بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
تابعت بقلق شديد المعركة الدائرة حول فيلم ( أصحاب و لا أعز ) المذاع على منصة نتفليكس ، و الحقيقة أن مصدر قلقى ليس الدفاع عن حرية الإبداع ، أو الانتفاض للحفاظ على قيم المجتمع ، فليس الانتماء لأحد الفريقين أو تبنى مقولات طرف منهما هو ما أقلقنى ، و لكن القلق نابع مما تكشف عنه هذه المعركة من عورات فى سلوكيات مجتمعنا المصرى و فى تعاملنا مع القضايا ، فنحن كأفراد و كمجتمع فى حاجة إلى علاج سريع من ظواهر مرضية خطيرة تنكشف مع مثل هذه الاختلافات ، أولها هو كم الغضب الهائل و الكراهية العميقة فى تعاملنا سويا ، كان ذلك واضحا و جليا فى تبادل الاتهامات و الشتائم و التخوين و استعداء السلطة من كلا الفريقين ، برغم أن المعركة المحتدمة لا تستحق كل هذه الضجة ، فلن يتسبب فيلم – مهما كان – فى انتشار المثلية أو إشاعة الفاحشة ، فكيف بفيلم على منصة خاصة لا يشاهدها إلا من دفع اشتراكا ، و بالتالى فمهما كان حجم انتشارها فهو محدود نسبيا .
إلى جانب انها منصة خاصة و من يشترك بها يتحمل مسئولية نفسه ، و من السهل عليه إلغاء الاشتراك فيها و يريح رأسه من مؤامراتها على اخلاقياتنا ، أما اذا استمر فى متابعتها فوحده فقط يتحمل العاقبة ، و إذا كنا نخاف على أطفال المشتركين فيها أكثر منهم ، فعلى المنصة من الوسائل ما يكفل مراقبة ما يشاهده الصغار ، و يستطيع الآباء حظر بعض المواد ، كما أن كل الأعمال على المنصات تخضع لتصنيف عمرى و من المفترض ألا يشاهد الأعمال من يقل عمره عن المحدد للعمل ، و لكن الحملة على الفيلم – ككل الحملات السابقة على الافلام – ساعدت على الترويج له ، حتى ضاعفت عدد مشاهديه ، بعد أن قام الكثيرون بـ ( قرصنة ) الفيلم ليشاهده القاصى و الدانى دون أية محاذير و دون مراعاة لعمر المشاهد !! و هذا عكس ما كانت تهدف إليه الحملة المضادة للفيلم ، و لكن الحماقة أعيت من يداويها .
و الغريب فى الأمر أن من بدأ الحملة عضو موقر فى مجلس النواب ، استخدم فى هجومه عدة مغالطات ، ليس من المفترض أن تصدر عنه ، فلقد قال إن الفيلم يدعو للمثلية الجنسية ، و هذا غير صحيح من وجهة نظرى ، و قال أن الفيلم منقول و هو ما يخرجه عن دائرة الإبداع و ذلك مفهوم خاطئ ، و طالب وزارة الثقافة بمنعه ، و عندما تمت مواجهته أن لا ولاية للوزارة على المنصات الخاصة – و هى معلومة معروفة له بالضرورة – طالب بمنع منصة نتفليكس من مصر كلها ، و قال إن روسيا منعتها ، و تلك معلومات محرفة ، فخدمة نتفليكس تغطى دول العالم كلها ماعدا الصين و سوريا و كوريا الشمالية – و ذلك لأسباب أيدلوجية أو تقنية و ليس لأسباب أخلاقية – و يبلغ عدد مشتركيها بشكل رسمى 208 مليون اشتراك ، و إذا علمنا أن بعض الاشتراكات تتيح لخمس أشخاص المشاهدة ، فعلينا أن ندرك أن مشاهديها لا يقلون عن ضعف هذا الرقم ، و برغم أن المنصة تلجأ فى الغالب إلى نوعية الأعمال التى تحقق لها رواجا ( افلام و مسلسلات الرعب / الجريمة / اللأبطال الخارقين / الموضوعات الاجتماعية الملتهبة ) فلم تقم أى دولة بمنعها مادامت غير مفروضة على الافراد و إنما يشتركون بها بمحض إرادتهم . و كان الأجدر بالسيد النائب مناقشة كيف نرقى بوعى الناس ليرفضوا مثل هذه الأعمال بدلا من فرض وصاية عليهم فيما يشاهدونه ، أم أن الوعى يخيف البعض ؟
أما روسيا – التى روجت قنوات الإخوان أيضا أنها حجبت المنصة و مصر لم تفعل – فلها أعمال من إنتاجها مذاعة عليها ، و لكن فى نوفمبر الماضى نشب خلاف بينهما استدعى تحقيقا ، حيث أن القانون الروسى يحتم ألا يشاهد بعض الأعمال من هم أقل من 18 سنة ، بينما المنصة أتاحتها لمن هم فوق 16 سنة . و الإجراء المتبع فى مثل هذه المخالفات هو الغرامة و ليس الحجب . و قد أفادت نتفيلكس فى التحقيقات أن تصنيفها العمرى لتلك الأعمال كان صحيحا و لم يكن مخالفا للقانون الروسى .
و الحقيقة أن روسيا لها خلافات متعددة مع المنصات الغربية – و منها نتفليكس – فبعد ان قدمت منصة HBO مسلسلا عن مأساة انفجار مفاعل تشيرنوبل رأت السلطات الروسية أنه مسيئ لها فقامت بإنتاج فيلم عن نفس الموضوع يتبنى وجهة النظر الروسية ، و خلاف مع منصة OSN بسبب مسلسل يدور حول التهجير القسرى إلى سيبيريا لملاك الأراضى فى فترة حكم ستالين رأت فيه الأجيال القديمة إنه يسيئ للثورة الشيوعية ، أما نتفيلكس فتضم فيلما تسجيليا طويلا عن صراع أوكرانيا للالتحاق بالاتحاد الأوروبى ، و الفيلم يدين التدخلات الروسية لمنع هذا الالتحاق والذى يكاد أن يتسبب فى الحرب التى تكاد تشتعل الآن بين روسيا و المعسكر الغربى. إذن فخلافات روسيا مع المنصات لها خلفيات سياسية و لم يكن من أجل عيون الأخلاق قط ، و برغم هذا لم تقدم روسيا على منع أى منصة بل على العكس فهناك اتفاق سيتم تنفيذه من مارس القادم يقضى بان تضم نتفيلكس 20 محطة تليفزيون روسية ، و بهذا ينضم لها أكثر من 100 ألف مشاهد يومى عدا مشتركيها ، فعن أى منع يتحدثون ؟
و أيا ما كان موقف روسيا من نتفيلكس فالسؤال الذى أرقنى : لماذا انفعل السيد النائب بسبب هذا الفيلم بالذات و ادعى أنه يروج للمثلية الجنسية و هناك العشرات مثله تم طرحهم فى مصر سواء من انتاجات أجنبية او مصرية ، فهل كانت تلك الأعمال تروج لها أيضا ؟ هل بناء على وجهة نظر العضو الموقر علينا أن نمنع فيلم (عمارة يعقوبيان)النائب الام ؟ ، هل علينا أن نحاكم عادل إمام ايضا لأنه شارك فيه ؟ و إذا فعلنا هذا بضمير مستريح فماذا نفعل مع لأديب نوبل نجيب محفوظ ، هل نصادر روايته (السكرية) لأن أحد أحفاد السيد أحمد عبد الجواد كان مثليا ؟
يجب أن نسأل أنفسنا أولا : هل أى عمل يتناول نقيصة فهو يروج لها ؟ ، لو الأمر كذلك فعلينا أن نمنع أفلام الخيانة الزوجية و أفلام المخدرات و أفلام الجريمة و أفلام الجاسوسية و أيضا الأفلام التى تناقش الإرهاب . و علينا أن نقدم دراما كل شخوصها من الملائكة أو نجنح فقط إلى التسلية و لا نناقش أى مشاكل مسكوت عنها ، باختصار ندفن رؤوسنا فى الرمل احتراما لمشاعر السيد النائب الموقر الذى لم أره منفعلا بهذا الشكل فى قضايا أهم ، مثل قضية مستحقات موظفى التليفزيون المعلقة منذ سنوات و التى اضطرتهم للتظاهر بسبب صمت المسئولين ، بل أين السيد النائب – و هو اعلامى – مما يحدث لزملائه الإعلاميين من ابناء القنوات الاقليمية ؟، أليست هذه قضايا أولى بإهتمامه كنائب للشعب ؟
و إذا تركنا المجلس جانبا بنوابه الذين يسارع بعضهم للهجوم على الفن و الفنانين من أجل ركوب الترند و السعى إلى للشهرة ، فكيف نترك السادة الأفاضل من المحامين الذين يجرجرون عباد الله فى المحاكم بدعاوى غريبة و عجيبة ، و تظل قضايا الحسبة سيفا مسلطا على الجميع فى نوع جديد من الإرهاب سيقضى على قوانا الناعمة ، ألا يوجد تشريع واحد يحمى المبدعين من رافعى لواء الحفاظ على الأخلاق و الفضيلة ، كيف لقاض فاضل أن يقتطع من وقته و من وقت القضاء – الذين ينظر قضايا أهم وأجدر – أن يجلس ليناقش إذا كانت فنانة قد روجت للفحشاء لمجرد اشتراكها فى فيلم؟، و ما هو مقياس ( الترويج ) ؟ ، و ما مدى مسئوليتها عن أدوار باقى زملائها فى الفيلم ؟
لابد و أن يتحرك السيد النائب العام ليحد من نوعية تلك القضايا و يكفينا جهاز الرصد الذى أنشأه فهو يتابع انتظام حركة المجتمع و يحافظ على قيمه و لا نريد أوصياء على المجتمع و سلوكيات أفراده ، و إلا سنفاجأ بمئات الدعاوى القضائية تتهم أى شخص بالإساءة إلى القيم أو العادات أو التقاليد كما يراها كل صاحب دعوى ، و هذا ليس بمستبعد بعد تحريض إحدى العاملات بمجال الوعظ بالأزهر الشريف على توجه كل مواطن ضد الفيلم لتقديم بلاغ للنائب العام ، فأى جنون سنصبح فيه لو توجه ألف شخص ببلاغات للنائب العام كلما استاءوا من عمل فنى ؟ ، و أى تعطيل لعمل السلطات القضائية ؟
المخيف بحق فى تلك المعركة هو رد فعل بعضا من الجمهور الذى تكلم عن الفيلم دون أن يراه معتبرا إنه مسيئ للأخلاق و القيم !! و ردد البعض أشياء مبتسرة مثل أن ( ممثلة تخلع ملابسها الداخلية ) فى حين انه – حقيقة – لم يظهر من جسدها شيئ على الشاشة !! و إنما أوحت لنا بهذا دون أن تكشف شيئا ، و كل أفلامنا على مدار سنواتها أوحت بمثل هذا المشهد بصور متعددة إما من خلف ستار أو أن نجد الملابس على الأرض ، و لم يثُر أحد أو يرَ في تلك المشاهد على اختلافها تحريض على الفسق!!
أما ما يحتاج إلى علاج سريع هو استخدام البعض فى تعليقاتهم ألفاظا تدخل تحت بند السب و القذف و تشويه السمعة يعاقب عليها القانون . من المؤكد أنهم لا يعلمون ان محكمة النقض مؤخرا قد ارست مبدأً بمعاقبة صاحب كل تعليق على وسائل التواصل الاجتماعى قصد به كاتبه مضايقة شخص محدد ، فما الحال بسوء استخدام وسائل التواصل فى السب و الخوض فى الأعراض تحت دعوى الحفاظ على قيم المجتمع وأخلاقياته ، أى أخلاق فى هذه التصرفات ؟ ، ألا يجدر بالسيد النائب العام ردع البعض ليرتدع الجميع ، أليس هذا حفاظ أيضا على اخلاقيات و قيم المجتمع ؟
إننى أهيب بنقابة المهن التمثيلية بعد بيانها الذى أصدرته حماية لأعضائها و صونا لكرامتهم ، و بعد تحركها الذى تم ضد (يوتيوبر) اعتاد الإساءة للفنانين أن تتقدم ببلاغ للسيد النائب العام ضد من تجاوزوا لفظيا فى حق أعضائها ، ليعلم الجميع أن الفنانين ليسوا لقمة سائغة ، و أن الحفاظ على قيم المجتمع لا يتم بالسباب و لا بالألفاظ الجارحة، فربما تعلّم الناس كيف يعبرون عن آرائهم بشكل متحضر و كيف يختلفون بأدب ، فهذا ما سيغطى العورات التى انكشفت فى تلك المعركة .