كتب : محمد حبوشة
رحل صاحب أكبر رصيد فني في المسرح المصري، حيث تنوعت أعماله الإخراجية مابين السياسي والاجتماعي والكوميدي الذي توجه بمسرحيته الشهيرة (مدرسة المشاغبين)، وعلى الرغم من تقديمه مشوارا فنيا متنوعا بين السينما والتلفزيون والمسرح، إلا أن اسمه يرتبط أكثر بالمسرح، فلم لم يتحقق له نفس النجاح على الشاشتين البيضاء والفضية، ورغم أنه أحب السينما مثل المسرح، لكنه بدأ العمل في السينما بطريقة خاطئة، وقد أخرج ثلاثة أفلام من إنتاج الدولة وفيلماً من إنتاجه، ومن هذه الأفلام (إمرأة وثلاث بنات، العيب، الناس اللي جوه)، ولم تحقق نجاحا كبيرا، بل فشلت فشلاً ذريعاً على مستوى الجمهور والنقاد.
إنه المخرج المسرحي الكبير (جلال الشرقاوي) الذي يحمل بين جوانحه مسيرة فنية مشرفة تليق بفنان مبدع ورمز متميز من رموز الالتزام والإبداع الفني المتوهج، ولا شك أن الكتابة عن قامة شامخة بحجم وقدر هذا الفنان المبدع تعتبر عملية شاقة ومرهقة للغاية، لتعدد إسهاماته وتنوعها وتشعبها في عدة مجالات فنية وثقافية، ومن ثم فيصعب على الباحث أو الكاتب تتبعها وحصرها لغياب المراجع الموثقة لهذه الأعمال، ويصعب أيضا محاولة الولوج إلى العالم الفني الساحر لهذا المبدع الكبير فجميع إبداعاته ما هيى إلا انعكاس للمراحل التاريخية التي مرت بها مصر التي عشقها، كما تحوي أيضا توجهاته الفكرية خلال مسيرته والتي لم ينتمي فيها لفكر يساري ولا يميني، ولكنها كانت دائمة الانحياز إلى مصر وإلى الأغلبية من أبناء الشعب، وبالتالي فإن أعماله المسرحية تعد تسجيلا وتوثيقا وتأريخا لفترات عزيزة وغالية من تاريخنا السياسي والفني المعاصر.
طفولة معذبة بالمرض
في طفولته المبكرة في عمر السادسة أصيب (جلال الشرقاوي) بمرض التيفود وكان مرضا معديا في أربعينيات القرن الماضي، وهو ما جعل الأسرة تحيط به بمزيد من الرعاية والعناية والاهتمام بشكل يزيد بلاشك عن إخوته الآخرون، وكان لابد أن يقضي فترة نقاهة طويلة في البيت تقترب من السنة، وهكذا لم يستطع دخول المدرسة الأولية، وتولت أخته تدريس مبادئ الحساب والقراءة والكتابة، بحكم أنها كانت تعمل مدرسة في مدرسة حسن باشا طاهر الابتدائية بالحلمية، ومن هنا كانت هى مدرسته الأولى وأمه التي تتولى الرعاية والعاطفة معا.
أعلنت المدارس الابتدائية عن امتحانات القبول ومن ضمنها مدرسة محمد على الابتدائية بشارع (ماراسينة) بالسيدة زينب .. كانت هناك عدة امتحانات تبدأ للا لتحاق بالسنة الثانية الابتدائية، ومن ينجح يلتحق بها مباشرة، أما من يخفق فيدخل امتحان السنة الأولى، ومن يجانبه التوفيق ينتظر للعام القادم، وكانت المفاجأة أن (جلال) نجح للسنة الثانية مباشرة وكان عمره وقتها تسع سنوات.
عاملان مهمان كانا وراء بدايات تطلعه لعالم المسرح، الأول: كان من خلال أخوه الأكبر (حلمي) الذي كان طالبا بمدرسة الهندسة التطبيقية، وكان هاويا للتمثيل ورئيسا لفريق التمثيل بها، وفي إحدى حفلات نهاية العام الدراسي ذهب مع أمه وأخواته لمشاهدتها، خاصة أن برنامج الحفل كان يحتوى عرضا مسرحيا بعنوان (المعلم بدوى) من بطولة شقيقه، وهو مقتبس عن مسرحية شهيرة بعنوان (لو كنت الملك) لمؤلفها (جوستين هونتلي مكارثي) وقد اقتبس منها أيضا نجيب الريحاني مسرحيته (حكم قراقوش)، وكانت البطولة النسائية لممثلة مشهورة آنذاك هى السيدة (فوزية حجازي)، التي افتتحت فيما بعد مخزنا لتأجير الملابس والإكسسوار، وخرج من تلك المسرحية بجملة ظلت عالقة في ذهنه، والتي تقولها البطلة في نهاية العرض: (العشة فاضية يامعلم بدوي)، وذلك على سبيل أنها دعوة للحب والزواج.
شقيقه أورثه التمثيل
لم يكن (حلمي) شقيق جلال الشرقاوي مجرد رئيس فريق مدرسة الهندسة التطبيقية فحسب لكنه كان أيضا أحد أعضاء فرقة (فوزي الجزايرلي) الشهير بالمعلم بحبح، وقد قدمت هذه الفرقة كثيرا من مسرحياتها على (مسرح إيزيس) بشارع قدري باشا، وهو مكان سينما إيزيس حاليا .. وكان أبوه غاضبا غضبا شديدا بسبب احتراف شقيقه الفن، وقد نبهه وحذره كثيرا وحثه على ترك الفن، ولكن يبدو أن (حلمي) لم يستطع أن يلبي رغبة الأب فتظاهر بالطاعة، ولكنه كان يمثل في (فرقة الجزايرلي) دون علم أبيه، وهذا جعله يستعين بملابس (جلال) الذي كان بمثابة (العصفورة) التي تحضر الملابس من البيت للمسرح والعكس ولكن بمعونة الأم.
التحق )حلمي( أيضا بمعهد التمثيل الذي كان قد أنشأه الرائد الكبير زكي طليمات، ولكنه تخرج من مدرسة الهندسة التطبيقية وعين مهندس نسيج بالمحلة الكبرى فترك المعهد، وفيما بعد حصل على بكالوريس الهندسة قسم مدني بجامعة عين شمس وشق طريقه في هذا المجال تاركا التمثيل إلى الأبد، ولكن بعد أن كان قد زرع بداخل شقيقه (جلال) البذرة الأولى للفن وحب التمثيل.
أما العامل الثاني وراء حبة للفن والمسرح منه على وجه التحديد: كان من خلال المنزل المقابل للبيت الذي كان يسكن فيه، حيث كان قطن فيه الحاج (مصطفى حفني) الذي أسس مسرح إيزيس، وقد كان مالكا لمسرح (برنيتانيا) بشارع عماد الدين فيما قبل، وله ابن صغير في مثل سن (جلال) أو بالأحرى ابن زوجته يدعى (مختار)، وهو اسم الدلع، أما اسمه الحقيقي فكان (أحمد عبده صالح)، وبحكم السن كانا صديقين وهو الذي كان يصحبه معه إلى المسرح كلما حانت الفرصة، وهكذا يمكن القول أنه تفتحت عيني طفولته في كواليس مسرح إيزيس، وعلى هذا المسرح شاهد فرق (يوسف وهبي، فاطمة رشدي، محمد الكحلاوي، على الكسار، فوزي الجزايرلي).
في ذلك العهد رأي (جلال الشرقاوي) موكب يوسف وهبي وهو يتجه إلى مسرح إيزيس والناس على الصفيين من ميدان لاظوغلي مرورا بشارع خيرت إلى ميدان السيدة زينب إلى شارع قدري .. مسافة لاتقل عن خمسة كيلومترات .. الناس على الصفين في حوالي الساعة الثامنة مساء يحيون ويصفقون ليوسف وهبي الجالس على الكنبة الخلفية في سيارته الكاديلاك السوداء الكابورليه، وهو يحيي متفرجيه إلى أن يصل إلى باب المسرح .. وينتهي العرض ويخرج الجموع أو جزء كبير منها على الأقل مازالت في انتظار يوسف وهبي لتحيته عند عودته.
النوم في المسرح
كانت ليلة افتتاح مسرحيته (أولاد الشوارع) واتفق (جلال) مع (مختار) على ضروة مشاهدتها، ولكن كانت العقبة في والده الذي برغم توسلات الحاج مصطفى حفني له، إلا أنه رفض بإلحاح متعللا بضرورة النوم مبكرا للذهاب إلى المدرسة، ولكن شيطان الفن كان أقوى من أي شيئ، فبعد تناول العشاء دخل إلى غرفته متظاهرا بالنوم، ولكن ما أن سمع صفارة مختار المتفق عليها حتى تسلل من فراشه وارتدى ملابسه واخترق الصالة على أطراف أصابعه وفتح الباب تاركا إياه مواربا دون تحسب لأي خطر.
دخل (جلال الشرقاوي) المسرح ليشاهد عالم يوسف وهبي السحري، ويبدو أن سلطان النوم على طفل لم يتجاوز التاسعة كان أقسى من أن يقاوم، فعندما حل الفصل الثالث
تسلل (جلال) إلى آخر المسرح في البلكونة ونام، انتهى العرض وظل مختار يبحث عنه فلم يجده فاعتقد أنه سبقه للمنزل فانصرف وقبل الفجر بقليل نهض والده ليصلي وكان من عاداته أن يمر على كل الحجرات ليطمئن على النائمين، ويرجع الغطاء إلى جسده من رفسه أثناء النوم.
فتح والد (جلال الشرقاوي) ولم يجده ابنه في سريره، وبحث عنه في كل الحجرات الأخرى ولم يجده، وذهب لباب البيت فوجده مواربا، ومن ثم فقد خمن ماحدث فنزل على السلالم مسرعا إلى البيت المقابل وأيقظ الحاج مصطفى حفني وابنه مختار الذي اعترف على الفور بما جرى ولكنه أقسم بأنه لم يرى (جلال) بعد العرض، وتحرك الموكب إلى المسرح وأيقظ الغفير الذي فتح الأبواب وفتش في أرجاء المكان حتى عثروا على الطفل نائما وبراءة الملائكة على وجهه .. في رفق أيقظه أبوه وحمله إلى المنزل، ولكن علقة ساخنة كانت في انتظاره في اليوم التالي.
فيما بعد تعرف (جلال الشرقاوي) على الأستاذ الكبير يوسف وهبي وحكى له تلك القصة وضحك وهبي بك كثيرا، وعلق ذلك بطريقة أدائه الشهيرة : كنت بتيجي مسرح يوسف وهبي تنام يا جلال!!، المهم أنه تعرف عن قرب مع الأستاذ ومثل معه فيلم (صابحة)، وهو من إعداده شخصيا عن مسرحيته الشهيرة (بنات الريف)، من إخراج حسن حافظ، وقد مثل فيه جلال دور الإقطاعي الذي يغتصب صابحة، وهو نفس الدور الذي مثله يوسف وهبي في شبابه، أما هو فقد رسم لنفسه دور آخر في الفيلم، وبالمناسبة فقد أخرج له فيما بعد عشر مسرحيات في استديو محمد الطوخي لإذاعة الكويت قام هو بأداء أدواره الشهيرة بها.
في المدرسة الابتدائية
دخل (جلال الشرقاوي) مدرسة (محمد علي الابتدائية) بالسنة الثانية وانتقل منها ناجحا إلى الفرقة الثالثة، وفي تلك الأثناء عن لمدرس اللغة العربية أن يؤلف مسرحية قصيرة من فصل واحد تؤديها جماعة الخطابة بالمدرسة في نهاية العام، وأطلق عليها اسم (مصر تتحدث عن نفسها) .. البطلة كانت مصر تتحدث عن أبنائها الذين يفدونها بالروح ويسهمون في حضارتها بالعلم والفن .. وهاهو ضابط الجيش وضابط البوليس والطبيب والمحامي والقاضي والمدرس .. كل يتحدث عن دوره في خدمة مصر، ولابد أن ذلك المدرس قد لمس في هذا الطفل (جلال) تفوقا وحسنا في الأداء فقد ألحقه في جماعة الخطابة وأسند إليه دور المحامي.
في عام 1945 حصل (جلال الشرقاوي) على الشهادة الابتدائية في سن الحادية عشرة بتقدير تعدى الثمانين في المائة، ومن هنا أصر المرحوم الحاج مصطفى حفني أن يحتفل بنجاح جلال وولده مختار ليصحبهما إلى روض الفرج، وهناك شاهدا عالما آخر من السحر والمتعة، كان المكان ممتلئا بمسارح بدائية تقدم ما نطلق عليه اليوم مسرح منوعات، وفي تلك الليلة شاهد إسماعيل ياسين ومحمود شكوكو وسعاد مكاوي وثريا حلمي يلقون مونولوجاتهم الفكاهية، ثم شاهد اسكتشا قصيرا يجمع بين التمثيل والغناء والرقص.
لم يجد له والده مكانا في المدرسة الخديوية.. أقرب المدارس المنزل فالتحق بمدرسة الشيخ صالح الثانوية القريبة أيضا من المنزل ليقضي بها السنة الأولى ولتمضي في صمت دون أي نشاط فني يذكر، ومع بداية السنة الثانية انتقل إلى المدرسة الخديوية، ومن خلالها بدأ في البحث والتعرف على فريق التمثيل والأشغال اليدوية والجمعية التاريخية وجماعة السينما وجماعة البر والإحسان والجماعة الدينية وجماعة الصحافة، ولكن من بين كل هؤلاء كان لفريق التمثيل منزلة خاصة عند (جلال الشرقاوي)، وكانت معاملته لهم خاصة، حيث كان أفراده هم المميزون والمشار إليهم، ولم يكن هذا شأن الخديوية وحدها، بل كان ذلك هو شأن جميع المدارس الثانوية في كل القطر، والفضل في ذلك يرجع إلى رائد المسرح المصري العظيم الأستاذ زكي طليمات.
على مسرح الخديوية
تعرف في المدرسة الخديوية في سنته الأولى على عبد الرؤوف الشعراوي وحسن عبد السلام وعبد الله الجزيري، بالإضافة إلى عادل مأمون وأحمد غانم، وفي السنوات التالية التحق بالخديوية أحمد زكي وفاروق الدمرداش وجمال إسماعيل وأبو بكر عزت وبحكم تجواله بين المدراس بالعروض المسرحية تعرف في مدرسة على باشا مبارك على أحمد طنطاوي وأنور إسماعيل وحسن يوسف، وفي حلوان على أسعد أمين، وكانت كل مدرسة تقدم عدة حفلات على مدار السنة في المناسبات المختلفة وتتوج ذلك في نهاية العام بحفل تتنافس فيه على كأس الوزارة.
على مسرح المدرسة الخديوية قدم (جلال الشرقاوي) مع فريق التمثيل مسرحية (البخيل) لموليير في السنة الأولى، وقام عبد الرؤوف الشعراوي (رئيس الفريق) بدور أرباجون – حسن عبد السلام (وكيل الفريق) بدور لافليش – عبد الله الجزيري بدور كليانت، وقام هو بدور (فالير)، وفي السنة الثانية قدم مع فريق التمثيل مسرحية (الأستاذ كلينوف)، وفي السنة الثالثة قدموا مسرحية (مصرع كليوباترا) لأحمد شوقي، وفي السنة الرابعة قدموا مسرحية (العباسة) للشاعر عزيز أباظة، ثم إعدادا لمسرحية (عطيل) لشكسبير، ومسرحية (المنقذة) لمحمود تيمور، ومسرحية (الوطن) للكاتب الفرنسي فيكتوريان ساردو من ترجمة عزيز عيد، وفي السنة الخامسة أصبح جلال الشرقوي رئيس فريق التمثيل، وقدم مع الفريق رواية (سلك مقطوع)، وهى كوميديا اجتماعية من تأليف د.وصفي عمر، ومسرحية (في سبيل التاج)، وهى من تأليف فرانسوا كوبو وترجمة مصطفى لطفي المنفلوطي، وأيضا مسرحية (عزة بنت الخليفة) من تأليف الشاعر الدنمركي هنريك وترجمة إبراهيم رمزي.
توج (جلال الشرقاوي) نجاحه في الثانوية العامة بالحصول على كأس الوزارة وحصوله على الميدالية الذهبية الأولى، لكن والده كان يوصيه دائما بأن يمارس هوايته الفنية خلال السنوات السابقة، لكن في التوجيهية لابد أن يكون تركيزه وتفكيره كله منصب على التفرغ الكامل للدراسة حتى يستطيع الحصول على المجموع الذي يؤهله لدخول كلية الطب، ومن ثم فعليه أن يترك فريق التمثيل، ولكن كيف يمكن له ذلك وقد أصبح رئيسا للفريق ومتحملا مسئولية قيادته وخصوصا أن الخديوية قد حصلت على كأس الوزارة، كيف يمكن ذلك إلا بمزيد من الجهد والعمل والتدريبات.
غير لائق بالطب
بعد حصوله على التوجيهية، وفي أحد أيام الجمعة وصل (جلال الشرقاوي) خطاب من إدارة التنسيق بالجامعة بأن موعد الكشف الطبي لكلية طب الأسكندرية هو في الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي السبت، ولم يجد والده مناصا من أن يوصله إلى محطة سكك حديد مصر ليستقل قطار الدرجة الثالثة إلى الأسكندرية، ولكن الصاعقة كانت عندما كشف عليه طبيب صادما إياه قائلا له: غير لائق، جراء لغط في القلب.. هكذا لعب القدر لعبته في أن يبقى في القاهرة سائرا إلى نهايته المحتومة، نهايته التي كتبت في اللوح المحفوظ أن يكون طالبا بكلية العلوم جامعة فؤاد الأول، وعلى الفور التحق بفريق التمثيل، وقدم على مسرح الجامعة رواية (شقة للإيجار)، ومسرحية أخرى لفيكتور هوجو بعنوان(هرناني).
عاش (جلال الشرقوي) في سنوات الجامعة أحداث مصر السياسية عامي 1951/1952، والتي قدر لها أن تحدث تغيرا جوهريا في تاريخ مصر الحديث، وهو ما دفعه لعمل مسرحية وطنية يستعين فيها بنجمة من نجوم السينما المصرية وتطرح التذاكر بالجامعة بأسعار مخفضة لصالح مشروع (قطار الرحمة)، واقترحوا اسم (فاتن حمامة) لبطولتها، وهى التي وافقت على الفور وبدأت تنتظم في البروفات ورفع الستار على مسرح حديقة الأزبكية عن مسرحية (في سبيل الوطن) وحققت مبيعات كبيرة، ومن بعدها قدم عدة مسرحيات مثل (النائب العام)، ثم (هاملت)، و(الدلوعة) لنجيب الريحاني وبديع خيري، وفي نهاية العام الدراسي قدم مسرحية (30 يوم في السجن) على مسرح الريحاني.
تخرج (جلال الشرقاوي) من كلية العلوم عام 1954، وحصل له أخوه على وظيفة في شركة (مصر لأعمال الأسمنت المسلح) بمرتب شهري 150 جنيه، وكان هذا مرتبا خياليا آنذاك، ولكن كانت المشكلة أن مكان التعيين كان بفرع الشركة بأسوان، لذا رفض وقرر دخول كلية تربية عين شمس للحصول على دبلوم خاص في التربية وعلم النفس، وعين على أثر ذلك مدرسا للعلوم بمدرسة النقراشي الثانوية النموذجية ، وفي نفس الوقت كان يتابع دراسته بالمعهد العالي للفنون المسرحية، وهنا بدأ تحقيق حلمه الذي يصبو إليه منذ صغره، وتخرج بتقدير امتياز مع كل من (أبو بكر عزت، عبد الرحمن أبو زهرة، إسلام فارس، فايز حلاوة، حسن عبد الله، عباس نويتو، عثمان محمد على، محمود وأزهار شريف، سامية محمد ومازك إسماعيل).
مرحلة المسرح العسكري
فور تخرجه من المعهد التحق بالإذاعة حيث كانت المتنفس الفني الوحيد، ثم التحق بالمسرح العسكري عام 1956، جندي مؤهلات مع زميله زين العشماوي، والتحق بعد ذلك بجمعية (هواة التمثيل)، ثم أعلن المجلس الأعلى للفنون عن بعثات في فنون المسرح بروسيا، فذهب إلى موسكو، وفي فترة إقامته في موسكو شاهد المسارح الكبيرة بها، وبعد بعثة موسكو التحق المعهد العالي للدراسات السينمائية بباريس، ودرس السينما فيه لمدة سنتين تعادل درجة الماجستير، وعاد للقاهرة في منتصف سبتمبر 1962 وانخرط في العمل المسرحي، وقدم مع الفرق المسرحية العشرة التي أنشاءها التليقفزيون 18 مسرحية جديدة.
بدأ حياته بإخراج عمله الأول (أرملة وثلاث بنات) سنة 1965 وأخرج خلال حياته عدد كبير من المسرحيات منها عدد من المسرحيات الناجحة تجاريا التي استمر عرضها لفترات طويلة على المسرح المصري، ولهذا يعتبر (الشرقاوي) رائدا من رواد المسرح السياسي فى مصر والعالم العربي متعرضا لأهم الأحداث التاريخية التي هزت المنطقة بأكملها في أعماله المسرحية منها: (آه ياليل ياقمر) التي تتحدث عن الخيانة فى الداخل والخارج، ومسرحية (بلدي يا بلدي) تتحدث عن حاشية السوء التي أبعدت الزعيم عن الشعب، أما (إنت اللى قتلت الوحش) فتتحدث عن حكم الفرد وعن ثورة الشعب ورغبته فى أن يكون الحكم للجموع، و(عفاريت مصر الجديدة) التي تتحدث عن دولة المخابرات، و(ملك الشحاتين)، وهى عبارة عن قصة حول الصراع القاتل بين السلطة السياسية والسلطة العسكرية، وعن وفاة الزعيم الراحل جمال عبد الناصر قدم مسرحية (حجة الوداع).
وقدم المخرج الكبير مسرحيتين عن حرب أكتوبر هما: (شهر زاد، وعيون بهية)، بالإضافة إلى رائعته (ع الرصيف)، والتى يكشف فيها النقاب عن بعض سلبيات وإيجابيات العصور الثلاثة (ناصر -السادات – مبارك)، وتعد أول نموذج للمسرح السياسي المباشر يقدم فى مصر بل وفى العالم العربي عامة، وهو المسرح الذي لا يلجأ إلى الأسطورة أو التاريخ أو الرمز أو الإسقاط وإنما يسمى الأشخاص بأسمائهم والأحداث بزمانها ومكانها، ويستمر مع هذا المنهج فى مسرحيتي (بشويش، وبولوتيكا)، ثم يجدد الشرقاوي في منهجه المسرحي فيقدم نموذجا للكباريه السياسي في (انقلاب وعطية الإرهابية، والجنزير).
الانتخاب السري للرئيس
فى يوليو 1995 انفرج الستار عن (دستور يا أسيادنا) التي تنادى بالانتخاب السري الحر المباشر لرئيس الجمهورية والتي تحققت في فبراير2005، وفى مسرحياته: (شباب روش طحن، وامسك حكومة، وأنا متفائل تصور)، يبحث مخرجنا عن حق المواطن المصري فى وطنه وخارج وطنه، وحتى في (برهومة واكلاه البارومة) تدور فى ذات الإطار لسياسة الخصخصة والبيع البخس والفساد والرشوة بالجنس والمال.
ومازال الشرقاوي مناضلا علي جبهته المسرحية (مسرح الفن) الذي تحدي به فاروق حسني، وزير الثقافة السابق، ومحافظ القاهرة السابق عبدالعظيم وزير، واعتصم بمسرحه أمام جرافاتهم لكي يتخلصوا منه عن طريق هدم مسرحه وحصنه السياسي ضد فساد مبارك ونظامه، وتتغير الأسماء والفصائل في دائرة حكم مصر ويبقي الشرقاوي في حصنه (مسرح الفن) يناضل من أجل العدل والحرية، ويجهز الآن لمسرحية (هولاكو) من تأليف الشاعر الكبير فاروق جويدة، والتي تتناول أحداثها احتلال المغول لأجزاء من عالمنا العربي، ويتعرض من خلالها لكيفيه محاربة الفساد والطغيان والكيل بمكيالي في الساسة الحالية.
وشارك (جلال الشرقاوي) في بعض من الأعمال الدرامية التلفزيونية مثل :(ملحمة الحب، المفسدون في الأرض، الحب وأشياء أخرى) كما شارك في عدد من الأفلام السينمائية، منها(موعد مع القدر، خلي بالك من عقلك)، خلال مشواره على عدة ميداليات وشهادات تقدير منها ميدالية من (المركز الكاثوليكى المصرى)، وميدالية (المسرح التجريبي) وجائزة الدولة التقديرية فى الفنون من مصر .
مصر كرمتني كثيرا
وعمل الشرقاوي مدرسا للتمثيل والإخراج بالمعهد العالى للفنون المسرحية أكتوبر 1962، ومدير مسرح توفيق الحكيم 1967، وأستاذ التمثيل والإخراج بالمعهد العالى للفنون المسرحية ورئيس قسم التمثيل والإخراج 1975 ، ثم عميد المعهد العالى للفنون المسرحية عامي 1975 و 1979، وأستاذ متفرغ بالمعهد منذ عام 2006، ألف عدة كتب في مجال المسرح والسينما يذكر منها : (مدخل إلى دراسة الجمهور فى المسرح المصرى باللغة العربية، السينما فى الوطن العربي، حياتى فى المسرح ” وغيرها من كتب في إعداد للمسرح وكيفية عمل الممثل.
ومن أبرز أقوال الشرقاوي : (إن مصر لم تكن سلبية معي، على العكس فقد كُرمت مرات عِدة على مدار تاريخي الفني الطويل، وحصلت على جائزة الدولة التقديرية في الفنون، وعدد من الأوسمة، بالإضافة إلى نحو 50 شهادة تقدير من جهات رسمية في مصر، مثل الجيش ووزارة الداخلية، ولهذا فهي لاتستحق أن يكون فنها كما هو حاليا بهذا الشكل المتردي على مستوى المسرح الهزلي والدراما التليفزيونية والسينمائية التي تخاصم الواقع المعاش.. تحية تقدير واحترام لروح الراحل الكبير جلال الشرقاوى – رحمه الله – صاحب الرصيد الذهبي في المسرح المصري والعربي.