كتب : محمد حبوشة
خلف أسوار أحد السجون النسائية في بيروت، تقبع أسرار الماضي وخباياه التي تلاحق مجموعة من السجينات، بعضهن ظالم والبعض الآخر مظلوم، لكن جميعهن ضحايا قسوة المجتمع والظروف التي تعرضن لها، وهو ما جاء في الدراما العربية (عنبر 6) على (شاهد VIP) وأقول أنها عربية بامتياز لأن العمل من كتابة (هاني سرحان ودعاء عبدالوهاب، وإخراج علي العلي، وبطولة نخبة من نجمات ونجوم الدراما العربية والخليجية، ومنهم تلك السجينات التي تجسد أدوارهن من دول العالم العربي، كل من (صبا مبارك، سلاف فواخرجي، فاطمة الصفي، أيتن عامر، جمانة كريم، رندة كعدي، روزى الخولي، رنين مطر، رانيا عيسى، تاتيانا مرعب، نتاشا شوفاني، سلوى محمد علي) إلى جانب كل من (نايف الظفيري، إيلى متري، فادي إبراهيم، بيار داغر)، وغيرهم وضمن 12 حلقة مليئة بالتشويق والأكشن والجوانب الإنسانية المختلفة.
ومن خلال مباراة رائعة في التمثيل تبارى فيها كل تلك الكوكبة من النجوم درات الأحداث وراء قضبان أحد عنابر السجون حيث تقبع مجموعة من السجينات اللواتي يكشفن تباعاً عن الجرائم التي ارتكبنها والأخطاء التي وقعن فيها وقادتهن إلى السجن، بموازاة التطرق إلى قضايا إنسانية واجتماعية أبرزها المشاكل الزوجية، والفساد الأخلاقي، وحقوق المرأة، والإتجار بالأطفال، والجريمة والعقاب، والظلم الاجتماعي، وسطوة المال، والفساد داخل وخارج السجون، وغيرها، وقدم العديد من الحكايات المستوحاة من قصص حقيقية، وناقش العديد من القضايا والجرائم التي يتكسد بها مجتمعنا العربي.
بدأت فكرة المسلسل من جانب السيناريست المصرى (هانى سرحان)، حيث رغب فى تقديم دراما إنسانية معتمدة على قضايا من واقع ملفات السجون فى الوطن العربى، وكتب المعالجة مع المؤلفة دعاء عبدالوهاب، ومن هنا بدأت رحلة كتابة المسلسل، حيث كان لديهم رغبة فى عمل دراما تضم أكبر قدر من الصعوبات والمشاكل التى يتعرضن لها النساء فى كثير من الأحيان وتدفعهن للجريمة، وذلك من خلال رسم ملامح شخصيتها وصفاتها، مع عمل خلفية تاريخية وأسرية للشخصية لإثرائها، بداية من طفولتها وظروف نشأتها حتى لحظة بداية الأحداث، وظني أن هذا البناء أعطى مصداقية كبيرة للشخصيات، وتميزت كل شخصية عن باقى الشخصيات، وقد لاحظت أن هناك مجهودا كبيرا بذل في السيناريو بحيث لا يظهر أى تكرار أو رتابة فى شخصيات العمل، مع العلم أن كل الشخصيات الدرامية لها قواسم مشتركة وأشياء متشابهة، وهو حالنا كبشر، لكن طريقة تعامل كل إنسان مع معطيات العالم من حوله هو ما يميز كل شخص عن الآخر سواء فى الواقع أو الدراما، قد عمل عليه صناع العمل، ومن هنا اختلفت ردود الأفعال بين شخص وآخر تجاه نفس الأحداث، وجاءت الدراما ممتعة للغاية وتتمتع بالإثارة والتشوق في عمل بوليسي غاية في الاحترافية من خلال رسم الشخصيات والمناقشات غير المنقطعة، فالنقاش مهم للغاية فى العمل الجماعى.
هناك لمسات درامية لإثراء القصص جاءت في ثنايا الأحداث، مع الحرص على البعد الإنسانى للسجينات، فكل قصة أو حادث له ملابسات ودوافع، ومهمة الدراما البحث وراء هذه اللمحات البشرية والضعف الإنسانى داخل كل شخصية يتم تقديمها، وربما تكون فكرة أو فورمات السجون معروفة فى الدراما العربية والعالمية، وأن التحدى الذى أمامهم هو تقديمها بشكل مختلف وقصص مختلفة وجديدة من الواقع بالاشتراك مع الخيال، لذا اعتمد صناع (عنبر 6) على معلوماتهم من خلال البحث والقراءة وليس نقلا من أعمال قديمة ومعلومات، ومن هنا نلحظ أن بعض القصص ربما مرت على الجميع ولم ينتبه لها، ولكن دور الكاتب عامة أن يتوقف كثيرا عند كل قضية ومشكلة ويستعين بخياله ليصنع منها عملا دراميا، وأن تكون القصة الواقعية ثنائية الأبعاد، وأنه يتدخل الخيال ليكمل البعد الثالث من الحكاية لتصبح الصورة مجسمة وحقيقية أمام عين المشاهد.
واضح جدا أن فريق التأليف والسيناريو والحوار قامو بدراسة كل شخصية ودوافعها النفسية والاجتماعية وماضيها جيدا، حتى لو لم يذكر فى الدراما، وكان من اللازم أن يرسم لتتوقع المؤلفات كيف ستتصرف كل شخصية فى الموقف الذى ستوضع فيه، وقاموا بتقسيم كتابة الشخصيات فيما بينهم بعد الاتفاق على النقاط الأساسية لكل شخصية حرصا على التنوع والاختلاف بينهم، ورغم اختلاف الفكر بين المؤلفات لم يجدوا – على مايبدو لي على الأقل – صعوبة فى التفاهم، وكثيرا ما كانوا يقفون لوقت طويل عند تفاصيل صغيرة، كما جاء في ثنايا أحداث اتسمت بإيقاع سريع لايخلو من الإثارة والتشويق، كما يبدو أن النقاش بين الكاتبات كان يأخذ وقتا طويلا للوصول إلى أفضل اقتراح للأحداث، وأن ما سهل من الأمر هو تولى كل كاتبة مسئولية رسم شخصية بعينها ورسم ماضيها، وجمع كل الأفكار والمقترحات ومناقشتها فى الاجتماعات.
المهمة لم تكن سهلة على الإطلاق، فالسجون مليئة بالأسرار والغموض، وهناك ملايين القصص لمساجين منهم المذنب ومنهم البرىء، وكان همهم التحدث عن نساء ارتكبوا أخطاء ودفعوا ثمنها، ومن حقهم الحصول على فرصة ثانية، ومن ثم كان الهدف الأسمى هو تشكيل هوية للحلقات وخلق الشخصيات بشكل واقعى وحقيقى، مهما كانت الجريمة التى ارتكبتها الشخصية، وذلك في ظل أن الفكرة الأساسية للمسلسل، هى تناول القضايا المسكوت عنها، والتى أصبحنا نقرأ عنها كل يوم، وأن كل كاتبة بعد الاتفاق على الأحداث وتتابعاتها، كانت تقوم بكتابة حلقة بكل ما فيها من شخصيات وحوارات مختلفة في تنوع مثير.
ولعل جهد الكتابة لمسلسل (عنبر 6) قد حقق له النجاح في موسمه الأول، ورغم النهاية الحزينة في الحلقة (12) فإن النجاح الذى حققه المسلسل فاق توقعات صناعه، والنتيجة أنه إذا ما شغل (العنبر رقم 12) في مرفأ بيروت العالم كله مع انفجار النيترات فيه زاهقا الأرواح ومولدا الدمار الهائل، فإن (عنبر 6) شغل الساحة الدرامية مذ عرضه على شاشة (شاهد) وفيه من قضايا مجتمعاتنا العربية وخفاياه الكثير، وكما ذكرنا اسم المسلسل بعنبر المرفأ اللبناني، فإنه أيضا ذكرنا برواية (عنبر رقم 6) للكاتب الروسي الكبير (أنطون تشيخوف) التي تحولت فيلما يدور فيه حوار رائع ما بين كل من (إيفان ديمتريتش) المثقف المجنون والدكتور العاقل والفيلسوف والمثقف مدير المستشفى (أندريه يفيميتش).
الرواية تلك تطرح الكثير من الأسئلة الوجودية كما عن حال المجتمع ومسائله الشائكة، فهل لمسلسل (عنبر 6) أسئلة مماثلة؟ ما الذي تناوله تحديدا، وما حكايات نسائه المأخوذة عن قصص واقعية لسجينات هزت الرأي العام؟، وماذا عن كواليس العنبر وقضبانه؟: (الأفكار) تحمل إليكم الأجوبة، وإن صنف مسلسل (عنبر 6) في خانة الإثارة والتشويق فإن الجوانب الإنسانية تحتل المقام الأول في ما جسده المسلسل من أحداث، فوراء قضبان أحد عنابر السجون تقبع مجموعة من السجينات اللواتي يكشفن تباعا عن الجرائم التي ارتكبنها والأخطاء التي وقعن فيها وقادتهن إلى السجن والعيش في ظروف قاسية.
وتباعا، دخلت الحلقات التي تنتجها (إيجل فيلمز) في القاء الضوء على الجانب النفسي لحياة السجينات، فتكشف إحدى الحلقات الصراع الذي تعيشه (رهف/ سلاف فواخرجي)، ومحاولاتها للتعايش داخل السجن، بمساعدة صديقتيها أحلام (فاطمة الصفي) وإحسان (سلوى محمد علي) واكتشافها حقيقة قد تجعلها تواجه تهديدا كبيرا طوال فترة بقائها فى السجن، في حين أن (ليلى/ صبا مبارك)، غير قادرة على استيعاب الكذبة التى عاشتها طوال عمرها، وأن أمها ما كانت إلا خاطفة للأطفال، لتبدأ بعد ذلك رحلة بحثها عن أمها الحقيقية بمساعد الصحفي (آدم/ نايف الظفيري) والذي يشعر بالذنب تجاهها لأنه هو الذي أثار قضيتها في مقالاته، كما استعرضت الحلقات شخصية (منى/ أيتن عامر) قبل السجن، وزواجها الغامض من رجل يكبرها سنا بالكثير، دون كشف أسباب دخولها السجن، فضلا عن شخصية (أحلام/ فاطمة الصفي) التي تبدو أقوى مما هي عليه، ولكننا نستشعر ضعفها دائما عندما يدور الحوار حول طفلها الذي يجهل كونها في السجن، فيما تواجه (إحسان/ سلوى محمد علي) تهديدا بالابتعاد عن ابنتها طوال حياتها بسبب خلافات مع زوجها.
دور(رهف/ سلاف فواخري) لم يكن سهلا على الاطلاق، فعلى رغم براعة الأداء فإن هذا ما تطلب من سلاف فواخرجي – على حد قولها – كما من سائر المشتركين في العمل جهدا كبيرا، لذا شرحت في هذا السياق: (كان صعبا والجميع أعطى من قلبه وبذل مجهودا، أما دوري ففيه محطات صعبة الا أن جل همنا هو أن يصل الى الناس بالشكل المطلوب)، وخاصة أنه مع تصوير المسلسل في (سبتمبر الماضي)، كانت سلاف فقدت والدها الناقد السينمائي (محمد فواخرجي)، فتوقفت عن التصوير لمدة شهرين، إذ تعرضت لحالة نفسية سيئة لم تستطع بعدها استئناف أعمالها الفنية، والصعوبة أيضا تجلّت في الحادث الخطير الذي تعرضت له (سلاف) أثناء تصوير أحد مشاهدها، إذ (انفك شبك الحديد من الديكور في السقف فوقها ووقع فوق عينيها وأصابها بعمى مؤقت).
وكما أن العمل لم يكن سهلاً لـ (سلاف) فإنه لم يكن كذلك لصبا مبارك أيضا، فالمسلسل كان قاسيا عليها هي التي تخشى الأماكن المغلقة، فكيف بالحال في مصنع مهجور تحول سجنا وعنبرا، وفي المسلسل الكثير من المشاهد الداخلية في ديكور أشبه بالسجون الحقيقية، ما جعلها تشعر بتعب شديد، لكنها حاولت التغلب على هذا الوضع وقدمت الدور بحرفية عالية كما ينبغي أن يكون، وتشرح (صبا) عن شخصية (ليلى) التي تجسدها في المسلسل بالقول: إنها تعاني من أزمة كبيرة وأن سرا دفينا في عائلتها مخفي، وهى رويدا رويدا تكتشف الناس على حقيقتهم، وعن تشابهها مع (ليلى) التي تجسدها تعرب (صبا) أنها كما ليلى، تضع ثقتها بالناس بسرعة وببعض التسرع أحيانا.
وبين المجموعة الكبيرة من النجوم من مختلف الجنسيات العربية الذين يتحدثون بلهاجتهم المحلية في المسلسل جاء أداء الممثلة اللبنانية (رانيا عيسى) غاية في الإتقان بأحد الأدوار البارزة بشخصية (حليمة) زعيمة العصابة في سجن النساء الذي تدخله سلاف فواخرجي بعد توريطها بقضية معينة، وأعربت (رانيا) عن سعادتها بأن العدد الأكبر من مشاهدها يجمعها بسلاف فواخرجي، التي تعتبرها (عسل بشهده، وسيدة محترمة إلى أقصى الحدود وممثلة رائعة) تملك فيضا هائلا من الدهشة الإبداعية كما ظهرت من خلال الحلقات.
صحيح أن (الأعمال الدرامية التي تتناول السجون ربما تكون كثيرة في السنوات الأخيرة)، ولكن المختلف في (عنبر 6) هو أن أحداثه مستوحاة من مجموعة قصص حقيقية من داخل سجن النساء الذي يغوص العمل في عوالمه بطريقة مختلفة وعميقة، وذلك إلى جانب مميزاته الإنتاجية الضخمة، وطريقة تصويره التي تضاهي الأعمال الهوليوودية، فضلا عن جمعه لهذا العدد الهائل من الجنسيات في طاقم الممثلين، بل هو من أضخم المسلسلات التي شارك فيه كل هذا العدد من النجوم العرب المشهود لهم بالكفاءة، وخاصة (أيتن عامر وسلوى محمد علي) في انصهارهما الكامل في العمل على نحو أكسبه بريقا خاصا ورونقا كوميديا رائعا إلى حد بعيد، وساهم فيه بالضرورة بناء ديكورات خاصة على مساحة واسعة لتصوير أحداث المسلسل، وأن من أبرز نقاط قوة (عنبر 6) هو مشاركة أسماء كبيرة من مختلف البلدان العربية، مثل مصر ولبنان وسورية والسعودية والعراق والأردن وغيرهم.
أستطاع (عنبر 6) أن يوظف الأحداث والوقائع الكبيرة بلغة وحوار مسرحيين بحيث تكون لغة السرد واضحة ومكثفة وخالية من البهرجة والمطولات الفلسفية، لكنها في الوقت ذاته تحمل لغة فكر علمي وعملي، لغة مكتنزة بمضامين وأفكار الواقع المعيشي بطريقة بسيطة وسهلة وواضحة، من خلال توظيفهم الحوار الذاتي لشخوصه على مستوى فكرة البناء المتماسك حتى الوصول للهدف المنشود وذروة الحدث التراجيدي، وهو ما يثبت أن كتاب (عنبر 6) على تماس من هذه الحالات بحكم واقع عملهم ومشاهداتهم اليومية لمثل تلك الحالات، فجاء هذا العمل الدرامي مطابق لواقع حال تلك الشرائح الاجتماعية التي كانت تعيش في تلك المدن العربية.
وفي النهاية نرفع القبعة لكل صناع (عنبر 6) على مستوى الكتابة والإخراج والإنتاج، وفوق كل ذلك كل فريق الأداء التمثيليي الرائع وعلى رأسهم السورية (سلاف فواخرجي)، والأردنية (صبا مبارك)، واللبنانيين (راندة كعدي، رانيا عيسى، وإيلي متري، ناتشا شوفاني)، والمصريتين (أيتن عامر، وسلوى محمد علي)، والسعودي (نايف الظفيرى)، وعلى الرغم من أن كل منهم تحدث بلغته المحلية، إلا أنني لم أشعر بفروق أو عيوب في التقمص على نحو احترافي يشهد لهم بالكفاءة، وهو مايبشر بتكرار التجربة لا في الموسم الثاني للمسلسل فحسب، بل ينبغي أن يتم تكررها في أعمال أخرى بصبغة عربية جاذبة للانتباه، تماما كما جاء في مسلسلهم الناجح بكل المقاييس الفنية (عنبر 6).. تحية تقدير واحترام لكل من ساهم في إنتاج هذا العمل البديع حقا بإثارة وتشويق جعلنا نتابع حلقاته بشغف.