رئيس مجلس الادارة : محمد حبوشة
رئيس التحرير : أحمد السماحي

غلاء الأسعار يشعل حناجر الشعراء والمطربين المصريين (1)

* نجيب الريحاني دشن عصر السخرية عام 1918 بمونولوج (الحمار)

* سيد درويش أول من تضامن مع الطبقات الوسطى بأغنية (الموظفين)

* بديع خيرى يتصدى لطمع وجشع التجار وعدم إلتزامهم بالتسعيرة بمنولوجات لاذعة

* الشيخ زكريا يعزف على أوتار الأزمة بأغنية تصف حال الشيالين

* بيرم التونسي، يقدم تصويرا خاطفا للحالة الاقتصادية بين أبطال ألف ليلة

ارتفاع الأسعار أزمة عالمية وليست محلية

كتب : أحمد السماحي

ظاهرة غلاء الأسعار التى تجتاح مصر هذه الأيام، أعادت لنا بالذهن ظاهرة الكساد الكبير الذى ضرب الولايات المتحدة والعديد من دول العالم في منتصف العشرينات من القرن الماضي، وتحديدا في عام 1925م، وما كان لهذه الكارثة الاقتصادية من آثار وظلال قوية على الاقتصاد المصري باعتبار مصر إحدى المستعمرات التي تدور فى فلك إنجلترا إحدى دول المركز، وأيضاً لارتباط العملة المصرية بالجنيه الاسترلتيني، وقد ظهرت أولى آثار الأزمة الاقتصادية في مصر على شكل انخفاضٍ رهيب في أسعار القطن وصعوبة بالغة في تسويقه.

وقد تأثرت مصر بمدنها وريفها على السواء بشدة بسبب هذا الكساد العالمي، سواء على المستوى الاقتصادي أوالسياسي أو الاجتماعي، ولم يكن الفن المصري بعيدا عن تلك الأزمة فقد تأثرت كثير من الفرق المسرحية، وأغلقت أبوابها، خاصة وأن مصر كانت تعاني من الكساد قبل ذلك بسنوات.

الساخر الكبير بديع خيري

بديع خيري، وبيرم التونسي، وأمين صدقي

تبارى كبار شعراء مصر للتعبير عن هذه الأزمة، أشهر هؤلاء الشاعر العظيم (بديع خيري)، وشاعر الشعب (محمود بيرم التونسي)، والفنان الذى لم تسلط عليه الأضواء التى يستحقها (أمين صدقي)، كل هؤلاء كتبوا أشعارا رائعة تعبر عن الأزمة وعجز الحكومة على حلها، وساعد على انتشار هذه الأشعار تبني عددا كبيرا من ملحني هذا العصر لها، من هؤلاء الشيخ (سلامه حجازي)، والشيخ (سيد درويش)، وسيد مصطفى، وزكريا أحمد.

الخضار والفاكهة أو من يتأثر بالتسعيرة

كله من دا

بالرجوع إلى الأعمال الفنية التى قدمت في بداية القرن الماضي والتى تتحدث عن الأزمة الاقتصادية وغلاء المعيشة فى مصر، نجد أنها بدأت قبل الأزمة الاقتصادية العالمية بسبع سنوات ففي عام 1918 قدمت فرقة (نجيب الريحاني) مسرحية (كله من دا) تأليف بديع خيري، وفيها مونولوج خفيف الظل لـ (أمين صدقي) ألقاه نجيب الريحاني بعنوان (الحمار) يعبر عن حالة الكساد الموجودة فى مصر، وارتفاع الأسعار يقول مطلعه:

يا حماري ليه بس مرخي ودانك

العربجية وقفوا حالي وحالك

بكره الشعير يرخص ويصفى زمانك

شي يا حماري، حاه يا حماري

بخمسه مليم من بولاق للقلعة

إزاي حاناكل عيش يا ناس م الصنعة

دى الأزمة شدت والمعايش والعة

 شي يا حماري حاه يا حماري

الشيخ سيد درويش أبرع من تصدى لظاهرة غلاء الأسعار

الموظفين

في نفس المسرحية  قدم الشيخ (سيد درويش)، اللحن الشهير الذى مازال يتردد حتى الآن بعنوان (الموظفين) والذى يعبر عن حالة الموظفين المادية االسيئة، والذى يقول في أحد كوبليهاته:

الغلب اللي شاربينه ياريت العالم شايفينه

دى ماهية إيه اللـ كام جنيه يا خواتي بٌريه

من خمسة منه تروح وبقيته نقول أبوح

وبسلامتها الست بتاعتي ما تتوصاشي

ولا تولدليش فى البطن إلا اثنين كده ع الماشي

ويجيي الجزار والخضري والبقال ينعلو أبو خاشي

فتحية أحمد غنت لغلاء الأسعار

الحلوة دي قامت تعجن

يقدم الشيخ سيد درويش عام 1918 أيضا عملا مسرحيا غنائيا من تأليف زميله في الكفاح بديع خيري بعنوان (ولو)، وفيه تغني بطلة العرض مطربة القطرين (فتحية أحمد) على لسان الصنايعية المساكين الأغنية الشهيرة (الحلوة دى قامت تعجن) وفيه مقطع عن الحالة الاقتصادية السيئة يقول:

طلع النهار فتاح يا عليم والجيب مافيهش ولا مليم

من في اليومين دول شاف تلطيم زي الصنايعيه المظاليم

دا الصبر أمره طال وايش بعد وقف الحال

ياللي معاك المال برضه الفقير له رب كريم

ويكتب (بديع خيري) في نفس العمل مونولوجا طريفا عبارة عن ديالوج غنائي بين (الجزارين والمستخدمين) يعبر عن عدم التزام الجزارين بالتسعيرة، وغلاء المعيشه، قام بغنائه مجموعة من أبطال العرض يقول فيه:

المستخدمين: حرام يا جزارين سايبينا سعرانيين

ما نطولشي درهمين إلا بطلوع العين

جااااااي يا مسلمين من دي السنين

العيشه طين والجزارين متفرعنين

مستخدمين متبهدلين المستخدم بإيده إيه

بس احكم بينا يا بيه بالزمة يقضوا إيه

دى ماهية خمسة جنيه حايس بره وجوه

الجزارين : يا فندي أنت وهوه روح يكفاك صريخ هات فسيخ

وبلاش طبيخ دمنا يفور نديك بالساطور ومافيش هنا تسعيرة.

ارتفاع أسعار البنزين والجاز يدفع بارتفاع السلع الأخرى

استعجبوا يا فندية

فى هذه الفترة الصعبة التى يعاني فيها الشعب المصري من بوادر أزمة اقتصادية، ظهرت أزمة أخرى فى (الكيروسين) سارع سيد درويش بالتعبيرعنها فلحن أغنية بعنوان (استعجبوا يا فندية) غناء محمود أفندي مرسي، فحققت نجاحا كبيرا وانتشرت بين الناس يقول مطلع الأغنية:

استعجبوا يا فندية لتر الجاز بروبيه

وبقاله اليوم شنة ورنة

واللي يبيعه بقى له كلمة

ياما ناموا كتير ناس فى الضلمة

وصبح أغلا من الكولونيا

وعلى لسان (العربجية) يكتب الملحن والشاعر (أمين صدقي) أغنية تصف حال تلك الطائفة من العمال، فيتحمس لها الملحن (سيد درويش) ويقوم بتلحينها فلا يقتصر ترديدها على (العربجية) فقط، ولكن ترددها مع مطربها سيد درويش كل الجماهير فى كل حارات وشوارع وأزقة مصر تقول بعض كلمات الأغنية:

نعيش إزاي يا ناس، يا اخوانا العدل فين

يا هوه ورانا عيال غلابة ياكلوا منين

لإمتى نفضل ساكتين كده جتنا البين

حسن فايق

ارتفاع الأسعار

عندما حدثت الأزمة الاقتصادية بالفعل في مصرواستغلها التجار لمصلحتهم ورفعوا الأسعار، ناشدهم (بديع خيري) بمراعاة ربنا، كما جاء في الأعمال الكاملة له، والتى جمعها الدكتور (نبيل بهجت)، فكتب عام 1926 زجلا رائعا تحت عنوان (ارتفاع الأسعار) قام بغنائه فيما بعد الفنان (حسن فائق) الذى عمل في بداية حياته كمونولوجيست يقول فيه:

نصيحة خالصة لوجه الله

واجب عليا أنبهكم لها يا تجار

واتمنى صوتي فى أسماعكم يرن صداه

 وتتقوا ربنا حبه في غلا الأسعار

من يرحم الغير يا تجار يرحم وياه

 والدنيا فيه بعدها آخرة وجنه ونار

الشعب منكم وانتم منه عالجوا معاه

صعوبة العيش وقولوا الستر يا ستار

ما فيش جدال (القناعة كنز لا يفنى)

والكنز دا بالحلال نعتر فى مفتاحه

أما الطمع (بير وبيبلع)

واحنا يا ما شفنا طماع جمعهم ألوف

 وتبددوا وراحوا

وفي كوبليه آخر يقول:

فى البيع خراب الذمم ده أمر يؤسفنا

وذنب ماهوش يسير غفرانه وسماحة

عجبي يا تاجر تنام إزاي

 وضميرك ما يؤنبكشي، على ظلمك فى مال الناس

اكسب ما بنقولشي حاجة

 إنما بسيرك على الأصول واتباعك عاطفة الأحساس

جشع التجار دائما يدفع نحو الأزمة

جشع التجار

نظرا لاستمرار حالة جشع التجار وعدم التزامهم بالتسعيرة التى وضعتها الحكومة، وغضب الشعب من ارتفاع الأسعار، عاد (بديع خيري) مرة أخرى وخاطب التجار الطماعين تحت عنوان (السوق البيضا) قائلا:

ربك أحل الشرا والبيع علي شرط فى السوق البيضا

وأنت اللي من طمع المساريع خليتها سوق سودة وعيضة

عندك يا تاجر تسعيرة تخالفها ليه؟ فضها سيرة

الشيخ محمد ده زبونك ماشي معاك دفيع وأمين

وتغشه ليه بس؟ يخونك عيشه وملحه ست سنين

 الميه إزاي تعملها ميتين في رطل صابون أو بكرة خيط

ودا جار مضمون والحيط فى الحيط

اللحوم كانت للضرورة القصوي

عيد الأضحى والأضحية

مازلنا فى عام 1926 وقبل أسابيع قليلة من قرب عيد الأضحى والأزمة تتسع، والأسعار تزداد اشتعالا، كتب شاعرنا العبقري (بديع خيري) قطعة زجلية طريفة عن أضحية العيد بعنوان (شميت روايح التسقية)، قام بغنائها المونولجيست (سيد سليمان) يقول في بدايتها:

بايت جعان والصبحية مش عارف أعمل فى العيد إيه؟

ولا حيلتي نعجة زرايبية ولا كلب حتى أضحي عليه

شميت روايح التسقيه من بيت جارتنا مراة البيه

حطيت لى عقلي في رجليه وأخوك ماهيته خمسة جنيه

يادوب يجيبوا العيش الحاف

الواد صبح ماسك ودني وأنا مالي هات لي يا بابا خروف

اللحمه فيها خطر يا بني عالمعدة – كخ – أعمل معروف

لا ابن الحمار راضي يسيبني ولا أمه ساكته عن المخسوف

من غيظتي عفريتي ركبني وبقت فضايح عالمكشوف

وخناقة ناقصها الإسعاف.

ويستكمل خيري تفاصيل (الخناقة) التى أوقفها دخول رجل من المحسنين عليه وعلى زوجته، وفى النهاية نكتشف أن هذا المحسن فاعل خير، ويعطي له فلوس لشراء الأضحية، فيشكره هذا البائس ويتمنى أن يكثر الله من أمثال هذا الرجل الطيب، الذى يشعر بحال الفقراء والمساكين.

ويتواصل غلاء المعيشة وارتفاع الأسعار فى كل أنحاء مصر المحروسة، ويعبر (بديع خيري) الذى كان الحصان الأسود فى هذه الفترة عن هذه الأزمة أحسن تعبيرا، ويندر نفسه وكتاباته وأشعاره للناس البسطاء، فيكتب على لسان ابن البلد البسيط تحت عنوان  (فاضل نبيع زر الطربوش) ويقوم بغنائها (حسن فايق) قائلا:

الأزمه خلت حالنا فاشوش والدنيا من الغلا راح تولع

وابن البلد على خمسة قروش ينهد لما عينيه تطلع

فاضل يبيع زر الطربوش ولا مين يشوف ولا مين يسمع

ووزارة فوق كدا حلق حوش وخبطتين فى الراس توجع

ويكتب عن حال المصريين الغلابة، ومآساتهم فى العيش، والغلاء يحيط بهم من كل جانب، تحت عنوان (يكفانا أزمة وهبابة) فيقول:

يارب ساعة إجابة ترحمنا من دي الكابوس

وتزيح قوام السحابه وتفك كرب النفوس

يكفانا أزمة وهبابة وعذاب وقلة فلوس

حال المصاروة الغلابه يصعب على المجوس

الحكومات تفشل دائما في سد الفجوة

فشل الحكومة فى حل الأزمة

عندما تفشل الحكومة فى حل الأزمة الاقتصادية، ويظل الحال على ما هو عليه من غلاء يقول (بديع خيري) على لسان الفقراء :

أنا لو كنت منك يا حكومتنا المصرية

لاحبس كل اللي مافيش فى قلوبهم حنية

لكن مادام عميتو ما بتشفوش

مادام طرشتم ما بتسمعوش

خلاص يا فقراء ما تنهموش

 تموتوا عزاز ولا تنزلوش

تحت عنوان (يا سلام على التلبيخ يا سلام) يقول شاعرنا بديع خيري كما جاء في أعماله الكاملة:

ياباشا كان إيه اللازمة تندب فى الحزب الهلضام

أيوه أنت خليك فى الأزمة وبلاش سي طلعت وسي علام

بتقول لنا سياستك حازمة، والحزم بس كلام في كلام

دا الفقر برطش بالجزمة يا سلام على التلابيخ يا سلام

هنا يشير (بديع خيري) إلى الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى وعدت الحكومة بحلها وفشلت في ذلك، و(طلعت) هو (أحمد طلعت باشا) أحد الأعضاء المؤسسين لحزب الشعب، و(علام) هو (محمد علام باشا) وكيل مجلس النواب، ووكيل حزب الشعب وأحد أشهر الشخصيات فى الفترة التى ألغى فيها (صدقي باشا) الدستور سنة 1923.

زكريا أحمد وبديع خيري فرسان أغنيات غلاء الأسعار

زكريا يكمل مسيرة الشيخ سيد

بعد رحيل الشيخ (سيد درويش) ظهر على الساحة الفنية شيخا آخر هو (زكريا أحمد) توقع له الكثيرين أن يكمل مسيرة الشيخ (سيد) فاحتضنه (بديع خيري)، واستمرارا لأغنيات وأشعار الأزمة لحن وغني الشيخ (زكريا) أغنية تصف حال (الشيالين) بعنوان: (الشيالين) يقول مطلعها :

شد يا دقدق حيلك هه الشدة على الله

واتعفون على شيلك هه العافية من الله

دا احنا أولى بتعريفه أزمة والأشغال نيلة

ليلة من ألف ليلة

لم يكن (بديع خيري) هو شاعر الأزمة الوحيد ففي أوبريت (ليلة من ألف ليلة) تأليف محمود بيرم التونسي، وألحان سيد مصطفى، الذى عرض عام 1930  نشاهد حوارا بين بطل العرض شحاتة وأحد الفقراء نجد فيه تصويرا خاطفا للحالة الاقتصادية التى تمثل (الغلا) فى المدينة فيقول:

شحاتة: يا صباح الخير يا أبو عبده ابنك عبدالله ازيه؟

الرجل: عيان مسكين يا شحاته المولى يا خدلي بيده

شحاتة وبعد أن يختفي الرجل الفقير:

 روح في جهنم جاك بلا انت وابنك والغلا.

……………………………………………………………

غدا : نستكمل الحلقة الثانية، مع نجوم الغناء وغلاء الأسعار

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.