حلم (لطيفة وطلال وحسين السيد) يسكن الوجدان ويدخل التاريخ على جناح الطرب !
كتب : أحمد السماحي
مثل حمامة بيضاء تنثر النور في أرجاء الكون الفسيح، جاءت لتحلق في الأفق البعيد حاملة دفئ المشاعر على جناج العذوبة والشجن في ليل الشتاء المشبع برزاز المطر، جاءت لطيفة بحلم فضي ساحر، ويأتي في صحبتها الماضي المضئ .. يعود ليلقي بنوره وتوهجه على سواد الساحة الغنائية المليئة بغربان المهرجانات الغنائية، ويكشف لنا أمس الاثنين عن كنز غنائي جديد تم طرحه تحت عنوان (حلم)، سيظل في ذاكراتنا لن يبارحها لسنوات وسنوات قادمة، ولما لا وهو يحمل توقيع أربعة عمالقة من أزمنة مختلفة، وهم الشاعر المبدع الراحل (حسين السيد) الذى مهد تربة المشاعر والوجدان بكلماته الرقيقة الجميلة، واحتل عرش الكلمة المغناة لسنوات طويلة، كانت الأغنية يومها مدرسة تربي وتهذب بكلمات ملئها القيم والمشاعر، وتغذي الروح بما نفتقده الآن من إحساس تاه وسط الزحام المكدس بالغبار.
والضلع الثاني هو الموسيقار الدكتور (طلال) الذي يعيدنا إلى الزمن الذهبي، بل إلى الزمن الهادئ كسكنة ليل شتوى دافئ، ذلك الزمن النقي العذب الذي عذابه هو الحب، الزمن الآخر الذي لا يقاس بالساعات والدقائق بل بالإشراق ونبض الروح في ليالي المساء الحزين الذي يجرفنا نحو مناطق العشق والهجير.
والضلع الثالث المطربة (لطيفة) التى أخلصت لفنها، وأرادت بوعي وحب وإخلاص أن تضع فنها على مدى مشوارها فوق مستوى الأمواج المتغيرة والرمال المتحركة، وتقدم لنا كل ما هو جميل وشجي، ولا تهدأ ولا ترسو على شاطئ غنائي واحد، تماما كما أطلت بملابس شتوية لتحيل البرد إلى حالة من الوجد الباعث على دفئ اللحظات الجميلة وسط زخات المطر الهادر على البيوت والشوارع، وكأنها جنية قادمة من جنة الأساطير لتعيد زمن الحب والرومانسية التي تتوق لها الذائقة العربية من جديد، إنها الحمامة البيضاء التي تتهادى في ضحى الليل قابضة على اللحظات الرومانسية وتحمل روح الحبيب الذي هد شدوه النحيب في فضاءات الكون الوسيع لتعيد للقصيدة الغنائية رونقها وبريقها الآخاذ في زمن غربة وتيه المشاعر الدافئة.
والرابع هو الموزع الموسيقي المايسترو (يحيي الموجي) هذا المبدع الموهوب الذي يعيش في الظل رغم ابداعه المتفرد، وهنا أضاف لمسات سحر وجمال تضفي على القصيدة مساحات من الدفء المبطن بالعذوبة والشجن المحبب بجميل الحرف والنغمة الموسيقية بالغ التأثير في النفوس المتعبة.
تحكي قصيدة (حلم) التى تعتبر من نوادر شاعرنا المبدع (حسين السيد) باللغة العربية الفصحى، حالة حلم يعيشها عاشق رحلت حبيبته، وظهرت عليه حالة تخيّل توهمه أنه قد رأى طيفها متجسداً فتمنى لو عادت إليه من العالم الآخر، جاء اللحن الذي صاغه الموسيقار (طلال) من النوع الطربي الكلاسيكي الذي نفتقده بقوة منذ سنوات، وغاص بنا (طلال) بعيدا وأخرج لنا هذه الجوهرة (حلم) التى تضيئ بألف شعاع لترسم بخطوط شعرية مدينة سحرية وجوا رائعا مشحونا بالعاطفة، ويشع بنورالغناء الأصيل المقدس الذي أفسدناه في السنوات الأخيرة، في هذا اللحن نثر (طلال) أحاسيسه وعواطفه ورماها في هواء مجنون فتطاير حوله وحولنا كموجة من العصافير البيضاء الصغيرة في عصر ليل شتوى ملبد بالغيوم، لكنه يحمل ملامح ربيعية مشرقة تخاطب الروح المحلقة في سماء العشق والحب والهيام، وعاشت (لطيفة) تلك الأحاسيس، وطارت بها إلى عنان السماء، محلقة عاليا في الأفق البعيد، وكأنها نسمة ربيعية فيها الحزن الدفين وفيها رعشة الفرح وأمل العودة والحنين لدفء المشاعر.
ويبدو أن المخرج (وليد ناصيف) أدرك جيدا أنه يقوم بعمل استثنائي في عالم الغناء، فيه تحدي لكل أطرافه، لهذا أبدع في إخراج الأغنية ككليب، ونجح في تقديم فيلم قصير مليئ بالمشاعر والصور المبهرة، ووظف الجرافيكس بطريقة احترافية أعادت للحداثة رونقها في عالم الكليبات، وأضاف للعمل فخامة، وفكك أبيات الشعر وحولها إلى مشاهد تجسد المعنى، وعبرت (لطيفة) بشكل صادق وبأداء تمثيلي رائع عن كلمات القصيدة التى اخترقت وجداننا بفكرتها ومضمونها الجديد المختلف، وبلحنها الطربي الأصيل الذي أعادنا إلى زمن الغناء الأصيل بارتعاشات الروح التواقة للحب.
تحية حب من بوابة (شهريار النجوم) إلى صناع هذا العمل الذين سبحوا ضد تيار الإسفاف والاستخفاف، والتفاهه التى تحيط بنا وقدموا لنا عملا مليئا بالمشاعر الدافئة في أيام الشتاء الباردة وأعادوا الاعتبار للقصيدة من جديد.
تقول كلمات القصيدة التى كتبها عاشق الروح (حسين السيد) بمهارة شديدة:
أقبل الليل فحيّاه المساء
شاحب الأضواء مسدولَ الضياء
واستوى شبحٌ على عرش الفضاء
يُعلِم الدنيا بأن الليل جاء
ومضى يوم، وولّى
وانقضى عمرٌ من الزمنِ
وهفا قلبي وحنّ ودعا روحي الى الشجنِ
فتراءى لي على الأفقِ البعيد
طائراً ينساب من دنيا الخلود
إنها روح حبيبي، هزّها شدو نحيبي
يا خاطري طِر نحوها، واذكر لها أني وحيد
فلعلها تحنو على قلبي
أقبل الليل … فحيّاه المساء..
أيها الروح تعالي أقبلي إني هنا
كل ما في الكون نامت روحه إلا أنا
تعالي نهجرَ الدنيا ونغدو عالم الأبدِ
ونبني للهوى وطناً بعيداً في ربي الخًلدِ
نجنّد فيه أرواحاً مطهّرة من الحسدِ
فينعم كل مشتاق ويسعد كل ذي وجدِ
تلك أمنيتي فهل يصفو زماني
أم تراه الوجد شقّته الأماني
أم تراني شاعراً حلمٌ أتاني
لضحى الليل فغنّاه لساني.
لا أنا لست بشاعر،لا وما قلبي بحائر
إنها روح حبيبي، هزها شدو نحيبي
يا خاطري طِر نحوها، واذكر لها أني وحيد
فلعلها تحنو على قلبي، فيحيا من جديد
أقبل الليل .. فحيّاه المساء.