بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
عفوا أيها السادة، هذه المقالة ستحتوي من باب الضرورة على ألفاظ لم أتعود على كتابتها من قبل، فهل ستتحملوني؟! سأفترض هذا، على العموم كلنا نعرف أن للفن مقاييسه، ومن مقايسه الجمال، فعلى قدر علمي أن للفن أهدافه، وله غاياته، ومن أهدافه وغاياته أن يرتقي بالإنسان، ويرتفع بمشاعره إلى أعلى درجات الرقي، وهذا هو عين الجمال، ولذلك فإن من قيم الفن العليا أن يكون جميلا، ولا يمكن للإنسان أن يتصور أن يكون هناك فنٌ قبيح، ولا يمكن أيضا أن يختلط القبح بالجمال فيقال إن إنسانا ما يمكن أن ينظر إلى لوحة فنية قبيحة ثم يقول: الله، ما هذا الجمال؟! فالقبح خصم تاريخي للجمال، ونحن في بلادنا عندما نرى شيئا جميلا نقول: الله.
وأي طفل صغير لم يشب عن الطوق بعد يعرف أن القبح ليس موجودا في بلد بعينها، ولكنه موجود في كل العالم، وهو أيضا موجود في أنفسنا، في داخل كل إنسان، كما أن الجمال ليس موجودا في بلد بعينها، ولكنه موجود في كل العالم، وهو أيضا موجود في أنفسنا، في داخل كل إنسان، وللقبح درجات كما للجمال درجات، فهناك القبيح والأقبح، وهناك الجميل والأجمل، وبين القبح والجمال بدرجاتهما تدور الحياة، إلا أن فلاسفة من بلاد الغرب، هم أصحاب الفلسفة العدمية، الذين يرون أن الأخلاق لا وجود لها في الدنيا، وأن هذا العالم يجب هدمه ليعود إلى سيرته الأولى البدائية، ثم تفلسف فريق منهم، وتفلسفوا، وقالوا إنه لا يوجد في العالم شيئ اسمه القبح، ولكن كل شيء (جميل جمال مالوش مثال) على رأي المرحوم فريد الأطرش طيب الله ثراه، وتفلسف هؤلاء وقالوا إن القبح ذات نفسه هو درجة من درجات الجمال، وإننا نستطيع أن نستخلص الجمال من وسط أشد ما يتصوره الإنسان من قُبح.
وانتشر هذا المذهب في الفنون، لذلك من الممكن أن ترى لوحة فنية قبيحة جدا، ويقول لك الفنان الذي رسمها لقد كان قصدي أن أصدم المشاهد الذي ينظر لتلك اللوحة، إذ أن الصدمة في مفهوم هؤلاء تمثل قيمة من قيم الجمال، ويوجد لهذا الفن الغريب مدرسة أطلقوا عليها (جمال القبح) وعلى سبيل المثال عندك لوحة (الدوقة القبيحة) للرسام الهولني الشهير (كوينتين ماتسيس)، وقد كانت لوحته هذه إحدى لوحات هذا الفن القبيح بالرغم من أنه رسم عشرات اللوحات البديعة ذات الجمال الأخاذ إلا أن شيطان القبح أوحى له بتلك اللوحة، ثم كانت حجة أهل الفن الذين يشجعون تقديم القبح هو: أليس القبح في حياتنا، فلماذا لا نرسمه؟ ثم تفلسفوا وقالوا: هذه هى الواقعية أيها السادة، القبح في حياتنا ونحن لا نستطيع إنكاره لذلك يجب أن نتعامل معه، ونتفهمه، ونتقبله.
ناهيك عن لوحات رسمها بعض الفنانين المهاويس بفرشاتهم بعد أن غمسوها في دمائهم، وبعضهم تفنن في وضع كل القبح في لوحة واحدة مثل الفنان والرسام البولندي (جيزلاف بيكشينسكي) والذي غادر حياتنا عام 2005، واستطاع هذا الرسام أن يُجسِّد القبح في العديد من لوحاته حيث رسم فيها رؤوسا مقطوعة ومشوهة، وهياكل عظمية بشعة، وخرابات مليئة بالنفايات الحيوانية والبشرية، وبعض الفنانين بالغ في القبح فقام أحدهم هو الإيطالي (بيرو مانزوني) والمتوفى عام 1963 بتعليب برازه في علب فنية، وبدلا من أن يأخذ هذا البراز بعفونته إلى معمل تحليل طبي، أو بالأحرى أن يلقي به في أقرب (باكبورت) قام بعرضه للبيع في مزاد علني!!، وفي الغالب كان الذي اشتراه مريضا بمرض نفسي عضال مثل مرض (المازوخية) وهو التلذذ بتعذيب النفس، وعندما تعجب البعض من هذا الفنان المريض بالسادية (حب تعذيب الغير) قال: أليس البراز ملازما للإنسان، أليس موجودا يا جهلاء في داخلنا قبل أن يخرج للوجود؟ فلماذا لا نتقبله إذن؟، ووللعجب تَقَبَل كثيرٌ من الناس هذا القبح، وقالوا إنه فن ما بعد الحداثة، ونجح (المتبرز )” في بيع العلبة الواحدة من برازه بـ 140 ألف دولار تحت عنوان عاطفي هو (براز الفنان).. أهذه هي الواقعية؟!
لو أردت أن تستنكر تلك الواقعية البشعة سيقول لك الناصحون وهم ينظرون إليك بإشفاق: لا تكن متخلفا، فهذه أشياء ليست من خيال الفنان ولكنه استخرجها من حياتنا، أتنكر هذا أيها الجاهل بالفن؟، ولك أن تعلم أنه يوجد في أمريكا متحف اسمه (مُتحف الفن السيء) أو الفن البشع، جمعوا فيه أبشع اللوحات الفنية الكريهة القبيحة، تأكيدا منهم على فكرتهم القبيحة من أن القبح هو درجة من درجات الجمال.
أما في السينما فقد قدم لنا الغرب أفلام أكلة لحوم البشر مثل الفيلم الإيطالي (إبادة آكلي لحوم البشر) للمخرج الإيطالي المجنون (روجيرو ديو داتو) وقد تم القبض على هذا المخرج إذ قامت شبهات حول أنه قتل الممثلين، ولكن ثبتت براءته، وإن كان قد ثبت أيضا أنه قتل عشرات الحيوانات في العديد من المشاهد، وقد تم منع هذا الفيلم من العرض في أكثر من ستين دولة لبشاعته، ثم عرض الغرب علينا أفلام الرعب البشعة، وأفلاما مليئة بالدماء، والقاذورات، وللعلم كل هذه الأشياء موجودة في حياتنا بالفعل، وقد تعلمون أن (جان بوكاسا) الذي كان رئيس جمهورية إفريقية الوسطى من آكلي لحوم البشر، فلنبحث عن الواقعية ولننتج فيلما عن بوكاسا وهو يأكل فتاة اصطادها من أحد المواخير، وفي مصر قامت بعض الزوجات بقتل أزواجهن وتقطيع جثثهم ووضعها في أكياس، فهل تنصحون رموز السينما في مصر بتقديم تلك المشاهد في أفلام وعرضها علينا في سياق أن هذه الجرائم في حياتنا ولذلك من الواقعية أن تشاهدوها وأن تتآلفوا معها، ويا حبذا لو كانت القصة تدور حول زوجة تخبر صديقتها في وقت صفاء ـ بعد أن فتحت لها هاتفها لتعرف أسرارها ـ بأنها سبق وأن قتلت زوجها ووضعته في أكياس، حينئذ يستحسن أن تنظر الصديقة ذات الوجه (الفوتوجونيك) للكاميرا وهى تقول للقاتلة صاحبة الأكياس: (إخص عليكي، لأ إخص عليكي إخص، ليه مقلتليش الموضوع ده مع اننا أصحاب ونمنا في سرير واحد).
ويالحظك الحسن وأنت ترى الواقعية في أفلام الحداثة، حينها ستشاهد أحدَهم وهو يجلس على قاعدة (التواليت) يقضي حاجته، وستسمع صوت فضلاته الموسيقية وهي تخرج من أمعائه، فإذا أصابنا الإشمئزاز واعترضنا قال لنا الناصحون: ما هذه السفسطة، أليس هذا يحدث لك عندمنا تصاب بالإمساك ثم يفرجها الله عليك؟!.. ألست تفرح وأنت تسمع صوت أمعائك الشجي وهو يتخلص من فضلاته؟! نحن الآن نعيد إليك هذه الفرحة من خلال هذا الفيلم، ثم إن المخرج استخرج تلك الفكرة من حياتنا ـ أو من المراحيض العمومية ـ .
يا عالم ، يا خلق هو، نعم شاهدنا في فيلم (زهايمر) عادل إمام وهو يزور صديقه سعيد صالح في بيت العجزة حيث كان هذا الصديق يُعالج من مرض الزهايمر، وفي نهاية الزيارة رأينا ملابس هذا المريض وقد تبللت لأنه تبول على نفسه، ثم رأينا نظرة عادل إمام لصديقه وقد امتلأت بالحزن والشفقة، فتعاطفنا مع سعيد صالح ولم نصب بالاشمئزاز، وأحببنا عادل إمام وأدركنا كم هو عبقري في التمثيل، وزاد حبنا لسعيد صالح وقلنا كم هو فنان حقيقي.
نحن يا سادة رأينا فيلم (الحرام) تأليف يوسف إدريس وإخراج هنري بركات وسيناريو العظيم المبدع سعد الدين وهبة، وقام بالبطولة فاتن حمامة وعبد الله غيث وزكي رستم، وشاهدنا كيف اعتدى أحد شباب القرية على فاتن حمامة (عزيزة)، وكيف أنها حملت نتيجة هذا الاعتداء، وعرفنا من خلال اسمها (عزيزة) عزة نفسها وشرفها، ولكن سياق الفيلم جعلنا نكره هذا المعتدي ونرفض وجوده في حياتنا، وفي ذات الوقت تعاطفنا مع الفلاحة عزيزة التي كانت مُعدمة وتجري على لقمة عيش أسرتها في أسوء الظروف، وكان يمكن لها أن تبيع جسدها، ولكنها رفضت وصممت على أن تأكل بشرفها، فأحببناها.
المهم أيها السادة هو السياق الذي يتم وضع القبح أو الرزيلة أو البشاعة فيه، هل قدمه لنا المخرج وفريق العمل وقالوا لنا: إن تلك هى حياتكم، وكلكم يحمل هذه الخطايا فعيشوا معها، أم أنهم قدموها لنا في سياق إنها قبائح ورزائل مرفوضة، يجب عليكم أن تقاوموها بالجمال والخير الذي في قلوبكم؟، نحن أيها السادة لا نقبل أبدا أن يتم تغيير المسميات، فنقول على الشاذ إنه (مثلي) ثم نقدمه في السينما على أن هؤلاء نوعية تعيش معنا، هل تنكرون ذلك أيها الرافضون؟، وبما أنها تعيش معنا فيجب أن نقدمها لكم سينمائيا في سياق يدفعكم إلى أن تختلطوا بهم وأن تتآلفوا معهم، لا أن ترفضوهم، ووفقا لهذا فإننا يجب أن نفرح جدا بمجموعة الشباب الذين اغتصبوا (ليلى علوي) في فيلم (المغتصبون) وأن نلتمس لهم العذر، فليلى علوي جميلة الجميلات، ولكن الفيلم قدمهم لنا في صورتهم البشعة، القبيحة، بحيث كرهناهم جدا، وأيضا نال فرج الذي أدى دوره الفنان (علي المعاون) في فيلم الكرنك كراهيتنا عندما اغتصب سعاد حسني، وكان فرج في هذا الفيلم يُمثل النظام الحاكم، وكان لأصحاب الفيلم رغبة عارمة في النيل من الزعيم عبد الناصر فجعلونا نبحث عن هذا المغتصب فرج لكي نصلبه على باب دار السينما.
فإذا جاء فيلم ـ أي فيلم وهو يقدم لنا القبح والرزيلة في سياق مقبول ويقول لنا: كلكم تحملون تلك الخطايا، ونحن نقدم لكم خطاياكم، ولا نفتعل شيئا من عندياتنا، لذلك يجب أن تقبلوا هذا الفن، فإننا سنقول لهم: ويحكم، نحن لا ننكر أن تلك الخطايا في بلادنا، وأن هذا القبح في حياتنا، لكن الجمال أيضا في بلادنا وفي حياتنا، أما مهمتكم يا أهل الفن فهي مواجهة هذا القبح وتلك الخطايا بجمال القيم الإنسانية، ليس المطلوب منكم أن تضعوا أمامنا فضلاتنا كريهة الشكل قبيحة الرائحة وتقولون لنا إن هذا الفن مستمد من حياتكم، يا أهل الفن قاوموا القبح من فضلكم، هذه هي رسالة الفن.
ثم أننا لا نعترض على شبكة نت معينة، فهذا دأب الشبكات العالمية، وهذه هى ثقافة (هدم الأخلاق) نحن نعرف هذا ولا نريد دروسكم، ولكن اعتراضنا هو أن بعض رموز الفن عندنا اشتركوا مع هذه الشبكة في تلك النوعية القبيحة، فكان أن ساهموا في مؤامرة لا تستهدفنا وحدنا، ولكنها تستهدف العالم كله، مؤامرة تستهدف القضاء على الأخلاق، اعلموا يا أهل الفن أنه يحزننا أن تساهموا في هدم الأخلاق في مقابل دراهم معدودة ستضاف إلى أرصدتكم في البنوك، فكونوا مع الجمال يرحمكم الله.