بقلم : سامي فريد
كنا قد بدأنا في العمل في صحيفة الأهرام في طبعته الثانية التي تبدأ من بعد الساعة الثامنة مساء وتنتهي بصدور الجريدة ما بين الساعة الحادية عشر إلى الثانية عشرة ليلا.
دق جرس التليفون على الدسك المركزي الذي يدير العمل، وكان المسئول هو الكاتب الصحفي المعروف ونقيب الصحفيين فيما بعد الأستاذ مكرم محمد أحمد، كان في ذروة انشغاله بما بين يديه من مواد خبرية للطبعة الثانية فرفع سماعة التليفون ومازال يكتب ويصحح ويؤشر وسمعناه: صابر عبدالوهاب زميلي من سكرتارية التحرير الفنية في السهرة وكاتب هذه السطور.. سمعناه وكان مايزال يكتب ليتوقف عن الكتابة فجأة وقد تحول انتباهه كله إلى من كان يكلمه.
قال الأستاذ مكرم والجدية والاهتمام قد شغلاه: أيوه.. مين؟ طب اهدا كده وكلمني.. أنا مش فاهم منك حاجة وانت بتبكي!!
ويبدو أن من كان يكلمه قد هدأ فبدأنا نتابع معه ما هو مشغول فيه..
وأدركنا من فقرات الحوار المتقطع بين الأستاذ مكرم ومن كان يحدثه أن محدثه كان هو (ياسين اسماعيل ياسين) نجل الفنان الكوميدي الكبير إسماعيل يس..
وأشار لنا الأستاذ مكرم لنكون معه وإلى جواره على الدسك لنتابع معه ما يلزم..
عرفنا مما كان يكتبه وراء ياسين أن والده إسماعيل يس قد عاد إلى البيت في الزمالك في تلك الليلة حوالي العاشرة أو بعد ذلك بقليل متعبا فجلس على حافة الفراش وقال لابنه ياسين: أنا تعبان قوي يا ياسين.. الظاهر ح أموت!
ولم يصدق ياسين ما يقول والده أو استبعده .. لكنه أضاف يحكي للأستاذ مكرم محمد أحمد أن والده بعد ذلك ارتمى بظهره فوق الفراش وصمت تماما رغم محاولات ياسين الفاشلة في إيقاظه .. هو لا يصدق أن أباه قد مات!
قال ياسين في ختام حديثه أو استغاثته بالأستاذ مكرم: أنا مش عارف أعمل ايه دلوقتي!.. أنا لوحدي واللي جه على بالي إني أطلب الاهرام لأن أبويا كان دايما يجيب الأهرام.. فطلبتكم عشان تساعدوني!!
وقال الأستاذ مكرم: طب اهدا كده يا ياسين واديني نمرة تليفونك.. وبعدين يا أخي انت مؤمن وتعرف ان الموت علينا حق.. اديني تليفونك وما تتحركش لحد ما أطلبك تاني..
وضع الأستاذ مكرم سماعة التليفون وأشار لنا لنجهز صورة للراحل إسماعيل ياسين، ثم قطع الصفحة الأخيرة من الاهرام ليحذف منها الأخبار الخاصة بالطبعة الأولى والتي يرى أنه يمكن حذفها لينشر مكانها خبر وفاة إسماعيل ياسين مع صورته، إضافة الي خبر صغير عن وفاة إسماعيل يس في الصفحة الأولى يكون إشارة إلى التفاصيل التي ستنشر على الصفحة الأخيرة..
وكان لابد أن ننتبه إلى أن الاستاذ فايق لطف الله، مسئول الأرشيف في السهر قد نزل منذ ما يزيد على نصف الساعة ومعه المساعد يسألنا ويسأل الدسك والمسئول بالطبع الاستاذ مكرم إن كان يريد أي صورة قد يستعين بها أو يحتاجها في الطبعة الثانية، لكن الاستاذ مكرم صرفا شاكرا، إذ كان كل الاهتمام كما هى العادة بالأخبار العالمية أو ما قد يستجد من الأخبار المحلية المفاجئة مثل خبر رحيل الفنان إسماعيل يس..
توقف الأستاذ مكرم لحظات ثم سألنا إن كنا نستطيع التصرف وإنقاذ الموقف فالخبر في لغة الصحافة إنفراد خاص بالأهرام لأن ياسين نجل المرحوم لم يكلم مخلوقا سوى الأهرام ومن غير المعقول أن يصدر مثل هذا الخبر بدون صورة لإسماعيل ياسين..
وتطوع الاستاذ صابر عبدالوهاب فطلب من الأستاذ مكرم ان يامر الأمن بأن يفتحوا له مكتب الأرشيف ليحاول هو العثور على أي صور للفقيد..
وصعد صابر إلى الدور الخامس حيث قسم المعلومات (الارشيف والصور)، وغاب ما يقرب من نصف الساعة بينما الأستاذ مكرم يجري اتصالاته بكل من يراه مسئولا عن مثل ما حدث من نقابة الممثلين ومن يعرفهم من زملاء الفنان والفناننين والمسئولين.. كان يكلم الجميع بلهفة وحماس لسببين: أولا لتتم اجراءات تدبير المدفن وحجز مسجد عمر مكرم وإعلان الخبر على الجميع.
وثانيا: حتى يستطيع هو أن يتابع أخبار الطبعة الثانية حتى لا يتخلف الأهرام عن غيره من الجرائد.
ونزل صابر يعلن فشله في العثور على صورة للفقيد بعد أن قلب الأرشيف كله رأسا على عقب، وذلك لأن كل الدواليب كان مغلقة بالمفتاح.
وكاد الأستاذ مكرم ان يفقد صوابه وهو يرى أن خبرا في مثل أهمية هذا الخبر سينشر ناقصا..
وقلنا كحل أخير اننا سوف نلجأ إلى الأرشيف الجاهز من (الأكلشيهات المستعملة) في جريدة مثل (وطني)، وكان الأهرام يتولى طباعتها في القسم التجاري.. ووافقنا الأستاذ مكرم على هذه الخطوة وكحل أخير!!.
نزلنا صابر وأنا الى الدور الثالث حيث صالة إعداد الصفحات لمطبعة (الروتاتيف) الكبيرة في الدور الأرضي.. وكان لابد أن نطلع الحاج محمد ربيع، مسئول الدور الثالث على كل ما معنا والمشكلة التي وقعنا فيها..
وقال الحاج ربيع إننا يمكن أن نفتش في أكليشهات جريدة وطني فربما نجد شيئا ولكن بشرط أن تعيد كل شيء إلى أصله حتى لا نفسد بأي شكل عمل الحاج سلامة مسئول العمل التجاري..
وبدأنا البحث فافرغنا كل الصناديق من الأكليشهات والتي كانت فيها بعد أن قسمنا العمل بيننا صابر وأنا من سيبحث في الكليشهات المعجونة بالحبر القديم لنكتشف بعد تنظيفها إن كانت فيها صورة لإسماعيل يس.. والثاني منا يتولى متابعة غيار الصحفات في الأهرام المعدة للطبعة الثانية..
وكانت المفاجأة أنني وجدت صورة نصف عمود صغيرة لاسماعيل ياسين من إعلان كان معدا عن كازينو مسرح بديعة مصابني.. بدا فيها وجه إسماعيل يس صغيرا كشاب في عشرنيات عمره..
اتصلت بالأستاذ مكرم لاستأذنه في استعمال هذه الصورة في الصفحة الأخيرة فوافق على مضض وهو يقول: ماشي.. بكرة نعمل له اللازم إن شالله صحفة كاملة بس ما يفونتاش الخبر الليلة..
أحكي هذه الحكاية وفي ذهني حكايات مؤلمة عن نهاية إسماعيل ياسين بعد أن صادرت الضرائب مسرحه وكان يعمل فيه من الفنانين (زينات صدقي ومحمود المليجي وعبدالفتاح القصري)، إضافة إلى أي فنان متعطل لا يعمل وكان إسماعيل يس يطلب من أبوالسعود الابياري صديق عمره أن يكتب له ولو سطرين في المسرحية ليجد في آخر الشهر أي مبلغ يستعين به على حياته.
ثم ما حدث بعد ذلك من مصادرة عمارة إسماعيل ياسين في الزمالك، وكانت من أكبر العمارات في الزمالك كلها وقت أن كان إسماعيل يعمل في الموسم الواحد ربما 15 فيلما!!
ثم رحيله إلى لبنان ليعمل في أخريات أيامه في إعلانات أمواس الحلاقة والإسبرين حتى يستطيع أن يعيش.
وسبحان الله كانت البداية مشواره من الشقاء .. وكذلك كانت النهاية..
وكانت البداية من ترك السويس مسقط راسه ليبحث عن أي مسجد ينام فيه.. وهى حكاية حكاها في برنامج (جرب حظك) وهو يبكي أمام ظاهر أبو زيد.
وكانت النهاية الحزينة بإعلانات أمواس الحلاقة في لبنان بعد أن صادرات الضرائب كل ما كان عليه لها من مستحقات.
رحم الله الفنان الكبير إسماعيل ياسين الذي وافته منيته يوم 24 من مايو عام 1972.