كتب : محمد حبوشة
أعتقد أن الناس على اختلافها أشكالهم يحبون الضحك، وبحسب علماء النفس والاجتماع يضحك الإنسان بمتوسط سبعة عشر ضحكة في اليوم الواحد، والضحك نفسه شيء غريب وغير مفهوم، ولكنه من أهم طرق التواصل البشري التي قد يستخدمها الإنسان للتنفيس عن الضغوط والطاقات المكبوتة، ويضحك الإنسان لكثير من الأسباب التي يمكن ألا تتعلق بمدى فكاهته؛ فربما نضحك لإيصال معلومة أننا نفهم ونتقبل الآخرين ونحبهم، وأحيانا قد نضحك للسخرية منهم، وغيرها من الأسباب، لكن كيف تمتلك القدرة على إضحاك الجمهور بالابتعاد عن الأشكال الكوميدية منتهية الصلاحية؟!؛ وكيف تصنع كوميديا خارج نواميس الكوميديا التقليدية، ربما هذا ما ضمن التفوق والنجاح لمسلسل (أنا وهى) الذي أكد عمليا تفوق الثنائي (أحمد حاتم، وهنا الزاهد)، والذي أصبح نموذجا مثاليا لكوميديا نابعة من القلب على طريقة (فلوستاف) ذلك الفيلسوف الضاحك الباكي.
ومن خلال مسلسل (أنا وهى) يمكنك إدراك هذا الجهد المتكامل في أن يعمل هذا الثنائي على محو آثار ما بذلت من جهد لترقى بالإنتاج إلى درجة البساطة الطبيعية، هكذا يقول شيشرون (أنه لمن الفن أن يبدو العمل خاليا من الفن، يصل هذا الرجل إلى تحليل البساطة والتلقائية فى تقديم العمل الفنى إلى هذا الحد خاصة فى الأعمال الكوميدية المترتب عليها تقديم صيغة فنية طبيعية لإضحاك الجمهور)، لهذا فإن كتاب (المسرح الفرنسى المعاصر) فرد المؤلف فيه فصلا كاملا عن النظريات وفلسفة صناعة الضحك وكيفية صياغته فى عمل فنى قادر على إدخال البهجة على الجمهور؛ وفى استعراض سريع لوجهات نظر المفكرين فى فلسفة الضحك صاغ المؤلف وجهة نظر كل منهم فى سطر أو أكثر؛ يعبر عن وجهة نظره فى فعل الضحك من الفاعل الممثل والمتلقى لهذا الفعل الجمهور.
(أنا وهى) مسلسل كوميدي يلخص أفكار (كتاب المسرح الفرنسي المعاصر)، وفي مقدمتهم (برجسون) الذي قال: إنه يمكن تلخيص نظرية أسباب الضحك فى العبارة الآتية: (ينجم الضحك عن كل ما يبدو لنا واقعيا من صميم الحياة وفى الوقت نفسه يبدو لنا مدبرا تدبيرا آليا، بينما قال (ملينان): (ينجم الضحك عن كل ما يدخل فى نطاق السخف والحمق وفى الوقت نفسه نشعر بأنه عادى مألوف لنا)، ثم تأتى نظرية (لوسيان فابر) لتقول: (ينجم الضحك عن كل ما يثير فى النفس القلق والخوف فى البداية ثم ينتهى بنهاية سعيدة)، بينما أنهى (مارسيل بانيول) هذا الجدل فى كتابه (على هامش الضحك) ليهدم هذه النظريات جميعا ويعرض وجهة نظره ونظريته فى الضحك حيث يرى: (أنه ليس فى الطبيعة مصادر ينجم عنها الضحك، لأنه ليس هناك شيء مضحك فى ذاته، ويرى فى اعتقاده أن الضحك يأتى من الشعور بالتفوق والنصر بمعنى إحساس الجمهور بالتفوق، فالضحك فى رأيه هو صيحة النصر وتعبير التفوق المؤقت الذى يشعر به الضاحك على الشخص الذى يضحك منه).
كل تلك النظريات والآراء في الضحك لاحظتها حاضرة بقوة في هذا المسلسل الذي أبدع فيه الثنائي (أحمد حاتم، وهنا الزاهد) ويشاركهما في صناعة لوحات فكاهية غاية في الروعة والجمال بدعم ومساهمة كل من الكوميديان القدير (أشرف عبد الباقي) بأداء هادئ وتكنيك عالي جدا في إثبات أنه يملك قدرات هائلة على إضاءة عمل كوميدي حتى ولو لم يكن بطله الأول، وكذلك (محمود البزاوي) في تجلياته مع (سلوى محمد علي) في فضاء كوميدي رحب يزيد من فاعلية المواقف والمشاهد التي تدفع في إنجاح هذا العمل الذي أمتعنا دون خدش للحياء أو اللجوء إلى السخافة والسماجة والتنطع بدافع الكوميديا، وحتى عبير صبري في تشنجها وانفعالها الزائد عن الحد أضافت بعدا مهما في كوميديا الموقف التي كانت سمة أساسية طول حلقات من المتعة الكوميدية التي تشير إلى قدرتنا – إذا أردنا – على انتشال الجمهور المصري من كبواته التي تلاحقه حاليا.
أكد مسلسل (أنا وهى) أنه مما لا شك فيه أن للكوميديا دورها الاجتماعي والفكري، في حياتنا في إطار تطور هذا الفن، ذي الأصل اليوناني، والذي يمكن رصد تأثيره في شكل حديث بدأه شكسبير، حيث قدم صنفا من الكوميديا الرومانسية إلى جانب تراجيدياته الشهيرة، وبرع شكسبير في إضفاء لمسة مرحة في معظم أعماله الكوميدية، التي برعت في تصوير الواقع، وما فيه من صراعات داخلية وخارجية، حيث كان يميل إلى التركيز على المواقف لا على الشخصيات، وهو ملمح شكسبيري، فصل بين الموقف والشخصية التي تؤديها، فعندما تقع الشخصية في محنة، كان الهدف في النهاية هو إضحاك الجمهور، كما ركز على حبكة مركبة، ومال إلى استخدام كافة الأساليب الكوميدية، كالتلاعب اللفظي والدعابات، من أجل تمرير الفكرة التي يدور حولها العرض، وهو ما نجح فيه (أنا وهى) في إضفاء أجواء مبهجة قائمة على صناعة الضحك النظيف.
لقد أجاب مسلسل (أنا وهى) علي سؤال جوهري ومهم، هو كيف ستكون الحياة إذا توقف الضحك؟ .. كثيرا جدا ما نسمع هذه العبارة في مديح الكوميديا، فبالطبع أصبحت الكوميديا انعكاسا مثيرا للحياة الثقافية الحالية والمناخ السياسي والاجتماعي خاصة في مجتمعنا المصري والعربي المعاصر، ويمتد تأثيرها في التغيير الاجتماعي والوعي الجمعي للشعوب وقدرتها الفذة في تأطير النقاش حول العديد من القضايا المسكوت عليها، وهناك من يقولون إن الكوميديين هم فلاسفة هذا العصر، وهو ما يتسق مع هذا المسلسل الذي مر علينا كطيف جمل متضمن نوعا من الجرأة والفكاهة، ولكن بعيدا عن الابتذال والشتائم، فلم يكن الهدف من مشاهده مجرد إطلاقٍ للنكات، بل ركز في جل حلقاته على كوميديا الموقف التي تستطيع رسم الابتسامة على وجوه المشاهدين من فرط الضحك النابع من القلب على جناح فكاهة جميلة وراقية.
القصة التي كتبها مصطفي حمدي، وعالجها إخراجيا من خلال صورة مبهجة وراقية المخرج (سامح عبد العزيز) قدمت لنا في الكوميديا مجال آخر يمنح إمكانية أوسع للنقد والحديث عن سلبيات المجتمع والناس، لذا فكانت كوميديا تعنى بفن النقد بالدرجة الأولى، وتؤكد على أن الكوميديا ضحك وجد، فكاهة ونقد، استمتاع وتفكير، والكثير من التناقضات معا لتكوين أسلوب آخر أكثر سلاسة وجاذبية لمخاطبة الناس، وهو ما يبدأ بالضحك والفكاهة وينتهي بالتراجيديا أحيانا، والتفكير العميق في المشاكل والسلبيات، وهنا فإن الكوميديا ليست ضحكا من البداية إلى النهاية، ليست ضحكا لمجرد الاستمتاع والتسلية، في الكوميديا نضحك على حماقة بعض البشر وسلبياتهم، ولكن يمكن أن نكون نحن ضمن هؤلاء السلبيين، لذا ضحكنا في البداية يجب أن يجرنا إلى بكاء في النهاية عندما ندرك حجم حماقاتنا، لنعيد التفكير من جديد في سلبياتنا بهدف التغيير وتبديلها بما يجب أن يكون من إيجابيات.
ومن خلال مشاهدتي للـ (18 حلقة) هى الجزء الأول من المسلسل يمكنني القول أنه في الحقيقة: ليست الأزمة هنا في صناعة الكوميديا أو في استقطاع الناس من أوقاتهم لأجلها بقدر ما هى فيما تعتمده هذه الصناعة من أدوات، ففي العموم، تعتبر الكوميديا فن البهجة – كأثر – وسرعة البديهة – كسبب – مع شيء من السخرية التي لا يخلو منها المجال، هكذا في المطلق العام، وهكذا أيضا عندما تكون الكوميديا وسيلة لإسعاد الغير أو للتعبير عن القضية بشكل خفي – كالكوميديا السوداء – فتكون السخرية أخلاقية أو بعيدة عن الذوات والأشخاص الذين لا يستحقون ذاك، لكن أن تكون غرضا في ذاتها فإنها بطبيعة الحال ستحوسل كل شيء – أي تحوله إلى وسيلة – في سبيل تحقيق أطماعها التي لا تقف عند حد معين للحصول على أكبر قدر مطرد من الضحكات.
تدور أحداث المسلسل في إطار من الكوميديا بين شخصيتي (هند) التي تجسد دورها الفنانة هنا الزاهد، و(سليم) الذي يجسد دوره الفنان أحمد حاتم، حيث ذهبا سوياً إلى دكتور نفسي يدعي (شيرين عبد الوهاب) الذي يجسد دوره الفنان أشرف عبد الباقي، ويحاول أن يحل مشكلاتهما بالدخول في حياة كلا منهما حياة الأخر، ويعاني (سليم) من الطيبة والخجل المفرط، والوسواس النظافة الزائدة، على عكس (هند) التي تعاني العصبية الزائدة والعدوانية المفرطة، وفي الحلقات الأخيرة قل الأمر تدريجيا بعد الوصول إلى حالة من التوافق النفسي نجم عن حالة حب حقيقية تنتهي بالزواج بين طرفي الصراع، في إشارة إلى أن العاطفة الصادقة يمكن أن تنتج من قلب أكثر المواقف تناقضا، وهذا هو سر الخلطة التي سعى إلى ترسيخها صناع هذا المسلسل.
كثيرة هى المشاهد التي ترقى إلى أن تكون (ماستر سين الحلقات) ولكني أتوقف هنا عند مشهد يبدأ تراجيديا وينتهي كموميديا من خلال مواجهة (الدكتور شيرين عبد الوهاب/ أشرف عبد الباقي) بحقيقة مرضه النفسي وانقلاب مرضاه عليه وتركه، لكن (هند/ هنا الزاهد) و(سليم/ أحمد حاتم) يصران على البقاء معه ومتابعة علاجهما بعد أن نجحا في التغير من أنفسهما على يديه، والذي جاء على النحو التالي:
يقول الدكتور شيرين لهما: انتوا كمان مش حتمشوا معاهم؟
سليم : لا أنا بالنسبة لي مبسوط بالتغيير اللي حصل ده.
الدكتورشيرين : انتوا بتقولوا كده بس علشان جيران وخايفين تزعلوني.
هند : لا خالص على على فكرة .. انته ساعدتنا وغيرتنا وبقينا أحسن .. أنا عن نفسي باثق فيك جدا .. وحتفضل الدكتور النفساني بتاعي طول عمرك.
سليم : ايه .. حتقول ايه أنا كمان .. أنا صحيح مش عارف اللي عنده ده اسمه ايه .. بس أيا كان أنا جنبك وحساعدك.
الدكتور شيرين : أيوه يعني تخيل اني قعدت فترة طويلة جدا متخيل ان ابني ده هو ابني وعمال بقاوح وبأجري عشان أثبت ان هو ابني وفي الآخر بيطلع ابن مراتي الأولانية .. وان أنا معنديش ابن ولا حاجة.
سليم : هوه انت مش علطول بتقول ان احنا زي ولادك؟
يتأثر الدكتور شيرين بكلام كل من هند وسليم ويبكي في صمت!!!
هند : لا ما النبي متعطتش علشان خاطري.
وفي النهاية يحول الدكتور شيرين الموقف حالة التراجيديا إلى موقف كوميدي قائلا : أنا مش باعيط دي حاجة جات في عيني!!!.
هند : يا سلام .. بتعيط.
عندئذ يبتسم الدكتور شيرين ويحتضن كل من هند وسليم وينتهي الموقف من قمة التراجيديا إلى قمة الكوميديا.