بقلم : محمود حسونة
العالم من حولنا يكاد ينفجر من أزماته المتلاحقة وآلامه المبرحة وأوبئته المصنّعة، والتي تشغل بال الجميع، والأكثر انشغالاً هم من الأجيال الشابة، وتحديداً هؤلاء الذين لا يتوقفون عن الدراسة والبحث عن كل ما يمكن أن يحموا به مستقبلهم ويقضون من خلاله على الفوضى والانفلات والتخلف الذي ورثوه عن من يقتادون الكوكب إلى الهلاك.
عشنا أياماً سوداء مع كورونا، أصبح خلالها الابن في عزلة عن أبيه، والأخ عن أخيه، وأصبح لكل منا شأن يغنيه، في إطار مساعيه لبلوغ السلامة والنجاة من الوباء، أغلقنا على أنفسنا الأبواب والتزمنا بكل ما فرضوه علينا من اجراءات احترازية، ومع ذلك نال الفيروس من معظمنا وخطف العديد من أحبتنا.
وبعد أن بدأوا يبشروننا بأن العام 2022 سيشهد نهاية الوباء وستعود خلاله الحياة إلى سابق عهدها، وقبل أن يمر الشهر الثاني من عام الأمل، اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية
في إطار صراع الشرق والغرب، فهي الحرب التي يمكن أن تتحول ما بين عشية وضحاها إلى حرب نووية لا تبقي ولا تذر. وإذا كان من نتائج كورونا انخفاض النمو الاقتصادي عالمياً وارتفاع الأسعار، فقد جاءت الحرب لتشعل ناراً اقتصادية ستحرق حياة الفقراء وتهز رفاهية الأغنياء وتفرز حالة فوضى اجتماعية.
وبصراحته المعهودة، وشفافيته المعلنة، صدمنا الرئيس السيسي بعد أن كشف عن المستوى العلمي المتدني لخريجي جامعاتنا، معلناً أنه وجه الحكومة بتأهيل وتدريب عدد منتقى من شبابنا على البرمجة الإليكترونية، ليكون لنا من خلالهم مكان متقدم على خريطة الابداع الاليكتروني، وتم الإعلان عن فتح باب التقدم لمن يرغبون، وتقدم حوالي 300 ألف شاب، وخضعوا للاختبار المتعارف عليه دولياً، وكانت الصدمة الكبرى بأن لم ينجح منهم سوى 111 فقط!.. إنها الكارثة التي تبرهن على انهيار مستوى التعليم الجامعي في مصر والذي أصبح يمنح شهادات لمن هم غير مؤهلين لسوق العمل وللعبور بمصر إلى مستقبل أفضل.
نزاعات وحروب وأوبئة وصرخات توقظ أهل الكهف، ولكن ذلك لم يحرك ساكناً داخل قطاع من شبابنا اختار أن يهرب من الفراغ إلى فراغ أكبر، وأن يعالج أزماته بالاستغراق في مستنقع التفاهة، وأن يجعل نفسه مادة للسخرية على مواقع التواصل الاجتماعي، بعد أن هرول عدد منهم إلى مطار القاهرة الدولي لاستقبال (البلوجر التركي كوكسال بابا)، ووصل الأمر ببعضهم أن جاء من محافظات أخرى وقطع مسافات ليشارك في هذا الحدث الغريب، وتبعوه إلى الفندق وإلى المطعم الذي استضافه، لأهداف ترويجية وتسويقية، على أن يتسبب هذا الكوكسال في زيادة زبائنه وتضاعف أرباحه.
حجز صاحب المطعم المصري البلوجر التركي ولمرافقيه من حرسه الخاص تذاكر الطيران والفندق ودفع له، 50 ألف دولار حسب ما تردد على مواقع التواصل الاجتماعي، و8 آلاف دولار حسب تصريحات صاحب المطعم لواحدة من صحفنا، مقابل أن يأتي ويجلس ويتصور على طاولة الطعام المليء بكل أصناف المأكولات أملاً في أن يقفز به إلى مكان آخر ربحاً وشهرةً!
إذا كان صاحب المطعم (هداه) تفكيره أن هذا (الكوكسال) هو الذي يمتلك مفاتيح النجاح وبذل الغالي والنفيس أملاً في أن يجني الكثير من الأرباح، فإن صحافتنا غير المسؤولة ومواقعنا الإليكترونية التائهة في الفضاء الإليكتروني (هداها) هى الأخرى تفكيرها بأن الجري وراء هذا الوهم هو الذي سيعيد إليها جمهورها الذي فقد الثقة فيها بعد أن أصبحت عاجزة عن التعبير عن قارئها وهمومه وقضايا الوطن، ولم يعد يشغلها سوى السعي وراء ما يكرس التفاهة والسطحية والضلال الإعلامي.
أول خبر قرأته عنه في صحفنا ومواقعنا الإليكترونية كان بعنوان (كوكسال بابا يصل القاهرة)، وتخيلته نجماً سينمائياً عالمياً، أو مغني عالمي أصبح ملء السمع والبصر، فكان من الطبيعي أن أسأل المحيطين بي عنه، ووجدتهم لا يختلفون عني جهلاً به، واتضح أنه معروف لقطاع من الشباب غارق في عالم التيك توك، ومنفصل عن الواقع، ومستعد أن يدور وراء هذه النماذج حتى لو أهانوه ونالوا منه.
ولمن لا يعرفه مثلي، فكوكسال بابا، من قصار القامة وقد اشتهر على مواقع التواصل الاجتماعي منذ العام 2016، وأصبح له متابعين على انستغرام وتيك توك وباقي المواقع يقدرون بحوالي خمسة ملايين، وكل ذلك من الأمور المحمودة والتي لا يمكن الاعتراض عليها، ولكن هذا البلوجر اشتهر من خلال فيديوهات يسخر فيها من أشخاص طبيعيين ويتجاوز عليهم بمد اليد والضرب والتحقير، كما أنه عصبي حاد المزاج.
بعيداًعن التفسيرات المختلفة لسلوك كوكسال بابا العدواني، فكونه قصير القامة لا ينتقص من قيمته ولكنه لا يمنحه حق التجاوز على خلق الله، وطالما أنه شخص متجاوز بطبعه فكيف يتخذه شبابنا مثالاً، ويهرولون وراءه ويسعدون بتصرف سيء يتصرفه مع أي منهم؟، ورغم ذلك فإننا نلتمس لهم العذر عندما نعلم أن أحد نجوم أغاني المهرجانات في مصر قد استعان بهذا البلوجر في أحد فيديو كليباته وتعرض لإهانة منه فاستقبلها وكأن شيئاً لم يكن!!
(كوكسال بابا) يشبه مغني المهرجانات الذي تقبل منه الإهانة، ويشبه نجم التمثيل الذي لا يكرس سوى العنف والبلطجة في أعماله، ويشبه المغني الذي يقدم القبح والبذاءة اللفظية والموسيقية في أغنياته، وكلهم يشبهون الشباب الذين يهرولون خلفهم ويتخذونهم نجوماً، وأيضاً يشبهون هذا الزمان الذي سمح للتافهين بأن يطفو على سطح المجتمع وعلى سطح العالم ويتخذون من القرارات ما يخرب الكون ويدمر البشر والشجر والحجر.
ندرك أن الفراغ هو العدو الأكبر للإنسان وأنه سم قاتل يقضي على مستقبل من لا يقاومونه، ولكننا ندرك أيضاً أن الكثيرين يوظفون الفراغ لصالحهم ويستغلونه في تطوير مهاراتهم والتدريب على مهارات جديدة في البحث والدراسة للحصول على مزيد من التعليم حتى يستطيعوا انتزاع حقهم والحصول على فرصتهم، وندرك أن البعض يستسلم للفراغ حتى يتحول إلى كائن عديم القيمة والجدوى.
mahmoudhassouna2020@gmail.com