جمال عبد الناصر .. فنان هادئ الطبع مدهش في أدائه
بقلم : محمد حبوشة
عندما تشاهد عملا ما في شاشة السينما أو على خشبة المسرح أو في التلفزيون أو حتى تستمع إليه في الإذاعة، فإنك ستنجذب في البداية إلى الأداء التمثيلي للمثل الذي يجسد شخصية ما، ومع متابعة العمل يمكنك أن تستكشف براعة الإخراج وإتقان الحوار، وجودة المونتاج وباقي تفاصيل وأركان العمل، ولكن دائما ما يكون أول ما يقتحم عين المشاهد هو الممثل والأداء، فالممثل هو من يمكنه أن يوصل لك روح الدور ويجعلك تشعر بجودة تعليمات الإخراج، خاصة إذا كان أداؤه هادئا رزينا دون زخرفة أو تشنج، وهو من يجعلك ترى الحوار حقيقيا وتستكشف جودة الكاتب، وهو أيضا من يجعلك تضع يدك فوق جودة أو إخفاق ملموسين يمكنك ببساطة اكتشافهم حتى إن لم تكن متخصص في الفن، وتقيم الأمور من منظور عين المشاهد.
وهكذا أري ضيفنا في باب (في دائرة الضوء) الفنان القدير (جمال عبد الناصر)، والذي تألق في أكثر من عمل تليفزيوني مؤخرا، ليؤكد أنه صاحب موهبة كبيرة وطاقة هائلة لم تكتشف بعد، وعلى الرغم من أنه لم يحصل على بطولة مطلقة إلا مؤخرا في مسلسل (وسط البلد) الذي يعرض على منصة (شاهد) حاليا إلا أنه يملك قدرات هائلة تمكنه من التنوع في الأداء الهادئ والرزين عبر تقنية صوت يبعث على الشجن ويقربك من شخصيات مصرية حقيقية يمكن أن تقابلها في الشارع يوميا، ولعل ما يقرب المسافة بينك وبينه هو أنه يمتلك مهارات صوتية أدائية تعد من أهم صفات هذا الممثل القادرة على اجتذاب الجمهور وإجبارهم على الإصغاء وهة واحدة من أهم صفات الممثل الناجح تمكنه من التحكم بدرجة صوته وتنويع نبرته وإيقاعاته.
كما أن ملكة الصوت عند (جمال عبد الناصر) تشي بمدى التطور الذي أحرزه كممثل في تطوير ذاكرته العاطفية التي يختزن من خلالها صور تجسدات الأصوات المختلفة وتلوناتها، وهى أكثر صفة لفتت انتباهي مؤخرا في أدائه وهو يجسد أدواره في عدة أعمال درامية، إذ بدا لي متمكنا بشكل جيد في الانتقال من دور لآخر عبر الصوت والتعبير من خلال طاقته الصوتية المتوثبة على تنوع الشخصيات والانتقال من خلال الصوت المميز بين شخصيات أبطاله المأزومين والمهمومين بقضايا اجتماعية تمس حياتنا اليومية بشكل يدعو للتأمل أكثر في تجلياته المبدعة في الأداء الاحترافي المبهر إلى حد الدهشة من عدم الالتفات له كممثل قدير يحتاج إلى فرص أكبر في استخراج طاقاته الكامنة للنور.
وللوقوف على مدى أهمية الأداء الصوتي في التمثيل نعرج على بعض الحديث حول الصوت وتعريفه القائل: بأنه هواء يتموج بتصادم جسمين، وصوت الإنسان يحدث بتموج الهواء الخارج من الجوف في عملية الزفير، ويشكل الصوت عند (عبد الناصر) خاصة في منطقة القرار عاملا مهما في إظهار التباين بين الناس من خلال (شخصياته التي يجسدها) في عذوبة ورقي تعكس روحه الوثابة، كما أنه يحدد نمط الشخصية وصفاتها النفسية والملامح والسمات والطبائع التي تتمتع بها وعمرها في كثير من الأحيان، فللصوت لديه شخصية وروح كما أن له معادن تنقسم إلى خمسة أقسام رئيسية هى: الباس، الباريتون، الألتو، التينور، السوبرانو حسب الأسماء الإيطالية التي اصطلح عليها الموسيقيون.
فالباس، تحدثه أغلظ الأوتار الصوتية ويدعوه الموسيقيون العرب القرار أي العمق ويؤدي من خلاله الممثل شخصيات العظماء والواعظين والشخصيات الخيالية كما في أعماله الدينية والتاريخية، و الباريتون، وهو يشترك مع الباس في منطقته ويؤدي نفس الأدوار، التينور، أوسط الأصوات وأقدرها على التنغيم والتلوين وطبيعته خفيفة رنانة وحركته سريعة، ومنطقته الحنجرة ويصلح لتمثيل أدوار الشباب الأقوياء كما هو حال في الدراما الاجتماعية، أما الألتو، وهو أرق أصوات الرجال، وأضخم أصوات النساء، ويمكن أن يسمى أيضا (الباس أو الباريتون النسائي)، ومنطقته الحنجرة ويصلح لأدوار الثورة والغضب، وصاحبه يصلح لأدوار العظماء والواعظين وكبار في السن وأدوار الوقار والحشمة كما يلعبها (جمال عبد الناصر) في حرفية مذهلة.
كل ما تقدم يبرز أهمية الصوت في الأداء التمثيلي لدي (جمال عبد الناصر)، وأهمية العمل على تطويره والحفاظ عليه وما يمكنه دائما من أن يلعب من دور مهم في التمثيل، كما بدا لي بتأدية أدوار تمثيلية على غرار الممثل القدير، حيث ينجح دائما في بذل جهد ما من خلاله للتعبير عن علاقة مأزومة بحسب النص الجرامي لاستعراض تلك العلاقة الشائكة والمتوترة وتبيين أبعادها بمحاولة الغوص في بواطن البطل وتعرية عقده النفسية.
وهنا يؤكد لنا (عبد الناصر) أن التمثيل كما هو معروف لون من ألوان الفنون التعبيرية التي هى بحاجة لتظافر كافة العوامل الإخراجية والفنية والأدائية الممكنة، والتي يعكس نجاحها عن مدى استيعاب المخرج للنص ومدى نجاحه في تجسيده واستشعار الممثل للدور الذي يقوم على تأديته والذي يعتمد في أحد أوجهه على بلاغة الحوار والبناء الروائي أو ما يسمى الفن الدرامي، كما تمتع في الوقت ذاته بوضوح مخارج الحروف والقدرة اللغوية على التعبير بشكل فني بديع وهو إن لم يكن هذا هو العامل الوحيد لنجاح العمل الفني بشكل عام غير أنه يبقى عاملا مهما.
وحين نتعرض للتعريف العام الذي وصف فن الأداء بأنه (عملية تقمص للشخصيات الدرامية والعمل على محاكاتها، وتجسيد ملامحها وصفاتها وإظهار السيناريو المكتوب متلبسا في الشخصيات)، فإننا نلحظ ميل (جمال عبد الناصر) نحو تعريف أرسطو، والذي يعتبر من أول التعريفات التي حاولت وصف فن الأداء بأنه (فن تقليد الطبيعة)، حيث فن التمثيل ما هو إلا تقليد للصور والأحداث والحالات المختارة من الحياة نفسها توضع مجسدة على الشاشة من قبل الممثلين، وما يحيط بهم من مناظر وملابس وأدوات، وهكذا فإنه أيا كان اختلاف صيغة التعريف، فقد اتفق خبراء التمثيل جميعا على فكرة التقمص، لذا ترى (عبد الناصر) يتلبس شخصية مختلفة عن شخصيته، ويعيشها بشكل يقنع المشاهد أن ما يحدث أمامه حقيقيا، وهكذا فلا يستطيع الممثل أن يقول أنه قد نجح في أداء دوره، إلا إذا استطاع إيصال رؤية الكتاب التي أرادها ورسمها للشخصية على الورق، ليتلقاها المشاهد مستعينا في هذا بكافة أدواته، بصوته ونبرته وارتفاعه، بملامح وجهه، وبحركة جسده.
يمكن للممثل أن تقترن موهبته بشخصية قام بتمثيلها سواء في الأدوار التاريخية ، أو الفنية، كما يمكن لممثل أن يمثل حقبة زمنية ، ويقترن اسمه بتلك الحقبة، ويمكن للمثل أن يمثل بموهبته وبراعته اتجاها في فن التمثيل، لكن (جمال عبد الناصر ) يستطيع أن يستقطب من خلال أدواره البسيطة التي تتسم بفطرية أسرة شرائح الناس الدنيا بموهبته الفنية، ويبني علاقات غير مباشرة مع جمهوره، فيتأثروا حتى بثيابه، وطريقته في الحياة من خلال فيلم سينمائي، أو مسلسل تليفزيوني، فهو دائما الممثل الجيد الذي يملك قوة وسحر التأثير على الآخرين إلى درجة الهيمنة عليهم، ونسيانهم بأنهم إزاء مشاهد تمثيلية، والتفاعل المباشر مع وقع الأحداث التي تتمثل أمامهم سواء على شاشة السينما أو التليفزيون، ومثل هذه الهيمنة لاتقتصر على شريحة من الناس، بل تشمل جميع الشرائح، وهو ما يتضح لنا عبر ما قدمه من ابداعات ملحوظة مؤخرا في عدة مسلسلات تلفزيونية تؤكد صدقيته في الأداء رغم الغياب التام لطريقة أدائه الهادئ الذي يعكس شخصيته المهذبة.
ولد جمال عبد الناصر في القاهرة، ومنذ أن كان طفلا صغيرا يهتم كثيرا بالفن ومتابعة الأعمال السينمائية والدرامية، كان يريد أن يدرس التمثيل في البداية ولكنه فضل أن يحصل على شهادة جامعية أولا، حتى يتمكن من ضمان مستقبله في حالة لم يحصل على فرصة لتقديمه، فبعد انتهائه من مرحلة الثانوية العامة التحق جمال عبد الناصر بكلية التجارة في جامعة القاهرة، وأثناء دراسته وبعد دخوله إلى مسرح الجامعة لقي قبول من قبل زملائه، فقرر الفنان القدير الالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية ليتم قبوله في الاختبارات الفنية على الفور، بسبب الموهبة الكبيرة التي تمتع بها منذ مرحلة شبابه.
الفنان المهذب جمال عبد الناصر، يعد الآن واحد من أهم وأشهر نجوم الدراما المصرية، والذي اشترك في عدد كبير من الأفلام والمسلسلات، وعلى الرغم من ابتعاده عن الفن لفترة طويلة، وطول المدة بين كل عمل فني والآخر، إلا أنه يحظى بشهرة كبيرة وقاعدة جماهيرية من كل مكان في الوطن العربي، من خلال أعماله التي بدأها في منذ بداية ظهوره في فترة الثمانينات في العديد من الأفلام الناجحة، إلا أن اسم جمال عبد الناصر دائما ما يسبب له حالة من التشتت عند الجماهير، وذلك بسبب تشابه الاسم مع اسم الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فالبعض اعتقد أن جمال عبد الناصر استخدم هذا الاسم لينتشر بسرعة بين الناس.
وقد اعتقد البعض أن هناك صلة قرابة تجمعه بالزعيم الراحل، إلا أن كل هذه كانت مجرد شائعات، فهذا الاسم هو الاسم الحقيقي للفنان، ولم يقم باستخدام أي اسم مستعار منذ ظهوره للمرة الأولى على الشاشة وحتى وقتنا هذا، وعندما طالبه عدد من صناع الأفلام والدراما بتغيير اسمه رفض بشدة، وقال أنه يعتز باسمه اعتزاز كبير وأنه يشعر بالشرف بسبب تشابه اسمه مع اسم الزعيم الراحل، واعتاد الفنان جمال عبد الناصر على الدقة في اختيار أعماله الفنية، فدائما ما يصرح بأنه لا يهمه التواجد بقدر اهتمامه بعمل فني ضخم يعيش بين الناس لسنوات، وفي الفترة الأخيرة أصبح متواجد بشكل أكبر بكثير من بداية ظهوره، وذلك بعدما بدأ المنتجون يفهمون طبيعة اختيارات الفنان القدير التي تعتمد بشكل كبير على التنوع والاختلاف والقيمة التي يحملها العمل، ولكن بسبب وعكة صحية شديدة اضطر جمال عبد الناصر الابتعاد مرة أخرى عن الأنظار، حيث تعرض الفنان القدير إلى وعكة أبعدته بعض الوقت عن عشقه الأول والأخير (التمثيل).
شارك (جمال عبد الناصر في عدة أعمال تنوعت مابين الدراما التلفزيونية والسينما والمسرح أيضا، بدأها من خلال بعض العروض المسرحية في (القاهرة 30، سالومي، شىء من الخوف)، إضافة لعدد من الأفلام حيث شكل مع النجمة القديرة نادية الجندى ثنائيا ناجحا في أفلام: (امرأة هزت عرش مصر، امرأة فوق القمة، الامبراطورة)، بالإضافة إلى أفلام: (فارس ظهر الخيل ، الأمبراطورة، الضابط أحمد فؤاد، وفى الحياة حب آخر، المهندس أدهم المواردي، عنتر زمانه)، وعدد من المسلسلات التلفزيونية الناجحة ومنها: (أمير الشرق عثمان دقنة، الهاربة، نصر السماء، أحلام لا تنام، سوق الخضار، أيامنا، دوائر الشك، المهنة طبيب، عيب يا دكتور، رحيق الفوارس، تلال الغضب، قاسم أمين، بالأمر المباشر، ليالي الحلمية، العقرب، كيد النسا، لحظات حرجة، قضاة عظماء، أهل الطريق، حصاد الحب، الفرسان، العائلة، زهرة برية، عوالم خفية، حكايتي، الأب الروحى، كأنه امبارح، أمر شخصي ضمن أحداث مسلسل (إلا أنا)، فضلا عن كونه يشارك حاليا في مسلسلي (أيام، ووسط البلد) اللذين يعرضان على منصة (شاهد).
وفي النهاية لابد لي من تحية تقدير واحترام للفنان القدير (جمال عبد الناصر) فنان ذو موهبة كبيرة شارك منذ بداياته فى العديد من الأعمال الدرامية والسينمائية التى حققت نجاحا كبيرا إلى جانب تميزه فى الأعمال التاريخية والدينية، ويحرص دائما اختيار أعماله بعناية شديدة ولا يحب الاستسهال فى العمل، ولعل كل الشخصيات التى قدمها حتى فى صغره كانت على نفس منهج عمله باهتمام وحرص شديد منه لظهورها بشكل يليق بالجمهور سواء دورا كبيرا أو صغيرا، لذا فهو يشعر بالفرح والسعادة كلما وجد أعمالا فنية تحمل رسالة وقيمة لإيمانه الكامل بأن الفن رسالة قبل أن يكون وسيلة للمتعة، كما أنه يرى أن الفن الحقيقى هو الذى يسهم فى توسيع مدارك الجمهور ويساعده على فهم الواقع وقراءة كل ما يدور حوله، لذا يحركنى ضميرى دائما وحبى للجمهور على قوله.