بقلم الأديب الكبير : سامي فريد
سطعت نجوميتها كمطربة عندما غنت في حفل الافتتاح الرسمي للإذاعة المصرية عام 1934، بعد أن أصرت أم كلثوم أن تشاركها (نجية) لتغني معها في حفل الافتتاح.
اسمها الذي لا يعرفه أحد هو (نجية على صيام) من مواليد فارسكور دمياط يوم 23 مارس عام 1913، حتى يأتي ذلك اليوم الذي عرفها فيه جمهور مستمعي الراديو بالاسم الذي اختارته لها كوكب الشرق وهو (نجاة علي).
وأصبحت (نجاة على) منذ ذلك اليوم هى المطربة رقم (4) في مصر بعد أم كلثوم ثم أسمهان ثم (نجاة علي)، لتأتي بعدها وبعد زمن طويل طفلة تغني كان اسمها (نجاة حسني) لتغني وهى بعد مراهقة في الباخرة (السودان) على الضفة الشرقية للنيل، حيث ترسوا الباخرة أمام ما كان يعرف باسم (كازينو بديعة) أو مسرح (بديعة مصابني)، ليعرف (نجاة حسني) بعد لك باسم (نجاة الصغيرة)، وتظل تحمل هذا الاسم بعد وفاة (نجاة علي) يوم 26 ديسمبر عام 1993.
ومشوار (نجية صيام) أو (نجاة علي) مع الغناء والظرف مشوار طويل بدأ من المدرسة في فارسكور ثم امتد إلى المنصورة وباقي مراكز الدقهلية، حتى طارت شهرتها بجمال صوتها الدافئ العميق والقوي ليصل إلى أسماع (الست) فتطلب أن تسمعها.. لتكون تلك هي أول نقطة تحول في حياة (نجية على صيام) بنت فارسكور.
وجاءت (نجية) إلى القاهرة تحمل خوفها ورهبتها من غنائها أمام سيدة الغناء في حفل صغير ضم لفيفا من الفنانين والملحنين والموسيقيين والصحفيين ومعهم ثومة ليستمعوا معها إلى تلك الموهبة الجديدة التي تألقت في الدقهلية.
غنت نجية أمام (الست) وكل جسمها ينتفض رعبا من الموقف الذي وجدت نفسها فيه.. لكنها كانت تختلس النظر إلى (الست) التي جلست تستمع إليها في صمت لتغني أمامها من ألحان سيد درويش وأبو العلا محمد ومحمد عبدالوهاب وهى تسمع أغانيهم بصوت (نجية)!، كانت (نجية) تلمح بين الوقت والآخر ابتسامة ثومة وترى الأعجاب في عينيها حتى قالت أم كلثوم:
كفاية با بنتي.. أنت مغنية كويسة.. ودنك حلوة.. وصوتك حلو.. ثم تسألها بعد ذلك عن اسمها فترد نجية:
اسمي (نجية علي صيام).. من فارسكور دقهلية، لكن الست تواصل سؤالها عن بدايتها وكل ما تريد أن تعرفه عنها من معلومات.. وكان جواب ثومة:
(لا يا نجية.. واسمعيني كويس.. اسمك ده وما تزعليش مني ماينفعش مع المستقبل اللي حتشوفيه نخليه (نجاة علي) وبس.. وبلاش حتى صيام دلوقتي.. ووافقت (نجية) على الفور مع فرحتها بعدما سمعت من (الست) ما سمعت وأحست أن الدنيا قد بدأت تبتسم لها.
وتكلم أم كلثوم كل من حضر من الملحنين والموسيقيين الحاضرين معها أن يبدأوا من اللحظة تجهيز (نجاة علي) لتغني معها في حفل افتتاح الإذاعة، فيبدأ من هنا انتشار (نجاة علي)، ويبدأ كل من سمعها يسأل عن تلك المطربة الجديدة التي أعجبت أم كلثوم لتختارها معها في حفل افتتاح الإذاعة.. وبدأت نجاة على تغني ما تقدمه لها الإذاعة وما يقدمه لها الملحنون.
غنت نجاة علي (فاكرك ومش ح أنساك) ليغني معها المصريون بعد ذلك ما تقدمه من الأغنيات، إضافة إلى أغنيتها العاطفية الجميلة التي كان يقول مطلعها:
فاكراك ومش ح أنساك
مهم الزمان نساك
ولا نسيت حبي
وان رحت مرة تزور
عش الهوي المهجور
سلم على قلبي
سلم.. سلم على قلبي.
وكانت البداية مشجعة رحب بها جمهور المستعمين، وقال نقاد الفن أن نجاة علي مطربة تعرف كيف تختار كلمات أغانيها.
ومن فرط تفاؤل الأغنية غناها سيد مكاوي بعد إعجابه الشديد بها.. ثم تأتي بعدها أغنية للملحن أحمد صدقي تقول:
(سلموا لي على حسين) التي كانت أقرب إلى المونولوج وأصابت المستعمين الذين أحبوا صوت نجاة علي، ليتراجع ترتيبها إلي المركز الرابع بعد مطربة القطرين (فتحية أحمد)، لكنها تواصل إصرارها وتحديها فيقدم لها أحمد صدقي أيضا أغنية جديدة من شعر الإمام أحمد الشهاوي، وكانت أغنية دينية من اللون الصوفي الرفيع تقول كلماتها:
محمد سيد الأقوام
أكرم من علت بشر عنه
فوق الوري الرتب
ويسمع الموسيقار محمد عبدالوهاب صوت نجاة علي فيختارها لتكون بطلة فيلمه الجديد (دموع الحب) فتلعب أمامه دور البطولة متأكد من أنها عندما تدخل السينما وتمثل أمام محمد عبدالوهاب تكون بذلك قد حققت أكبر مجد ما كان يمكن أن تصل إليه وتحققه.
وقصة الفيلم مأخوذة من رواية للكاتب الكبير مصطفي لطفي المنفلوطي بعنوان (في ظلال الزيزفون) عن نص فرنسي أعد له السيناريو وكتب الحوار وأخرجه محمد كريم ليقضي على ما كنت (نجاة علي) قد حققته قبل ذلك الفيلم الذي لم يعجب الجهور، فكان أقل أفلام عبدالوهاب نجاحا.. فالسيناريو ضعيف وغير منطقي وبطلة الفيلم لا تجيد التمثيل ولا تملك إلا صوتها ولعب سليمان نجيب في الفيلم واحدا من أسوأ أدواره في السينما، فلم يصدقه الجمهور وهو يلعب دور الصديق الخائن الجشع الشرير الذي يسرق صديقه الطيب والمتسامح الذي يلعب دور محمد فكري المطرب الناشئ، الذي يضحي بكل شيء حتى محبوبته التي يسرقها ويسرق مجوهراتها ومالها بعد أن يعدها بالزواج، لكنه يخسر كل شيء فيطلق على نفسه بعد خسارته على مائدة القمار، ويغني (محمد فكري) أو محمد عبدالوهاب وهو يبني شهرته كمطرب جديد فيغني (سرت منه الليالي) ثم ينهيها حزنا على مجبوته (نوال) التي سرقها منه صديقه (فين عيونك يا نوال) لتتسمى كل بنات ذلك الجيل باسم (نوال).
ثم يلتقي عبد الوهاب مع (نوال) مع حلم العودة إلى البيت الذي كانت يبنيه لها كما وعدها قبل أن يبدأ مشوار نجوميته ويغني أغنية (سامحتك)، لكنه يتذكر فجأة ما سمعه منها وهى تقول كلمات الحب مع الخائن سليمان نجيب فيطردها عبدالوهاب بعد أن أفاق وأدرك خيانتها.. هكذا ففي السيناريو الممزق تذهب نوال وتلقى بنفسها فتغرق في النيل، ويغني عبدالوهاب بين المقابر أسوأ أغانيه التي ختم بها الفيلم.. يغنيها بينما جمهور السينما ينصرف فيما هو مازال يغني (أيا الراقدون تحت التراب).
وبعد ذلك الفيلم قدمت مجموعة من الأفلام منها (شيء من لاشيئ، حب من السما، الحظ السعيد، الكل يغني، الشاطر حسن، وغيرها)، وظلت تواصل مشوارها بنجاح، لكن مع ظهور أجيال جديدة من المطربات الأكثر جمالا جعلها تنزوي رويدا رويدا، وكانت النتيجة هى اعتزال (نجاة علي) الغناء لتموت وحيدة وحزينة بعد أن كانت قد فرحت بتشجيع ام كلثوم لها حتى جاء ذلك الفيلم الكئيب ليقضي على أحلامها ويدمر مستقبلها وترث عرشها (نجاة الصغيرة) وبعد رحيلها تتحول إلى نجاة فقط.
لكن تلك حكاية أخرى ربما نحكيها في المستقبل..