بقلم : علي عبد الرحمن
عندما إنطلق صوت الوطن الإعلامي إذاعيا في 31 مايو عام 1934،وهو يوم حتفالنا بعيد الإعلاميين والذي اختفي بدون مبرر كما اختفي معه (مهرجان الإعلام العربي) الذي كان ينظمه اتحاد الإذاعه والتليفزيون، وكان اختفائهما بمثابة الانسحاب من مضمار الريادة والسبق وهو الثابت تاريخيا لنترك الساحة للعديد من المهرجانات والأحداث في دول ودويلات حديثة العهد بالميديا والفنون دون أدني مبرر لذلك.
وعندما انطلق تليفزيون الدوله في عام 1960 كان الصوت والصورة الرائد والسباق والمعلم لكل دول المنطقة والقاره السمراء، وقدمت الإذاعات المصرية والقنوات أفضل مايمكن ان يتم تقديمه في حينه، مضمونا وبثا وتوزيعا وتأثيرا، وأرست هذه المحتويات ريادة مصرية ونفوذا مصريا ورافدا هاما من روافد القوة الناعمة المصرية، وظلت الإذاعات والمحطات المصرية تقدم نجوما في مجال التقديم وخبرات في مجالات الإدارة والتقنيات وفنون العمل الإعلامي أجمع.
وقدمت أفضل برامج للأطفال وللأسرة والشباب والثقافة والفنون والمنوعات والوثائقيات ونشر صحيح الدين، وقام الإعلام في حينه بمهامه في التنوير والتثقيف والتعبئة والتأثير وصاحب ذلك تأسيس المحطات والقنوات للدول الشقيقة والصديقة وإمدادهم بمواد البث وكوادر التشغيل حتي ساد التفوق الإعلامي المصري جميع دول المنطقة، وقدم الإعلام المصري أفضل الأعمال الدراميه وأجمل الاستعراضات والفوازير والأوبريتات وكل صنوف الإنتاج الإعلامي الضخم.
وقدم أيضا أفلاما سينمائيه ووثائقية وأخبارا تركت لنا أرشيفا مازال يغذي كثير من الشاشات حتي الآن، وساهمت الإذاعه والتليفزيون في تدريب طلابنا ومهندسينا وكوادر الوطن الفنية، وصنع إعلامنا أحداثا جمه كالمهرجانات والمعارض والأسواق التي دعمت العمل الفني والاعلامي بالمنطقة، وتوسع الاعلام المصري من قنوات قوميه إلي شبكه من القنوات الإقليمية ثم أطلق فضائياته وبعدها قنواته المتخصصة.
وزاد عدد القنوات دون خطط واضحه للتشغيل والعوائد، ثم تضخم عدد العاملين في قطاعات الاتحاد تحت مسمي حصص انتخابية للنواب، وأصبح العمل الإعلامي وظيفة بعد أن كان موهبة ومهارات، وبدأت تظهر سلسلة المشاكل التي أدت إلي هذه التظاهرات التي تدخل أسبوعها الخامس على التوالي دون حل جذري نافذ، وهذه المشاكل كانت التوسعات غير المدروسه وغير الموجهة بشكل اقتصادي سليم، ثم تضاعف أعداد العاملين دون الحاجة مما أرهق كاهل الإدارة، ثم تشابه المحتوي وضعفه تنافسيا، ثم تشابه الشاشات وفقدان جاذبيتها، ثم ضعف التسويق وغياب أدواته، ثم تقادم بيئة العمل وأدواتها، ثم عدم التواصل مع سوق العمل ومفرداته، ثم تعيين كوادر لاتجيد كثيرا فنون العمل الإعلامي، أضف إلي ذلك ظهور المنافسة لقنوات القطاع الخاص وزيادة الضغوط علي ماسبيرو من الأجهزة والسوق والعاملين وخبراء ومنظمات المجتمع المدني.
إضافة لضغوط المشاكل التي ذكرناها، ونتيجة لكل ذلك فقد الإعلام الرسمي بريقه من حيث جودة المحتوي وتنافسية البث وقلة العوائد وقلة خبرة مديريه والأزمات المالية المتراكمة، وبدلا من أن ندرس مسببات هذه المشاكل ونقدم آليات لحلها تركنا ماسبيرو ساحة للصراعات والضغوط والاتهامات وصرفنا نظرنا عنه متوجهين لدعم القنوات الخاصة ومطلقين سلسلة من القنوات شبه الرسمية كإعلام بديل للإعلام الرسمي، وحتي هذه التجارب تم إطلاقها بشكل متسرع لم نخطط لها جيدا، ولم نحدد لها محتوي، ولم نضع لها هدف او رسالة فأصبحت أيضا متشابة المحتوى الذي سيطرت عليه المنوعات والفنون والطبخ والسحر والشعوذه وبرامج النميمة والملاسنات، مما ساهم في ضياع محتوي مصريا تنافسي.
واختفت معه أعمال الدراما التاريخية والدينية وضاع معه الفيلم الوثائقي وتناسينا برامج التنمية والخدمات والأقليات وأطراف الوطن، بل واختفت مضامين الشباب وصحيح الدين وأصبح الحديث عنها مجرد شو إعلامي عندما تشتد التتهامات بعدم وجود تنوع إعلامي أو عدالة إعلامية أو احتكار لفئة للشاشات دون بقية شرائح المجتمع وأصبحت المشكله اثنين، الأولي تراكم مشكلات الاعلام الرسمي، والثانيه تشابه وقصور وإسراف الإعلام البديل، وظهرت معهما مشكلات ذات صله منها غياب الإنتاج البرامجي الضخم الجاذب وغياب صناعة الأحداث الإعلامية من ملتقيات ومهرجانات ومعارض وأسواق ومبادرات، وغاب أيضا التسويق والتوزيع وجلب العوائد.
وضعفت بسبب كل ذلك تأثيرات القوه الناعمة المصرية، بل وقل دعم خطط الوطن وطموحات المواطنين وأصبح المواطن يرى الإنجاز بعينيه علي الشاشات، وأصبح يسأل عن إجابات تدور في رأسه لا يجيب عليها الإعلام، وأصبح يصنع إعلامه بنفسه رغم عدم احترافه مهن الإعلام، وبعيدا عن مشاكل ماسبيرو الماليه المتراكمة ومشاكل الاعلام البديل المالية المسرفة فإننا بحاجة إلي لجنة قوميه متخصصة أو ملتقي وطني مهني، أو فريق عمل متخصص لتقرير مدى الحاجة لكل هذه القنوات والمحطات وضم المتشابه منها وإلغاء عديم الجدوي، ثم وضع هياكل عصرية مرنة ملائمة ثم اختيار فرق عمل مهنية متخصصة ثم إصلاح بيئة العمل وأدواتها، ثم تحديث معدات العمل وتوفير أدوات التسويق والتنافس، ثم وضع خطة لمحتوي جيد جاذب متنوع، ثم وضع آليه للتكامل بين اعلام الدوله والإعلام البديل، ثم عودة صناعة الأحداث الإعلامية، ووضع خطة مرحليه للخلاص من الديون والمستحقات المتراكمة، ثم وضع رؤيه للتدريب والبعثات والتطوير الجيد المستمر، ثم تحديد جهة لمتابعة تنفيذ ذلك وإبعاد بقية الجهات المتصارعه علي هذا الملف.
ومن قبل كل ذلك إرادة وطنية لتقديم إعلام جيد جاذب يتماشي مع تصحيح الأوضاع في مصر ويلائم عصر التنميه والنهضة الشاملة التي تشهدها مصر، ويخضع كل ذلك لفلسفة المتابعة والتقييم المستمر المتبعة حاليا في البلاد، عندها سيكون لمصر صوت يلائم قامتها وقيمتها ويناسب طموحاتها وتقدمها،ويبدو إعلامها كبيرا مثلها، ولايظل إعلام متقزم لبلد عملاق، وكل ذلك يتماشي مع سياسة الإصلاح وعودة الروح وإعادة البعث لكل ما علاه التراب وخلفته السنون في ملفات العمل الوطني وخاصة الحكومية وعلى الأخص الإعلامية، لأن وطننا كبير وطموح ويحتاج إلي ذراع إعلامي كبير وطموح.
ولنسترد جزءا مما يتصارع عليه البعض من حولنا في مجال الفن والإعلام، وهو مجال مصري صميم.. حمي الله مصر وأعلي صوتها وزاده تأثيرا وجاذبية وعوائدا.. وتحيا دوما مصر رائدة وسباقة في مجال الإعلام وكل مجال.. وتحيا مصر حرة عفية بإعلامها.