بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
غادرنا الكاتب الكبير ياسر رزق بعد أن سجل شهادته على أحداث جسام غيرت وجه التاريخ فى مصر و الوطن العربى ، أحداث وقعت فى فترة يصفها بأنها أكثر الحقبات صعوبة و أكثرها مدا و جزرا فى تاريخ مصر الحديث ، و هى شهادة موثقة من شخص شارك فى الأحداث ، و راقبها عن قرب ، و كان مطلعا على كثير من خفاياها و أسرارها دون تواتر او عنعنة ، و على علاقة وثيقة – بحكم المهنة و المنصب – بأطرافها الفاعلة ، ليصبح شاهدا على محطات حاسمة ووقائع مفصلية بعضها معلوم للقلة و مواقف فارقة معظمها فى طى الكتمان ، ثم صاغ شهادته تلك فى أسلوب أدبى راقٍ و منمق ، أعتقد أنه تأثر فيه بأستاذه و أستاذ الجميع الكاتب الكبير ( محمد حسنين هيكل ) الذى امتعنا دائما بأسلوبه الأدبى حتى و هو يتناول موضوعات سياسية فى غاية التعقيد .
هذه الشهادة التى سجلها ياسر رزق فى كتابه الضخم ( سنوات الخماسين ) – لاحظ التشابه فى العنوان مع سنوات الغليان لهيكل – على 397 صفحة من القطع الكبير ، هى الجزء الأول من ثلاثية تحكى كيف سقطت الجمهورية الأولى – جمهورية ثورة يوليو 52 – و لماذا سقطت ، و كيف وثبت جماعة الإخوان إلى كرسى الحكم عبر الخديعة – كما يروى الكتاب – محاولة أن تقيم جمهورية من سراب ، كنتاج لتعذر الرؤية وسط غبار رياح الخماسين التى اثارها الربيع المصرى .
و الحقيقة أن الكتاب يثير مجموعة من الأسئلة التى لا تقلل من شأن الجهد المبذول فيه ، و لا تقلل أيضا من أهمية الشهادة الواردة عبر صفحات الكتاب ، أولى تلك الأسئلة : هل يجوز أن نجمع حقبتى عبد الناصر و السادات و مبارك فى سلة واحدة و نقول إنها جمهورية واحدة ؟ ألم ينقلب السادات على كل أفكار و توجهات عبد الناصر ، بل و حاول محو كل إنجازاته ؟ ألم يقم حكمه على محو ( اشتراكية عبد الناصر ) و الارتماء فى حضن الرأسمالية العالمية ؟ ، إن مفكرا كبيرا كالدكتور غالى شكرى اعتبر فترة حكم السادات هى ثورة مضادة على ثورة يوليو ، و نشر كتابا ضخما عنوانه ( الثورة و الثورة المضادة ) يثبت فيه انقلاب السادات على كل ما جاء به عبد الناصر ، و تبحّر فى الفروق بين نظامين للحكم لا يجمع بينهما إلا انتماء رأس الدولة للضباط الأحرار فقط !
أما فترة حكم حسنى مبارك فلا أعتقد أنها تنتمى لثورة يوليو – برغم محاولات التمسح بها – بل إنها فترة لا تخضع لتقييم واحد ، فلا يمكن اعتبار كل سنوات حكم مبارك سوداء ، بل إن ياسر رزق بنفسه لا يخفى إعجابه بمواقف وطنية متعددة لمبارك بداية من إصراره على استعادة كامل تراب أرض سيناء ، مرورا برفضه الموافقة على إقامة قواعد عسكرية أجنبية على الأرض المصرية ، نهاية بموقفه من القضية الفلسطينية ، و يسجل أن أحداثا متعاقبة جعلت مبارك زاهدا فى الحكم فى العشرية الأخيرة من حكمه ، و غير مهتم بما يجرى . و لذا فجمع كل الرؤساء فى سلة واحدة و اعتبارهم جمهورية واحدة أمر فيه كثير من الظلم .
ثانى تلك الأسئلة يثيرها إصرار الكاتب الكبير ياسر رزق على امتداح ثورة 25 يناير و التأكيد على أنها لم تكن نتاج لمؤامرة ، و هو أمر محمود من شخص عاصر الأحداث عن قرب و سمح له موقعه و اقترابه من صانعى القرار التعرف على كثير من الأسرار . و فى هذا هو لا يختلف مع حديث السيد الرئيس فى مناسبات عدة آخرها فى ذكرى الثورة الأخير . لكن فى أحاديث أخرى كثرت التلميحات إلى تدخلات بعض الدول فى شئوننا الداخلية ، بل إن مسلسل (هجمة مرتدة ) الذى أذيع العام الماضى و المستوحى من ملفات جهاز المخابرات يلمح – دون ذكر الاسماء الحقيقية – لوجود مؤامرة خارجية كان يُعد لها بمشاركة كيانات سياسية داخلية ، و لذا أعتقد أنه قد حان الوقت للكشف بصراحة ووضوح عن حدود المؤامرة و التى تمثلت فى اقتحام السجون، و تدمير أقسام الشرطة و قتل المتظاهرين ، و ذلك من خلال ملفات القضايا ( كقضية اقتحام السجون ، و قضية التخابر ) ، و من خلال شهادات الشهود و ملفات الأجهزة كالمخابرات العامة و الأمن الوطنى . حتى نبرئ شعبا بأكمله من التآمر ، فلقد قام و ثار لأسباب لا تخفى على الجميع و يذكرها ياسر رزق فى كتابه بالتفصيل ، فمتى بدأ التآمر و من هم المتآمرين ؟ ، و هل هم صناع الثورة أم قاموا باستغلالها؟.
ثالث تلك الأسئلة – و أهمها فى اعتقادى و ظنى – كيف يصل هذا الكتاب لجموع الشعب ؟ ، فلقد أهداه كاتبه إلى الأجيال الآتية عساه يكون عونا لها ، ينير الطريق و يعبد الدروب و هم يبنون مجدا جديدا معطرا بعظمة التاريخ – على حد قوله – و لكن الكتاب بضخامته يحتاج قارئا صبورا ، تعود على القراءة و اصبحت زادا يوميا له ، و هذا لا يتوفر فى الأجيال الجديدة التى تسعى الى التلخيص من خلال الصورة و تتعامل قليلا مع الأوراق ، بالإضافة بالطبع لارتفاع سعر الكتاب الذى سيظل حائلا دون الانتشار المطلوب.
فلماذا لا يتحول هذا الكتاب إلى مسلسل تليفزيونى حتى يشاهده الجميع ؟ ، أعتقد أن المسلسل سيسهل على أجيال كثيرة و مستويات ثقافية مختلفة أن تحصل على المعلومات التى يحتويها الكتاب ، و لن يكون من الصعب تحويله إلى عمل فنى ، ففى كل دول العالم تحظى الأحداث التاريخية الهامة بتناول فنى بأشكال متعددة ، منها ماهو درامى و منها ماهو تسجيلى ، و هناك أعمال تخلط بين الاتجاهين ، فلماذا تغيب مثل تلك المواقف التاريخية عن شاشاتنا ؟ ، و لن يكون العمل مكلفا أو يحتاج لإعادة تصوير ثورة 25 يناير مرة أخرى . بل يحتاج الى تصوير الأحداث و الحوارات التى تمت خلف الأبواب المغلقة مع بعض اللقطات التسجيلية .
رحم الله ياسر رزق بقدر إخلاصه للوطن و تفانيه فى خدمته ، و مد الله فى عمر من عاصروا صحوة مصر فى 25 يناير ، ربما كتبوا لنا شهاداتهم لتكتمل الصورة ، و نعرف كيف نجت مصر من طريق مظلم و مصير أسود كان يراد بها ، و خرجت معافاة بفضل 30 يونيو.