بقلم : محمود حسونة
الانفلات الإعلامي داء يصيب المجتمعات ولا تقل آثاره الهدامة عن الانفلات الأمني، حيث يساهم في أن تسود الفوضى وتنتشر الفتن وتسري الشائعات والجدل العقيم في جسد المجتمع حتى يضعف ويتهاوى ويصبح عرضة للاختراق وللأمراض المختلفة التي تنال استقراره وأمنه وأمانه. ورغم التعافي المصري من حالة الانفلات الأمني التي أعقبت انتفاضة يناير، ورغم التعافي الاقتصادي ونسب النمو العالية التي جعلت الدولة محل تقدير المؤسسات الاقتصادية والمنظمات الدولية والدول القريبة والبعيدة، ورغم استعادة القاهرة لدورها كعاصمة مؤثرة إقليمياً ودوليًا يتم الإنصات إليها عندما تتحدث والاستجابة لإرادتها عندما تقرر، إلا أن حالة الانفلات الإعلامي لا تزال مصدراً للفوضى المجتمعية.
بعض الإعلاميين المصريين تجاوزوا كل قواعد المهنة، وانتهكوا ميثاق الشرف الإعلامي بما يبثونه من سموم وأكاذيب، تنال من الثوابت وتثير اليوم بلبلة، وستخلف غدا أمراضاً مستفحلة داخل المجتمع.
الجمهورية الجديدة في مصر عنوان للالتزام والبناء والتطور والسعي إلى مستقبل أفضل لشعب عانى كثيراً من غياب القانون والفوضى المجتمعية، جمهورية تحارب الفساد وتخطط للمستقبل وتفي بالوعد وتكرس القيم وتطبق القانون وتحارب العشوائيات وتنهض بالاقتصاد وتقهر الإرهاب وتسعى لحياة كريمة لأهل الريف وحياة متحضرة لأهل المدن.
يبدو أن الجمهورية الجديدة المنشغلة بالعديد من الملفات المهمة والتي تسابق الزمن لتحقيق طموحات المصريين، سقط منها ملف الإعلام الذي لا يزال يعاني العشوائية ويكرس الأنا لدى بعض ممن يُعتبرون رموزاً له، ويعجز عن التعبير عن المشروعات الضخمة والإنجازات غير المسبوقة التي تحدث على أرض مصر. لا زال إعلامنا يتحدث بنفس لغة ما قبل 2011 وسنوات الفوضى اللاحقة ليناير الغضب، والسبب ليس خافياً على أحد، فنفس الوجوه التي كانت تجلس على عرش الإعلام المرئي قبل يناير 2011 ويونيو 2013 ، لا زالت هى التي تجلس على عرشه اليوم، وبالطبع فإن هؤلاء الذين استطاعوا الجلوس على مختلف الموائد والتلون حسب المتطلبات، يتوهمون أنهم أصحاب قدرات خارقة، وأن لا أحد يمكنه أن يزحزحهم من مواقعهم، وهو ما يمنحهم الحق في التجاوز على الرموز والانفلات والسعي بجهل، لتشويه كبار رموز التاريخ والحاضر، ولا زال هؤلاء يؤمنون بأن إحداث الصدمات غير المتوقعة للجمهور تثير بلبلة وتجدد الشهرة، وأن ثبات الإعلامي على كرسي القمة تتحكم فيه عدد الصعقات التي يصعقها للمجتمع في ثوابته.
الإعلامي الحنجوري الذي اشتهر بصوته العالي وجعجعته بلا طحن، اتخذ من تشويه صورة فضيلة الإمام الأكبر أحمد الطيب هدفاً، ومنذ أن كان يعمل في قناة اليوم المشفرة وتحديداً في عام 2015 وحتى اليوم حيث استقر في mbc) مصر( وهو يظهر من حين لآخر مهاجماً شيخ الأزهر ومطالباً إياه بالاستقالة، وكأنه ينفذ أجندة وضعها له من لا يريدون الأزهر منارة للإسلام الوسطي المعتدل، ولا يريدون أن تصبح مصر في عيون العالم الإسلامي هي دار الاعتدال الديني، فأصبح هو ومن وضعوا له هذه الأجندة الخبيثة ينقبون ويبحثون عن مقاطع يجتزئونها من كلام الإمام للنيل منه ومحاولة تشويه صورته في المجتمع.
آخر تجاوزات جعجاع الإعلام في حق شيخ الأزهر ادعاءه أنه قال أن الاسلام يبيح ضرب الزوجات أملاً في أن يدفع ذلك النساء لكراهيته ويخلق تصدعاً داخل الأسرة والمجتمع، رغم أن شيخ الأزهر هو القائل (إن العنف ضد المرأة أو إهانتها بأي حال دليل فَهم ناقص أو جهل فاضح أو قلة مروءة.. وهو حرام شرعًا)، إلى جانب دعوته الواضحة لإصدار تشريعات لمنع الضرب مطلقًا، وتأكيده أن (الإسلام لا يقبل بالإيذاء البدني لأَسْرى الحرب.. فكيف يقبله للزوجات؟).
الهدف من هذه الحملة الخبيثة ليس شيخ الأزهر ولكن الهدف هو السطو على دور مصر في الإسلام السني وتحويله لآخرين.
وإذا كان الجعجاع يحاول النيل من رموز اليوم فإن (أبو حمالات) الذي اعتاد التجاوز على ثوابت الدين، يسعى للتشكيك في رموزنا التاريخية، ونموذج ذلك تجاوزاته في حق سيف الله المسلول (خالد بن الوليد) مشبهاً إياه بالمغول والدواعش، ليصل بذلك إلى أقصى حدود التشويه لقائد خلده التاريخ رمزاً.
ولم يكتف (أبو حمالات) الذي أصابه من الغرور ما يسمح له بقول ما يشاء وقتما يشاء طالما أن لا أحد يتصدى له، وآخر خرافاته المبتذلة مخاطبته لمشاهديه: (لو أنت من مواليد الستينيات ولحد 1975، أؤكد لك ستجد صورة لجدتك بالمايوه، وصورة لوالدتك بالمايوه والكات، سواء كنت في المنيا أو سوهاج أو المنصورة أو المنوفية)، وهو ما أثار غضبا داخل المجتمع المصري كله وخصوصا لدى نساء الصعيد اللائي لا يعرف معظمهن شكل المايوه.
من حق هذا أو ذاك أن يدعو لانفتاح المجتمع ولكن بلغة لا تشكك في الثوابت ولا تؤتي سوى نتائج عكسية وتزيد الناس غضباً وتعصباً ورفضاً للخطاب الإعلامي.
الانفلات وصل بأحد كبار إعلاميينا أن يستضيف رجلاً اعتبر نفسه محللاً شرعياً وتزوج 33 مرة في عامين، وكأن الترويج للنماذج المشوهة من وظائف إعلام هذا الزمان!
وعندما ينفلت الكبار فمن الطبيعي أن يسير على دربهم من هم أقل منهم خبرة ووعياً وشهرة، وطالما من حق هذا أن يقذف رمزاً دينياً ومن حق ذاك أن يشوه رمزاً تاريخياً ومن حق الثالث أن يمنح مساحة من برنامجه لمن يعرض نفسه على الباحثات عن محلل شرعي وعلى مسمع ومرأى من داعية برنامجه، فمن حق مذيع شاب أن ينال من أكبر نادي مصري وهو النادي الأهلي ويعتبره لا يمثل مصر، متجاوزاً بذلك في حق ما لا يقل عن نصف المصريين يمثلون جمهور النادي العريق.
وطالما أن الانفلات الإعلامي قد وصل إلى الذروة، فمن حق مذيعين مجهولين لبرنامج لا يعرفه سوى العاملين فبركة مداخلة مع طبيب القلب المصري العالمي مجدي يعقوب، وباعتبار أن الرجل قد وهب حياته لمعالجة أصحاب القلوب الموجوعة ويرفض الظهور الإعلامي زهداً في الشهرة فقد أراد هذين المجهولين لفت الأنظار إليهما وتحقيق ما عجز عنه مشاهير الفضائيات وقادهما شيطانهما إلى تكليف أحدهم بالاتصال بهما وادعاء أنه السير مجدي يعقوب، ولأن الأغبياء فقط هم الذين يدعون الذكاء، فقد اختار المذيعان ممثلاً فاشلاً عجز عن تقليد عملاق أمراض القلب في الصوت وفي كل شيء.
من المؤكد أن الصغار سيعاقبان على أفعالهما، وسيدفعان ثمن خطاياهما، أما الكبار فلم ولن تتم مساءلتهم باعتبار أنهم أكبر من المواثيق والأعراف والقواعد الإعلامية، وبذلك فإن مسلسل الانفلات لن يتوقف إلا في حالة واحدة، وهو التفات الدولة لما يحدث في الإعلام وتطبيق قوانين محاربة الفساد ومحاسبة الفاسدين على من يعتبرون أنفسهم كباراً في هذا المجال، وإلا فسوف يستمرون يعيثون في الأرض فساداً وإفساداً وانفلاتاً وتخريباً من دون رادع.
mahmoudhassouna2020@gmail.com