بقلم الفنان التشكيلي الكبير : حسين نوح
(الأوبرا الشعبية (ليلي يا ليلي) وقدمت باسم (انقلاب) سنة 1988 – صلاح چاهين، محمد نوح، جلال الشرقاوي).
لدي شهادة للتاريخ أن هذا العمل هو أهم عمل في تاريخ المسرح الغنائي المصري:
تقابل محمد نوح مع جلال الشرقاوي أثناء عرض مسرحية (الشخص) للأخوين رحباني، وكان محمد نوح البطل مع عفاف راضي وحسن كامي وحين جلس (نوح) بجوار (جلال) تحدث إليه أنه من أحلامه تحقيق حلم المسرح الغنائي musical بمعناه الحقيقي كما يحدث في المسرح الإنجليزي الذي يتابعه وتحمس (جلال) للفكرة وأخبره (نوح) أنه منذ ثلاث سنوات يعمل مع (صلاح چاهين) علي ظهور أول أوبرا مصريه باسم (ليلي يا ليلي)، وقررا اللقاء.
تواصل (نوح) مع الأستاذ جلال الشرقاوي المخرج الكبير وكان لديه مسرحه برمسيس (مسرح الفن)، وحضر الأستاذ جلال وجلس يستمع مع نوح لموسيقي وأغاني (ليلي يا ليلي)، كما سماها صلاح چاهين وغير اسمها المخرج على المسرح إلى (انقلاب) وكنت موجود ولا يتخيل أحد مدي تأثر المبدع الحقيقي بعمل حقيقي، وقد لا أبالغ أنه من أهم وأعظم الأعمال في تاريخ المسرح المصري، وذلك بشهادة الأستاذ جلال في كتابه الذي دون فيه كل تفاصيل هذا العمل بعنوان: (انقلاب في المسرح المصري الحديث) ونشر من خلال الهيئة المصرية العامة للكتاب 2016، لخص الأستاذ جلال العمل وجمع كل ما كتب في الصحف حوالي (214) مقالاً عن هذا العمل العبقري والذي اجتمع عليه ثلاث حقائق فنية حقيقية هم (صلاح چاهين وجلال الشرقاوي ومحمد نوح).
وبكل صدق أسجل أن جلال الشرقاوي لم ينفق في أي عمل في تاريخه الطويل كما فعل في (انقلاب) فقد غير في خشبة مسرح الفن وخلط بين السينما والمسرح واستعان بخبراء تشيك وجاء بنجوم ملائمة للعمل (نيللي وأحد نجوم الغناء وحسن كامي)، ورشحت أنا (حسن الأسمر) بعد اعتذار أحمد عدوية. وكنت وأنا بالاستديو استمع بالصدفة لفنان جديد يغني ( الليلة ليلة هنا وسرو/ وكبايات في صواني بتدور)، وأبلغت نوح وسمعه وقدمه لجلال ووافق عليه وكان موفقا جدا وفتح أمامه هذا الدورأبواب تواجده في السينماوالتليفزيون، ومعهم القديرة سعاد حسين ورضا الجمال والصوت الشرقي الأصيل زينب يونس. التي كانت حين تغني:
حرام عليك دا انت شباب
وفي كل ضيقة ألف باب
الدنيا قد لاتحتمل
لكنها ماهياش خراب
كانت أصوات النحيب ترتفع في صفوف المتفرجين، وأسجل أن مسرحية (انقلاب) أخرجت جمهور مختلف إلي المسرح بعد اعتكاف من المسرح الصيفي للضيوف من السياح ومعظمه للضحك والرقص، وكتب معظم كتاب ونقاد مصر العناوين (انقلاب في المسرح المصري).
يقول صلاح چاهين
الفعل الفعل الفعل الفعل
هوا اللي حينفعنا بالفعل
في دنيا زي الغابة
مليانة بالكآبة
ويعيني على الغلابة
في الأيام الهبابة
لا كلام يا صاحبي ينفع
ولا تنفع كتابة
وكتب الأستاذ موسي صبري في (آخر ساعه) بتاريخ 21-12-1988 أن (انقلاب) صلاح چاهين ومحمد نوح وجلال الشرقاوي هى في رأيي ليست انقلاباً بل ثورة في تاريخ المسرح المصرى.. أقول كلمة وأعنيها (ثورة).. نقطة تحول.. مسار جديد.. حدث مروع يقع لأول مرة.
الفكرة بسيطه ولكن الإبداع هو في التعبير عنها كل الآصالة والواقعية في كلمات صلاح چاهين مشتعلة بنور الخلق وعبقرية التكوين ثم تلبسها موسيقي محمد نوح الثوب المبهر.. اللحن العاشق للكلمة والمؤثرات التي تجسد المعني وتملؤك بمتعة التّذوق.. إنه جهد ضخم خلاق ننحني أمامه احتراماً.
وعلق أنيس منصور في عاموده اليومي بالأهرام (مواقف) أربعة أعمدة متتالية عن (انقلاب)، ثم كتب في عموده بتاريخ 2 -2-1989.
وقال: لكن مثل هذه المنشورات في هذه الأوبرا تنفع وقد نفعت وتعمد الفيلسوف أنيس منصور تكرار تلك الكلمة في هذه الأوبرا: الكلمة تنفع وقد نفعت.
ويكمل الأستاذ أنيس في عاموده: يقول أحد المفكرين وقد رآهم يحرقون كتبه، فقال احرق أي كتاب ومائة مسرحية وألف قصيدة.. سوف يتلاشي الورق أما الأفكار فهي مثل الدخان يعلو ويتصاعد وينتشر ويذهب بعيداً.
ويضيف: بصراحة مصر هى البلد الوحيد في العالم الذي يستطيع فيه أي إنسان أن يقول ما يشاء، ولكن لا احد يسمعه فأرجو أن تذهب وتسمع وتستمتع هذه المرة بانقلاب.
وكتب الأستاذ أحمد أبو الفتح في جريدة الوفد بتاريخ 22-12-1988: دار بخلدي وأنا سعيد بالألحان وبالطرب والموسيقي والأغاني لو أن سيد درويش كان بيننا ماذا كان يفعل؟.. هل كان سيحضن محمد نوح الذي عاش الأيام والليالي تاركاً لمواهبه أن تنطلق وتهيم وتحلق وتغوص لتنقذ الفن الذي طال كبته وتعيد له الحياة.
وكتب العظيم مصطفي شردي في جريدة الوفد في 17-1-1989: عندما يلتقي صلاح چاهين ومحمد نوح وجلال الشرقاوي فلابد أن يحدث انقلاباً.. هذا العمل الذي يعرض الآن على (مسرح الفن)، هو حدث كبير ومبهر ومتقن وعميق ويسبب الحيرة للمتفرجين.. إنه عمل يفوق القدرة على الاستيعاب.. هذا العمل يقول أن التقدم ممكن والحركة للأمام متاحه وأن المصريين قادرون على تحقيق النجاح والفلاح بالمستوي العالمي عندما تنعقد النوايا وتنبض القلوب لمصر.
وأتذكر أن الأستاذ مصطفي شردي حضر العرض مرة وعاد ومعه فؤاد باشا سراج الدين.
وكتب وعلق عن (انقلاب) ممدوح البلتاجي، حسن عبدالرسول، ود. چيهان السادات، وصبري أبو المجد، ومحمد تبارك، ومدحت ياسين ومفيد فوزي 1-2-3 في مع (مفيد ونبيل بدران وعباس الطرابيلي وعبلة الرويني ومحمد الحيوان ود عبد العظيم رمضان وآمال بكير ومحمد شردي ومرسي عطالله ود. علي لطفي ومحمد العزبي ود نهاد صليحة وأحمد بهاء الدين ود إبراهيم الدسوقي أباظة ود. أحمد يونس وَعَبَد النور خليل وأحمد ابوالفتوح ود رفيق الصبان وضياء الدين بيبرس وَعَبَد الرازق حسين)، وكتب في جريدة الوفد الأستاذ سليمان جميل بتاريخ 1/6/1989 أما الموسيقي في مسرحية (انقلاب) فهى القوة المحورية للطاقة الدرامية التي تفجرت منها تفاصيل حركة الأشخاص والأحداث علي خشبة المسرح، لقد تمت الصناعة الفنية الدرامية لهذه الموسيقي بدقة علمية وأدوات موسيقية معاصرة.
ورغم كل ذلك حدث خلاف بين المخرج جلال الشرقاوي والفنان بطل العرض بسبب مواعيد الأخير فقد استمرت المسرحية فقط من 14-12-1988 حتي اسدل الستار عليها في 4-9 -1989.
ودخل الخلاف بينهم إلى القضاء، وللأسف تم تصوير المسرحية بشكل لا يليق بحجم هذا العمل الذي قد لا أكون مبالغاً من أهم الأعمال وأعمقها في تاريخ المسرح المصري، وكما ذكر ذلك القدير جلال الشرقاوي وكثير من النقاد والصحفيين.
أصيب محمد نوح بإحباط، وبدأ يقلل من الغناء واكتفي بعمل موسيقي تصويرية، وقليل جدا من حفلات أصبح شبه مقيم بمكتبه يستقبل أصدقاءه من الفنانين والكتاب والمثقفين.
ويحضر إليه دائما (يوسف شاهين ود مصطفي الفقي وجمال بدوي والدكتور كمال مغيث وإبراهيم رضوان وفرج فودو وإبراهيم عيسي وطارق حجّي ود هاشم توفيق والمخرج هاني لاشين) ومناقشات في كل مناحي الحياة، ويحكي نوح ويمارس متعته ويعزف ويغني وتمتد السهرات حتي الصباح.
وتمام الثانية عشرة لليوم التاني هو بمكتبه يعمل ويدرس في التاريخ الفرعوني والحضارة المصرية القديمة وأصبح صديق للدكتور زاهي حواس وهوصديق للدكتور مصطفي الفقي (بلديات نوح)، واهتم نوح وأخذ يدرس علوم الصوتيات ويعمل بالموسيقي وأعتقد أن نوح وجلال الشرقاوي من أكبر صدمات حياتهم هو توقف عرض انقلاب (ليلي يا ليلى)، ولا أنسي أن أسجل هنا أن العظيم (أحمد زكي) تحدث إلى وطلب أن يعمل (ليلي يا ليلى) للسينما وتقابلت معه اكثر من مره، ولكن لم يمهله القدر.
العجيب أن صلاح چاهين كانت أمنية عمره أن يختتم حياته بأكبر عمل غنائي وكذلك نوح، فقد سافر إلى أمريكا في جامعة (ستانفورد) لدراسه علوم الموسيقي واستدعي صلاح چاهين وجلس معه في أمريكا أكثر من أربعة شهور يعملون ليل نهار لعمل يدركون أهميته لتاريح المسرح musical المصري، وحين سمع القدير جلال الشرقاوي فكان حماسه فوق أي خيال لدرجه أنه أنفق كل ما يملك من مال على هذا العمل، ولكن كانت شيفونية النجم الذي دمر تاريخه بالوسواس القهري معتقداً ان تدميره مطلب لكل من يتعامل معه، وللأسف كانت علي يديه نهايه عمل لم يستوعب قدره ودخل مع الأستاذ جلال في قضايا أصبحت علي صفحات الجرائد.
وهنا اسجل أن الفنان الحقيقي هو من يدرك أن الباقي منه هو الإبداع، وحبذا لو كان في حراسة عقل يحرسه ويجعله يبيع أحيانا ما يملك كما حدث لكثير من مبدعين حقائق تركوا أعمالاً نفتخر بها وأولادهم .. رحم الله صلاح چاهين ومحمد نوح وجلال الشرقاوي.