بقلم : محمد شمروخ
ما ظنى بالأيام السابقة التى شهدت جدلا سيظل صداه يتردد لمددة طويلة، إلا أنها فترة من أسعد أيام الزميل الكاتب الصحفي والإعلامى والروائي والمؤرخ والمفكر الكبير إبراهيم عيسى، لأنه كان فيها حديث الجميع وأن الطوبة التى ألقاها في الماء الهائج زادته هياجا!
وهنا لن أنزلق لمناقشة الموضوع الذي أثاره نحو تصديق أو تكذيب واقعة المعراج، فما أظن أنه ينكرها لأنها معجزة أو لأنها خارج نطاق العقل، فنطاق هذا العقل يبدو ضيقا حرجا بالنسبة للعملية الإيمانية برمتها، من نبوة وتنزيل وجنة ونار وشياطين وجان وسماوات وعرش وملأ أعلى، بل ودون ذلك من المجالات التى مازالت تجاوز العقل ومنها أشياء ليس بالضرورة غيبية أو متجاوزة بل منها ما يبدو في واقعنا المعاش، فيقف أمامه العقل كتلميذ خائب في مواجهة نظرية الكوانتم.
المهم أن السعادة التى أظنها اعترت الأستاذ إبراهيم، نابعة في اعتقادى من أنه صار محورا للحديث وهو يعجبه ذلك ولاأعتقد أنه ينكره، ذلك لأنه مؤمن جدا بذاته وقد تجاوز إيمانه بها حالة النرجسية البدائية، إلى عبادة الذات، فأعطى لنفسه الحق في الحكم على كل شيء حتى سار على نهج القاعدة البروتاجورية العتيدة (الإنسان معيار كل شيء)، فمنذ أن أطلقها بروتاجوراس شيخ مشايخ السوفسطائيين في القرن الخامس قبل المبلاد، وهذه القاعدة فرضت نفسها على الفكر الفلسفي إلى العصور الحديثة والمعاصرة، منذ عهد السوفسطائية وحتى زمن الوجودية، والاختلافات تبدو فقط في طرح (هل الإنسان المقياس، كنوع أم كفرد؟!).. لكن الأستاذ إبراهيم صار هو كإبراهيم المقياس لكل شيء.
أنا لا أردد ألغازا، فليسامحنى الأستاذ، فاعتداده بنفسه ظاهرة مرتبطة بالإبداع والمبدعين، بل أننا وجدناها متعملقة في شاعر مثل المتنبي (أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي وأسمعت كلماتى من به صمم)، وكذلك: (أنام ملء عيونى عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم)، و(الخيل والليل والبيداء تعرفنى والسيف والرمح والقرطاس والقلم)، فكما قالوا عنه (أراد مدح غيره فمدح نفسه!).
وهاك أبو العلاء المعري يقف فى وجه الدنيا ويقرر (إنى وإن كنت الأخير زمانه لآت بما لم تستطعه الأوائل).
هات يا أبا العلاء.. حتى أراد أن يأتى بمثل سور القرآن ولما عجز اتهم المحاريب بأنها أثقلته دون شعره!
ولقد اخترت هنا شاعرين من أعتى شعراء العرب، وهما مثالان في الاعتزاز والفخر، ومن الشعراء من بلغ اعتداده بنفسه مبلغ الجنون ولكن لم يكن كهذين الفرقدين في الاعتداد بالنفس في سماء الشعر.
ودعونى أتخذ قرارا باعتقادى بكفر إبراهيم عيسى
– ويحك يا رجل وهل صرت مكفرا وهابيا داعشيا؟!
– طبعا لا وألف لا.. ولكن تكفيرى له ليس بتكفير العقيدة والدين ولكنه وصف لمن كفر بكل شيء إلا نفسه!
نعم فإبراهيم يعبد نفسه بعد أن أعجبته حصيلته الثقافية وعلاقاته ونجاحاته (خمسة وخميسة النهاردة الخميس خمسة شهر خمسة).
نعم هو فرض نموذجا خاصا به، فهو لم يمارس الصحافة محررا لخبر أو مجريا لتحقيق أو راصدا لتقرير، لكنه دشن نوعا من الكتابة الصحفية اقترن باسمه حتى صار من أكابرها وبدا كأنه قبض قبضة من أثر حافر فرس جبريل، فشق قناة صارت نهرا يهدر في الصحف الورقية والمواقع الإلكترونية والفضائيات المصرية والعالمية.
فقديما لم يكد يبقل وجهه أو يطر شاربه حتى وجد نفسه من رموز مدرسة روزاليوسف الصحفية في زمن رهبها فيه الكبار قبل الصغار، وبعدها فاض النهر مع الدستور وبرامج الفضائيات وشاشات السينما وكل مقالاته لابد أن تقرأ وأفلامه لابد أن تنجح، فهو صحفي وروائي وإعلامى وسينارست وسياسي وداعية وعلمانى، يهابه رجال الأعمال وأصحاب القنوات ورموز السلطة يتجنبون غضبه ويشترون وده ويتمنون رضاه، يداهنه الحكام ويرتجيه الثوار، يخشى عداءه الإخوان ويكتفى السلفيون بهمهمة الدعاء الغاضب عليه، إن شئت رأيته في صفوف الحكام بلا منصب أو مركز، وإن شئت قابلته فارسا من فرسان المعارضة بلا حزب أو تيار.
يتحدث في أمر الجاهلية والإسلام، ويؤمن بجيفارا ويصاحب ساويرس، يكتب للبرادعى تويتته ويذهب لمبارك في قفصه، و…….. و…… و………… واملأ أنت الفراغات!
ثم تأتى بعد كل هذا ولا تريده أن يمارس طقوس عبادة الذات، وماله لا يعبدها وقد عبدها من قبله المتنبى والمعري؟!
فكل منهم فكر وقدر ثم نظر وبصر وأقبل وأدبر، فدار حول محوره ثم غرس كرمه وشرب خمره حتى انتشى، فصعدت ذاته به إلى السماوات، لكنه لم ير سدرة منتهى ولا جنة مأوى، فغشيه ما غشيه، فأنى لنا بعد ذلك أن نماريه!
أنا شخصيا معجب بأساليب تعبير الأستاذ وكتاباته، خاصة وأنه يرسل إلى أحيانا بعض إصداراته، فأراه مبدعا حقا، مالكا لناصية كلامه، مغترفا من النهر كيف يشاء، لا يكتفى أبدا بغرفه بيده، فيتجرع ويستسيغ غير عابئ إلا بلذة الارتواء!.
ما جئت ألقى لوما، بل لألقى عذرا، فإن آفة المبدع عبادة الذات ولم يكن عيسى بالمتفرد في ذلك لا قديما ولا حديثا، فقد عبدها من قبله جل المبدعين، إن لم يكن كلهم، طه والعقاد والحكيم وبدوى وأنيس وعبد القدوس وإدريس ودنقل وقبانى وأدونيس وكثيرون مما لا يعد ولا يحصى ممن نعرفهم أو لا نعرفهم، كل صعد بمفرده على درجات الأنا العليا فمكث عند الدرجات الأدنى من قاوم جذبات العلو خشية الدوار، لكن كثيرين واصلوا الصعود غير أنهم لم يعودوا.
إنه الإنسان عندما تعجبه نفسه، فعندما سمعت المقطع الذي تحدث فيه عن خداع المشايخ لنا، ضحكت ولم ألتفت إلى معنى ما قال ولا اهتممت به، بل وأزيد: لم أهتم به منكرا أو مثبتا ولكنه انفعل وغضب وزمجر.. لماذا؟!.. لأنه يرانا مخدوعون.. ومن خدعنا؟. إنهم المشايخ.. ومن هؤلاء المشايخ؟!..
يا سيدى إنهم هؤلاء الماكثون في مغارات (جبل قاف) منذ الأزل وإلى الأبد، بأيديهم المحابر والأقلام يكتبون ما يخدعون به العالم وكذلك يمحون ما لا يروق لهم أن يعلمه غيرهم!
لكنك أول من تعلم أن هؤلاء الشيوخ لا وجود لهم إلا في مخيلة فريق من اثنين.. إما هؤلاء المتطرفون دينيا أو أولئك المتطرفون علمانيا!.. فكلهم يحجون إلى (جبل قاف) إن ليلا وإن نهارا.. ذلك لأنه لا قيمة لهؤلاء ولا أولئك إلا بوجود جبل قاف ومغاراته وشيوخه.
لكن سؤالا لم يسأله أحد في خضم الضجيج ووسط الزعيق والنعيق: من أين لك يا سيدى أنهم أخفوا عنا؟!!.. يليه سؤال ثان : كيف عرفت بما أخفوه؟!.. وثالث: هل كتبوا بحبر سري أم أوتيت وحدك تأشيرة الصعود إلى مغارات قاف ليطلعوك على ما لم يطلعوا به دونك من العالمين؟!
إن التاريخ لا يخدع إلا من يريد أن يخدع، فالكتب مفتوحة ولا أسرار لا في القديم ولا في الجديد!
إذن فقد ذكر شيوخ قاف القصص جميعا حتى علمها القاصى والدانى، ولكن أمرا ما جعل الأستاذ إبراهيم يؤكد لنا أن مشايخ الجبل يخبئون عنا ما يبدونه له!
هل تعلم يا أستاذ أن الوهابيين المتشددين الإرهابيين من أتباع جبل قاف، ينكرون غالب أحاديث المعراج حتى أنهم يجزمون بتزييف كتاب منسوب إلى عبد الله ابن العباس عنها، لأنه مفعم بالأحاديث الباطلة التى اشتهرت بين الناس!
– من وضع الأحاديث؟
– هم
– من أنكرها؟
– هم
من أوصلها إليك وإلينا؟
– هم
هم وهم وهم.. (لكن نكران الأحاديث لا يعنى إنكار الحدث)
فمن خدعنا إذن؟!
ثم لماذا الخداع وما الدليل على أنك أنت نفسك لست من شيوخ قاف وأنك تخدعنا زاعما أنك من جبل الأوليمب، فذلك جبل الشيوخ وذاك جبل الآلهة، وبين الشيوخ والآلهة، ضل من ضل وسقط من سقط، فليس سوى نعم ولا .. وبين (نعم) و(لا) تطير الأرواح من موادها والأعناق من أجسادها، فالسلام على قائلها (ابن عربي)، والسلام على سامعها (ابن رشد)، والسلام على كل شيوخ جبل قاف وإن لم نعرفهم، لا هم ولا قاف!.