بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
منذ عام بالضبط و بالتحديد يوم 5 فبراير، استيقظت على مكالمة من صديق يسألنى: هل سمعت بوفاة الفنان عزت العلايلى ؟
أجبت فى عجالة و بدون تفكير : اعوذ بالله .. تلاقيها إشاعة.
أنهيت المكالمة و رحت أبحث فى المواقع الاخبارية و أنا أخشى أن أجد الخبر ، فبرغم أن الموت علينا حق و هو مصير كل الكائنات إلا أننا نفاجأ دائما عند وقوعه، خاصة إذا كان يتعلق بأحد الأحباء أو الأصدقاء ، و كأننا ننسى أن الفراق قدر محتوم!
لم أجد خبرا واحدا يقول بحدوث الوفاة ، حمدت الله و اتصلت بالصديق لأنفى له هذا الخبر و أنا أوبخه على نقل خبر كاذب ، و إذ به يؤكد وجود الخبر على صفحة الدكتور محمود العلايلى نجل الفقيد بالفيس بوك . أنهيت المكالمة فى سرعة و أنا مضطرب و لا أدرى ماذا أفعل .. ينازعنى إحساس بألا أصدق ، فالموت بعيد عن خاطرى أن يصيب من أحبهم ، و كأنهم من المفترض أن يخلدوا . و فى ارتجاف شديد فتحت صفحة الدكتور محمود لأجد أن الخبر صحيحا .
برغم برودة الشتاء فى شهر طوبة ، و برغم الرعب الذى كان يحاوط الجميع بسبب الجائحة التى لم نكن نعلم عنها شيئا و نتخبط من تضارب الأقوال حولها ، وجدتنى مندفعا إلى مغادرة المنزل لوداع صديقى ( أبو محمود ) و اللقب هنا لم يأت من كون أنه سمى ابنه بهذا الاسم ، بل هو لقب يطلقه الاسكندرانية على أولاد البلد الجدعان الذين يتميزون بالشجاعة و الرجولة ، فهكذا كان العلايلى طوال حياته ، رجلا بكل معنى الكلمة .
فقدت الطريق إلى الجامع الذى يجاور منزله ، برغم معرفتى بالمكان فلقد ترددت عليه عدة مرات ، فلم أكن فى حالتى الطبيعية ، فالحزن ثقيل و المصاب كبير ، فقد امتدت صداقتنا لأكثر من ثلاثين عاما ، برغم فارق العمر و الخبرة و الشهرة ، صداقة بدأت أثناء العمل و امتدت بعده و استمرت بفضله هو و ليس بفضلى ، فلقد كنت اتحفظ فى اتصالى به إذا لم يكن بيننا عمل – كعادتى مع كل النجوم خوفا من انشغالهم و حرصا على عدم إزعاجهم – و لكنه كان مبادرا دائما ، و كثيرا ما كان يتصل بى ليحدثنى عن مشروعات مسرحية يتمنى تقديمها.
الغريب أن علاقتنا بدأت بتوتر و توجس من ناحيتى ، فعندما كنت بصدد تقديم عرض (أهلا يا بكوات) و فى فترة اختيار طاقم العمل فاجأنى الاستاذ محمود ياسين – مدير المسرح القومى فى ذلك الحين – بترشيح الأستاذ عزت العلايلى قائلا انه اتصل به و طلب أن يشارك فى تقديم عمل جديد بعد سنوات طويلة من الابتعاد عن المسرح . قلت للاستاذ محمود : لقد سمعت أنه يتدخل فى عمل المخرج و يحب فرض رأيه . اندهش الأستاذ محمود من حديثى و قال : بالعكس .. العلايلى لا يثير المشاكل .. على ضمانتى .
كنت من معجبى العلايلى و أراه متفردا كممثل صادق الأحاسيس ، يخفى الصنعة بمهارة فائقة ، و يجيد اختيار أدواره فى عناية ، و قدم شخصيات لا تنسى خاصة فى أفلامه مع يوسف شاهين و صلاح أبو سيف و على بدرخان ، و شاهدت له مسرحيات مصورة ، و إعجبت به فى مسلسلات عدة ، و لكن اعجابى الشديد به لم يمنعنى من تصديق المعلومات التى وصلتنى لأسباب موضوعية ، فالعلايلى بعد تخرجه من معهد التمثيل عمل معدا للبرامج فى التليفزيون ، و عمل أيضا مخرجا لبرنامج تسجيلى يرصد الحياة فى مصر ، و لم يكتف بهذا ، بل مارس التأليف ايضا ، فكتب لمسرح التليفزيون مسرحية ( ثورة قرية ) التى أخرجها حسين كمال ، و ربما نتاجا لكل هذا يتدخل فى عمل المخرج . و لهذا فبعد قراءة العلايلى للنص و موافقته ، اخترت أن أعقد لقاءً يضمه و شريكه فى البطولة الفنان الكبير حسين فهمى بدون بقية الممثلين أو حتى مساعدو الإخراج .
كنت متعمدا أن يكون لقائى بالنجوم منفردا لأتعرف عليهم إنسانيا ، و ليتعرفوا هم أيضا على أسلوب عملى بعيدا عن أى حساسية من توجيه الملاحظات لهم أمام آخرين ، فبعض النجوم يعتبر كثرة توجيه ملاحظات إليه من المخرج محاولة للتقليل من شأنه ، و أيضا لتفادى تعطيل الباقين لو حدثت مناقشات مطولة . كما أننى أحب أن أهتم بالجميع فى التدريب و ليس لدى مانع أن أوقف التدريب لاشرح لأصغر ممثل اللحظة التى يقدمها بالتفصيل ، فكيف سيكون رد فعل النجوم ؟ ، البعض قد يستنكف تعطيل البروفة من أجل ممثل صغير أو مبتدئ و قد يعتبرها إهانة ، ، لذا رأيت أن (استفرد بهما وحدهما).
ربما كانت الجلسات الأولى فيها من التوتر المكتوم ما فى الدقائق الأولى من ( ماتش الكورة ) من جس النبض .. و محاولة اكتشاف مواطن القوة و الضعف فى الآخر ، لكن بعد فترة تزول كثير من السحب و الحواجز . و لما كنت قد تعاملت من قبل مع الأستاذ حسين فهمى عندما كنت مساعدا لأستاذى حسن عبد السلام فى أول عمل مسرحى له ( إمبراطور عماد الدين ) لذا تعاملت معه بلا حساسية ، لكن التعامل مع الأستاذ عزت العلايلى كان مشوبا بكثير من الحرص و الحذر و لذا عندما شرح لى تصوره عن أحد المشاهد فى فترة الاستراحة ، أجبته اننى اتصوره على العكس تماما، و استفضت فى الشرح حتى لاحظت اقتناعه بما قلت ، وألمحت بشكل حاسم إلى اننى ( باحب أخرج لوحدى ) لكن الشهادة لله : الرجل لم يتدخل بعدها مطلقا و كان مطيعا و منفذا لكل ملاحظاتى و كان خلوقا .. و تأكدت أن مخاوفى مجرد أوهام أو ربما لاقتناعه بوجهة نظرى .
و على مدار شهور طويلة من التدريبات و العروض كان العلايلى مثالا للانضباط ، و كان يتقبل ملاحظاتى اليومية خلال العرض بصدر رحب ، و لكنه أدهشنى ذات يوم . كنت دائما ما أغادر خشبة المسرح الى الصالة لأتابع مشهد الختام ، و هو منولوج طويل للعلايلى تقطعه بعض العبارات القصيرة ، و لاحظت أن العلايلى ملتزم بالحركة المرسومة برغم انه ( يعرج ) عرجا واضحا ، خفت أن يكون قد أصيب فى قدمه و اندفعت إلى حجرته بعد انتهاء العرض و أنا اصدق أنه قد أصيب ، و لكنه فاجأنى بأنه تعمد إظهار ذلك نتاجا لتعذيبه فى المشهد السابق ، فقلت له : حرام عليك أنا صدقت أنك مصاب .
و خلال سنوات طوال قدمنا فيها المسرحية داخل مصر و خارجها ، كانت الصداقة بيننا تزداد و إعجابى به يتضاعف ، بسبب إخلاصه فى العمل و تواضعه ، و لذا تشاركنا فى عدة أعمال بعدها . و عندما كنا نعيد تقديم البكوات للمرة الثالثة فى 2006 ، أصيب العلايلى ( بنزيف فى المخ ) و توقعت أنه سيعتذر عن المسرحية ، و لكنه – فور خروجه من المستشفى – أصر على استكمال العرض برغم أنه يحتاج إلى الراحة ، و المسرحية مرهقة بدنيا و ذهنيا للممثل ، و تحتاج الى ( مجهود مضاعف ).
و عندما اعتذر عن المشاركة فى عرض ( اضحك لما تموت ) فى 2017 تفهمت أسبابه ، فقد كان يمر بحالة اضطراب شديدة بعد وفاة شريكة حياته – رحمها الله – التى كانت شريكته بحق ، تتحمل عنه كل مشاغل الحياة ، لكى توفر له بيئة مناسبة للإبداع . و عندما غادرته إلى دار الحق ، إذا به و كأنه طفل فقد أمه ، لا يدرى كيف يتصرف و لا كيف يحيا !!
و لكنه قبل الوفاة بشهور قلائل حدثنى مطالبا بإعادة تقديم (أهلا يا بكوات) ، و لما لاحظ عدم حماسى – فالحقيقة أننى و صديقى المؤلف الكبير لينين الرملى كنا نفضل تقديم عرضا جديدا على إعادة نفس العرض – سعى هو سعيا حثيثا من أجلها ، حتى أنه وافق على تقاضى نفس الأجر الذى تقاضاه عام 2006 – و هو ما يساوى نصف أجره وقتها – عندما أبلغته الادارة بأن الميزانيات قد تم تخفيضها بسبب الجائحة .
رحمه الله رحمة واسعة ، فقد كان – حقا – يستحق لقب ( أبو محمود ).