بقلم : حسين نوح
محمود المليجي ممثل وفنان مصري كبير يستحق أن يُطلق عليه لقب مبدع التقمُّص الواعي المُستنبط لأبعاد الشخصية بقدرةٍ أراها نادرة، وصعب أن تتكرّر.. فهو الأصل الذي يتم النسخ منه ولكن مهما كانت النسخ جيدة فلن تكون مطابقةً للأصل العظيم.
فهل لدينا أم كلثوم أو عبد الوهاب، أو فيروز في الغناء؟.. وهل لدينا نجيب محفوظ آخر في الأدب؟
ما زال البحث مستمرا عن نسخ لكنها دائماً ليست كالأصل .
رصيد محمود المليجي حوالي خمسمائة عمل فني منها واحد وعشرون عملا في قائمة الأحسن ضمن أهم مائة فيلم مصري في تاريخ السينما المصرية.
هو عملاق التقمص ينتقل من شخصية لأخرى بسلاسة لا تُشعرك بأنك أمام فنان يمثل دورا، بل أمام حدث حقيقي.. حالة لا تحدث إلا مع نوع من الممثلين يخطفك أداؤهم فتغوص أنت معهم إلى أن يوقظك أحدهم من حالة الدهشة، والإعجاب الآسر.
قلة قليلة مرّت علي مهنة التمثيل أتذكّرُ منهم: مارلن براندو، أنتوني كوين، أنتوني هوكبنز، والقادم ليسجل اسمه جاري أولد مان.
أول مرة أشاهد محمود المليجي وأنا طفل صغير لم أتجاوز العاشرة حين حضرت من دمنهور لزيارة أخي (محمد نوح)، فبعد نجاحه في أول دور له في مصر في المسرح وكان في تجسيده لشخصية (سيد درويش) أمام وداد حمدي، وأحمد أباظة، وفهمي الخولي من إخراج القدير محمد توفيق والنص للكاتب صلاح طنطاوي، والمرة الثانية في نفس الزيارة حين ذهبت مع شقيقي إلي التليفزيون أحضر معه تصوير مسلسل (صابحة) بطولة (زيزي البدراوي، ومحمود المليجي، ومحمد نوح، وزين العشماوي، وعبد الحفيظ التطاوي)، إخراج عادل صادق.
في هذا اليوم لفت نظري العملاق محمود المليجي فقد جلست في زاوية في الاستديو، وأوصاني المساعدون بألا أُصدر أي صوت، وجلست صامتاً وكأني في أنبوب آشعة الـ (mri) أمارس صمت الحملان وأتابع بشغف هذا العالم الجديد والغريب، لفت نظري أن بعد كل عشر كلمات يصرخ المخرج: (ستوب) ويتم إعادة المشهد لزيزي البدراوي، ولنوح، ولنجم الشياكة الفسفوري زين العشماوي، وكذلك عبد الحفيظ التطاوي، وفي إحدي المرّات جلس بجواري محمد نوح وسألتُه لماذا لا يحدث ستوب حين يمثل المليجي؟.
وأجاب نوح: يا بني دا بلدوزر تمثيل.. قَطر لا يقف بيلبس الشخصية وكأنه لابسه عفريت.. قطار ينطلق.. ولا يتوقف.. وعلى فكرة كل الفنانين المصريين عارفين إن المليجي طلقة حتي النجوم الكبار!. .وفتحتُ فمي مندهشاً فأنا في مرحلة عشق السينما وأدخل سينيمات الدرجة الثالثة في دمنهور بعد تقديم مهارات الاستكانة والمسكنة لتنعم علىٍ أمي الحاجة (نوحة) بثلاثة قروش فأختار سينما تعرض ثلاثة أفلام في بروجرام واحد، وأجلس ووجهي يتفصّد عرقاً وأخرج وكأني خارج من ساونا، وأسير وكأني بطل الفيلم الذي شاهدته منذ قليل، وأحياناً أرتكب حماقات البطولة الزائفة والنتيجة أن أدخل البيت مصابا ببعض الكدمات.
مرّت الأيام.. وأصبحت مسؤولا عن وحدة تصوير هى الأشهر في مصر، وتعاملتُ مع معظم نجوم مصر من ممثلين، ومخرجين، وفنيّين، وتحدّثتُ في إحدي المرات مع المخرج العظيم عادل صادق وسألته:
يا أستاذ عادل: الشغل الآن أسهل بكتير عن أيام مسلسل (صابحة)، وكنت مذهولا من محمود المليجي ولا يوجد (ستوب) وإعادة لعشرات المرات.
وكانت الإجابة: دلوقتي كله حديث و(الكيو تون) بيسهل العمل (Cue tone) للممثل الذي يقف ويغلط ونكمل، إنما أيام عمنا محمود المليجي تغلط يعني تعيد من الأول والكل يحفظ أربع خمس صفحات وبالحركة.
أما محمود المليجي فلديه الخبرة، والتَّعوُّد غير أنه يغوص في الشخصية بدقة غير عادية، دا حالة لن تتكرر، وفاجأني وهو يضحك قائلا: مرة موقف حصل أثناء تصوير أحد الأعمال طلبت تعديلا وكنا نبحث عن المؤلف يضيف للمشهد، وتوقف التصوير وزادت ابتسامة الأستاذ عادل.. وأكمل حديثه.
محمود المليجي قال لي: يا أستاذ المشهد عاوز يقول إيه؟، أنا من كتر اللي شفته ومثّلته أوعدك حأقوله أحسن من المكتوب ويضحك.. وحدث وقد ارتجل المشهد والاستديو كله كان واقفا يصفّق إعجاباً للعملاق محمود المليجي الفنان الجبار.
لقد شاهدتُه في المسرح في (الزّوبعة) لمحمود دياب ومع محمد صبحي في بداياته في مسرحية (انتهي الدرس يا غبي)، وأعرف أنه كان من أبطال فرقة إسماعيل ياسين المسرحية.
ومن منّا لم يرَه في فيلم (غروب وشروق) في دور عزمي باشا، وفي شخصية الدكتور (طلعت) مع سعاد حسني في فيلم (بئر الحرمان)، وشخصية زكي في فيلم (الدخيل) إخراج نور الدمرداش، وفي تجسيد شخصية (إبليس) مع زكي رستم في فيلم (موعد مع إبليس)، وفي شخصية القاتل الذكي الداهية في فيلم (المنزل رقم 13) مع كمال الشيخ، وشخصية تاجر المخدرات السكندري في فيلم (رصيف نمرة 5)، وفي دور الأب الذي أنهكه الزمن وأعجزته الهموم في فيلم (عودة الابن الضال) مع يوسف شاهين.
ولا يمكن أن أتحدّث عن محمود المليجي دون التعرُّض للفيلم الذي قدمه للعالم في كثير من المهرجانات وهو فيلم (الأرض) للمبدع يوسف شاهين عن الرواية العبقرية التي نسج خيوطها ببراعة الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي، وقد حضرتُ الكثير من جلساته في كافيتيريا (سوق الحميدية) بباب اللوق مركز تجمّع مثقفي ومبدعي مصر.
حين يتحدث الرجل عن الريف لا تستطيع أن تبتعد بعيونك عنه فهو من بطن الأرض المصرية أصيل كأشجار الصفصاف والنخيل عريق كشجر الكافور.. تشعر وأنت تستمع إلى الشرقاوي أن خلف صوته صوت السواقي، ورائحة الخبز، وشدو الطيور، وترى في خياله اتساع الجرن والحقول، وفي نظرته تشاهد كل مواسم الحصاد.
وحين يشاهد فيلم (الأرض) أي إنسان له علاقة بالريف الحقيقي وخاصةً قبل ثورة يوليو حيث ارتباط الفلاح بأرضه، وحميمية، وتلاحم الفلاحين التي أظهرها المؤلف لحظة سقوط البقرة في بئر الساقية وكيف وقفت القرية كلها بشبابها، ورجالها، ونسائها لإنقاذ البقرة فهى مصدر رزق وخير للفلاح، وتلك عظمة القرية حتي الآن، ومن منا لا يتوقف أمام المشهد الأخير في الفيلم والذي يعتبر علامة سينمائية حين تمسّكت أيدي محمد أبو سويلم بالزرع، وهو يُسحل علي الأرض متمسّكاً بها وبطرحها تصاحبه ألحان العظيم بليغ حمدي، وتوزيع العملاق علي إسماعيل: (الأرض لو عطشانة نرويها بدمانا).
تلك الجملة التي لا تُنسى، وهنا دلالة على قيمة الأرض عند الفلاح، ويتسع الفكر لتكون القيمة أكبر وأوسع وأعم وهى قيمة الأرض بمفهومها الكبير أي الوطن.
تمَّ عرض الفيلم في معظم المهرجانات الدولية، وأشاد به معظم نقاد العالم مثل: مارسيل مارتان حين قال: إن الفيلم يفتح المجال للسينما المصرية، وقال الناقد الفرنسي چان لوي بورمي: إن فيلم الأرض ليس حدثاً للسينما العربية، ولكن أيضا للسينما العالمية، وشهد الجميع بأننا أمام عمل سينمائي من طراز فريد لموضوع أصيل، ومخرج كبير، وممثل عملاق يستحق كل التقدير وقد تصدّر فيلم (الأرض) أول عشرة أفلام في تاريخ السينما المصرية ضمن قائمة أفضل مائة فيلم.
هل عرفنا قيمة النجم محمود المليجي أم أنه مرَّ عند البعض مرور الكرام وسط نجوم كثيرة هشّة وعمالقة مزيفين، وأشباه ممثلين ومخرجين كل مهامهم تنسيق المرور في المشهد حتي لا يصطدم بعضهم بالآخر.
ولي هنا سؤال: هل أنصف النقد الحقيقي العملاق محمود المليجي بالقدر الذي يستحقه؟.
أعتقد أن كثيرا من الممثلين وكبار النقاد والمبدعين الحقيقيين يعرفون قدره.
هل كتب أحد عن كيف ساعدت ملامح وعيون المليجي المعبرة عن شخوص تقمّصها وغاص في أعماقها فأصابنا بالدهشة والإبهار.
امتلك المليجي أدوات التقمص وهى أدوات اشتغل بها الكبار وعياً وإبداعاً مثل (آل باتشينو، وسالي فيلد، وسير لورانس أوليفيه) وفي مصر امتلكها واشتغل عليها بمهارة الراحل الكبير (أحمد زكي).
كيف ندرك تحوُّلات المليجي هذا العملاق من بداياته؟، مروراً بالشرير مع فريد شوقي في ثنائي يعتقد البعض علي بقاء الحال لفترات طويلة، فقد شكل الثنائي نجاحاً وأصبحا يمتلكان تأشيرة النجاح، وخاصةً في أفلام الأكشن ومعهم مبدع آخر هو (توفيق الدقن)، ولكن كان للمليجي رأي آخر فتنوعت أدواره بين الشّرِّير، والطيّب، والغني، والفقير، والباشا، والفلاح، والسّكير، والطبيب، ورئيس التحرير، كما ظهر في فيلم (يوم من عمري) مع عبد الحليم حافظ.
هذا هو النجم … يا سادة.
النجم الذي يملك مع النجاح عقلا يحرسه، ويرشده، وبالمثل فعل بطل الترسو الكبير فريد شوقي فاختار بوعي أدوارا تناسب مراحل عمره.
عاش محمود المليجي في الاستوديو، ومات في الاستديو.. مات كما يموت الجندي على جبهته، وكما يموت الراهب في صومعته.
مات وهو يُؤدّي عمله في الفن الذي زَهتْ به مصر كما زهت بالعلم، والأدب، والرياضة، والإنتاج، فكل فرد في مصر له واجبات تجاه مصر وكلٌّ يؤدي واجبه من موقعه على أتم وجه فالثقافة المصرية تستحق.. ومصر كبيرة.. وتستحق.