بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
أتابع منذ زمن بعيد معظم العروض المسرحية سواء للزملاء المحترفين أو الهواة – ما استطعت إلى ذلك سبيلا – و نادرا ما أتخلى عن فرصة مشاهدة عرض جديد إلا لظروف قاهرة ، و عندما تلقيت مؤخرا الدعوة لحضور عرض للهواة سارعت بالذهاب و كلى شغف ، فصانع العرض هو ( مايكل مجدى ) أحد من تخرجوا على يدى من ورشة الإخراج باستوديو المواهب بمركز الإبداع ، إلى جانب أنه فاز بجائزة ( عصام السيد للإخراج للعمل الأول ) و التى أقيمها مع مهرجان شرم الشيخ للمسرح الشبابى منذ ثلاث دورات ( فقلت أروح أطمن إن تعليمى جه بفايدة ، و إن فلوسى ذهبت لمن يستحق ) و لم يكن هذا فقط سبب اهتمامى ، فهناك أسباب أخرى متعددة . أولى تلك الأسباب أن العرض مأخوذ أو هو ترجمة درامية لكتاب ( علاقات خطرة ) للدكتور محمد طه الاستشارى النفسى ، الذى يقول عن كتابه إنه الأكثر مبيعا فى مصر و الوطن العربى ، و بما أننى لم أقرأ الكتاب ، فقد استفزنى هذا الوصف لمشاهدة العرض .
و السبب الثانى أن الفرقة برغم أنها من الهواة إلا أنها صنعت لنفسها جمهورا فى زمن قصير ، فقد كُتب فى دعاية المسرحية أنها من صناع عرض ( الحب المحرر ) مما يعنى أن للفرقة عرضا سابقا و أنه حقق نجاحا كبيرا ، و لهذا يتم استغلال هذا النجاح فى الدعاية للعرض الجديد .
ثالث تلك الأسباب أننى معجب بإصرار الشباب على إيجاد طرق مختلفة لعرض إنتاجاتهم ، بدلا من البكاء على عدم وجود فرص ، فلقد انتشرت فى الفترة الأخيرة صيغة جديدة للإنتاج هى فرق الهواة الخاصة أو الفرق المستقلة فعلا و قولا ، و التى لا تعتمد فى تمويلها على الحكومة بأى شكل من الأشكال ، و لا تتقاضى أى نوع من أنواع الدعم سواء من القطاع العام أو المراكز الثقافية الأجنبية أو منظمات المجتمع المدنى ، إنه مسرح خاص بالشباب يتم تمويله من خلالهم ، فيستأجرون أحد المسارح و يتعاونوا على جمع تكاليف العرض ، أما العائد فبالكاد يغطى تلك التكلفة ، و ربما لا يتقاضون أجورا ، بل يكفيهم أن يراهم الجمهور و يسعدوا برد فعله .
و عندما ذهبت إلى العرض تأكدت أن تلك الصيغة الإنتاجية تتنامى و تأخذ فى الاستقرار لتصبح ظاهرة مسرحية يلجأ لها كثير من شباب الهواة ، ففرقة (بيتر شو) التى تقدم عرض ( علاقات خطرة ) قوامها عدد كبير من الشباب و الفتيات الذين يعشقون التمثيل ، كانوا يمارسون المسرح من خلال كنائس مختلفة ، و لما أحبوا الخروج عن إطار العروض الكنسية التى تمتلئ بالوعظ ، و يقدموا أعمالا مختلفة أكثر ارتباطا بحياتهم فى كل جوانبها ، اجتمعوا فى فريق واحد و كأنه منتخب من المسرح الكنسى ، و استأجروا مسرحا و معدات صوت و إضاءة ، و قدموا عرضهم بلا تمويل و بلا أى دعم من أى جهة سوى تذاكر الجمهور ، حتى أنهم يقدمون العرض مرتين يوميا ، بلا كلل أو ملل او تعب ، لكى تتوزع تكلفة العرض على عدد حفلات أكبر و ترتفع الإيرادات . و برغم أن التذكرة كانت 100 جنيه – مثلها مثل مسارح الدولة التى تكتظ بالنجوم – إلا أن المسرح كان ممتلئا عن آخره ، مما أثار دهشتى ، و بعد قليل أدركت السبب .
العرض يقدم لنا مجموعة من العلاقات بين البشر التى يصفها صاحب الكتاب بأنها أحد الأسباب الهامة للسعادة والبهجة والإقبال على الحياة .. و أحيانا تكون أحد مصادر التعاسة والألم ( ممكن علاقة تطلعك سابع سما، وعلاقة تانية تنزلك سابع أرض .. اللى بيبوظ ويشوه ويؤذى الناس علاقة .. واللى بيصلح ويغير ويعالج الناس برضه علاقة ) . و يمتلئ الكتاب بأنواع و أشكال من العلاقات ، بداية من علاقة الإنسان بنفسه و انتهاء بعلاقته بكل من يعرفهم .
و من خلال مجموعة من المشاهد المتقاطعة تتحول مقالات الكتاب إلى دراما دامية و موجعة ، لتصبح المسرحية لوحة ضخمة مكونة من أجزاء صغيرة ، كلها تعبر عن التشوهات التى تصيب الإنسان نتاج للعلاقات الخاطئة و المريضة . و برغم أن المخرج – الذى قام بإعداد النص أيضا – حاول أن يتخذ من الكوميديا ستارا يخفى به بشاعة الألم إلا أن الضحك الذى يثيره العرض يدفع إلى البكاء . فمع ميلاد الطفل تبدأ أسرته فى زرع الشوك فى طريقه ، بداية من رفض الإجابة على الأسئلة الوجودية عن ماهيته و من هو الله ؟ و كيف يراه ؟ مرورا بعلاقاته العاطفية التى غالبا ما تفشل، و خطط زواجه التى تتحطم على صخرة الماديات و التطلعات ، نهاية بالأمراض الاجتماعية و الجسمانية التى ربما تفرض عليه أن يلجأ الى القتل الرحيم .
الحقيقة أن العرض لا يمكن تلخيصه أو الإلمام بكل المشكلات التى يتحدث عنها أو فيها ، إلا أن ما أثار انتباهى ، حتى أصبح شاغلى الأكبر طوال العرض ، كان تفاعل الجمهور – الذى يمثل الشباب 90 % منه – فقد كنت أظن أن العرض يقدم لنا نماذج شاذة و مريضة و بالتالى هى أقلية ، و لكن تفاعل الجمهورمع العرض كان كبيرا و ضخما و كاشفا ، تفاعل يثبت أن الجروح طالت الجميع ، و أننا أمام جيل لا نعرفه و لا نعرف مشاكله و آلامه ، و أننا كآباء و كأجيال سابقة نؤذى أبناءنا و القادمين بعدنا دون أن ندرى ، و أننا ربما نحطم من نحب بجهل و جهالة تحت دعوى أننا نعرف مصلحتهم أكثر منهم ، أو أننا نحافظ عليهم . و على مدار ما يقرب من ساعة و نصف استطاع (مايكل) و فريقه الرائع أن يمسك بأنفاسنا و يثير إعجابنا و يستدر دموعنا و يدعونا لأن نعيد النظر فى علاقاتنا بالنفس و بالآخر .
و أمام حماس المؤدين و انضباطهم و استقبال الجمهور للعرض ، أخذت رأسى تطن بسؤال : لماذا لا نفتح مسارح الدولة لمثل هذه العروض ؟ ، نحن لا نطالب بأن تنتج لهم الدولة أو أن تعطيهم دعما ، و لكن أن تستضيف مثل هذه العروض الناجحة ، فهذا أفضل من أن تظل بعض المسارح مغلقة بالشهور لتعثرها فى الإنتاج ، و ربما كانت حافزا لآخرين على الإنتاج ، أو ربما كانت حافزا لمن يتولون اختيار العروض التى تقدم على مسارح الدولة ، أو ربما أراحونا و تواروا خجلا أمام نجاح (مايكل و محمد) .