدراك كل التفاصيل و الجهود .
ثم جاء مشروع ( ابدأ حلمك ) ليتوج مسيرة طويلة من جهود المخلصين ، جاء ليقول لأبناء الوطن حتى فى القرى النائية نحن معكم ، نسمعكم و نهتم بكم ، و نفتح لكم مساحة للتعبير عن أنفسكم و لطرح رؤاكم و لتحقيق أحلامكم ، و ان ما ترونه فى الفضائيات و على وسائل التواصل ليس الفن الحقيقى الذى يطور و يرقى الشعوب ، و ليس الهدف من المشروع أن يصير كل أفراده ممثلين أو مغنيين و إنما يكفى أن يتزودوا بحصيلة ثقافية تتيح لهم تذوق الفنون، و أن يستطيعوا التفريق بين الغث والثمين . و أعتقد أن المشروع نجح فى هذا نجاحا كبيرا ، فيكفى إشادة أعضاء مجلس النواب بما رأوا ، بل إن إحدى النائبات لم تصدق أن المشاركين من أبناء المحافظة ، للمستوى المتمكن الذى ظهروا به .
عجيب أمر مسرح الأقاليم ، يستولى على العقول ، و يسلب ألباب البعض حتى يصبحوا دراويش فى محرابه ، يقدمون أعمالهم فيه و لا يرضون بغيره بديلا ، و يفنون عمرهم فى رحابه ، من هؤلاء الدراويش ( أحمد طه ) الابن المخلص لمسرح الثقافة الجماهيرية و المدير الفنى لمشروع ( ابدأ حلمك) ، الذى ترك كل شيئ و تفرغ له ، برغم ضغوط الحياة و مطالبها و برغم موهبته فى الإخراج . ربما رأى البعض فى هذا جنونا أو تضحية بغير طائل ، و لكن هناك طابور طويل قد سبقه ضحى أيضا بالكثير ، بل إن البعض ضحى بحياته من أجل رسالة يؤمن بها اسمها الثقافة الجماهيرية . و لا أقول إن هذا إنجاز محسوب لطه وحده بل بجواره كتيبة من المدربين و المخرجين اختارهم بعناية ، و لا ننكر جهد الإداريين و المسئولين و العمال ، وبرغم معونتهم يجب أن نقر أنه تحمل وحده عبء التخطيط و متابعة التنفيذ ، و لكن و الحق يقال أن مجهود (طه) لم يكن ليؤتى ثماره لولا مساندة و دعم الفنان (هشام عطوة) رئيس هيئة قصور الثقافة منذ كان نائبا لرئيسها و مشرفا عاما على المشروع.
و قبل أن أغادر قصر ثقافة بنى سويف وقفت أقرأ الفاتحة على أرواح شهداء المسرح، الذين قضوا و هم يتابعون عرضا فى أحد قاعات هذا القصر ، تركوا من أجل مسرح الأقاليم بيوتهم ليلاقوا قدرهم ، و كان كل ما يبغونه مسرحا مختلفا يبنى مواطنا و يقيم وطنا يشيد مجدا و يستعيد مكانا و مكانة ، ووجدت نفسى أتمتم ربنا يرحمكم جميعا ، لقد جاء من يكمل الرسالة و يحقق بعضا من أحلامكم ، و أظنكم اليوم فرحين ، برغم حزننا عليكم.