في ذكراها الـ 26 ننفرد بنشر قصيدة (جميل صدقي الزهاوي) في فاطمة رشدي
كتب : أحمد السماحي
نحيي هذه الأيام الذكرى الـ 26 لرحيل رائدة السينما المصرية (فاطمة رشدي) التى رحلت عن حياتنا يوم 23 يناير عام 1996، وكانت من أوائل السيدات اللاتي عملن بالفن، وأسست فرقة مسرحية تحمل اسمها متحدية بذلك كل الفرق التى كان أصحابها فنانيين رجال، ومثلت وأنتجت، وأخرجت فيلم (الزواج) عام 1932، وكانت صاحبة فضل على السينما المصرية، وسبقت نجمات العالم فى الإخراج.
عام 1929 زارت (فاطمة رشدي) وفرقتها دولة العراق لأول مرة، وسنتركها تحكي لنا بعض تفاصيل هذه الرحلة كما ذكرتها في مجلة (الصباح) التى نشرت حوار مع نجمة مصر الكبيرة و(سارة برنار الشرق) تحكي فيه ظروف سفرها للعراق لأول مرة فتقول : حل الصيف وقبيل حلوله بدأت أخطط كيف نقضي أشهره، وهى أشهر كان الممثلون يقضونها في البطالة والتعطل، ففكرت في رحلة إلى الأقطار العربية، ومنها إلى العراق التى لم تزورها فرقة مصرية من قبل، فتكون فرقتي أول فرقة مصرية تعرض فنها على مسارحها، إذ كانت سوريا ولبنان هى قبلة فرق مصر وحدها، وتكتمت رحلة (العراق) وأرسلت مندوبا عني إليه لتدبير إقامة بعض حفلات فيها، كما أرسلت في الوقت نفسه متعهدا هو (علي يوسف) إلى سوريا ولبنان لتدبير إقامة حفلات أخرى في كل منهما.
أما السرية في الرحيل إلى العراق فكان الدافع إليها المنافسة، فإن فرقة رمسيس لصاحبها (يوسف بك وهبي) كانت تتبع حركات فرقتي لتسبقها إلى ما تعتزم الوصول إليه فتفسد علينا أمرنا، وأسرعت فنشرت إعلانا في جريدة (الأهرام) في يوم 25 أبريل عام 1929 عن هذه الرحلة دون أن أعين بلدا بذاته، فقد جاء في الإعلان: (فرقة فاطمة رشدي صديقة الطلبة تنوي القيام برحلة فنية رسمية للأقطار العربية لنشر الثقافة، وسيكون بصحبتها مدير الفرقة الفنان المصري الكبير (عزيز عيد)، وتعتبر فرقة (فاطمة رشدي) أكبر فرقة في مصر أقرتها وزارة المعارف العمومية لإحياء حفلات تمثيل لطلبة المدارس العالية والثانوية لإيجاد هيئة تعني بالتمثيل اختصتها الحكومة المصرية بقسم كبير من إعانة التمثيل لعام (28 / 1929).
وتضيف (فاطمة رشدي): بدأنا الاستعداد للرحلة وأعددنا نحو ثلاثين صندوقا كبيرا من الخشب ملأناها بالملابس والمناظر وما إليها لتمثيل عشرين مسرحية من دراما إلى فودفيل إلى كوميديا إلى تراجيديا، وسافرت الباخرة أولا إلى بيروت واستقبلنا أهل لبنان بكل الحب وهم يحملون باقات الزهور والورد ويهتفون باسمي، وبإسم الفرقة وباسم الفن المصري العتيد،، وعرضنا لهم عدة مسرحيات هى (السلطان عبدالحميد، النسر الصغير، غادة الكاميليا، جمال باشا).
وودعنا بيروت وودعنا أهلها أجمل وداع ميممين العراق الشقيق بالسيارات التى كانت تقطع المسافة بينهما في يومين، ولكن بعد أن انقضى الليل وظهر النهار أدركنا أننا ضللنا الطريق ووجدنا أنفسنا في صحراء قاتلة بشمسها الحارقة، وشعرنا بجفاف حلوقنا وتشنج ألسنتنا، وسحاب يخيم على نواظرنا، وعطشت ابنتي (عزيزة) عطشا شديدا فجمعنا لها ما تبقى من قطرات ماء في (زمزمياتنا) ورطبنا بها حلقها إلى حين، ولأول مرة أرى السراب في حياتي، ففي وسط هذه الصحراء القاتلة رأيت على البعد قصرا منيفا تحيط به الأشجار الباسقة، والظلال الوارفة، وأمامه نبع من الماء يتلألأ أمام أعين الظماء التائهين، فقلت لـ (عزيز عيد): لو اتجهنا إلى هذا القصر فسنجد الماء الذي نفتقده)، فضحك (عزيز) وقال: هذا سراب يا فاطمة ألم تسمعي به.
وأسلمت أمري وأمر فرقتي إلى الله، وإذا بأعرابي يظهر أمامنا من بعيد كأن الأرض قد انشقت عنه، فأسرع إليه (استفان روستي) يناديه بأعلى صوته وبلهجة هستيرية يغلب عليها الغضب والحنق، فلبى الأعرابي النداء وقادنا إلى (بغداد) في الساعة الرابعة فجرا بعد أن ظللنا تائهين لا ماء معنا ولا زاد نحو ثماني عشرة ساعة أو تزيد.
ووجدنا (أحمد نصار) الذي أرسلناه من قبل قد حجز لنا في أكبر فندق فى المدينة، وفي غرفتي ألقيت جسدي على السرير بعد الاستحمام أبتغي الراحة مما عانيناه من تعب ومشقة فى هذه الرحلة المضنية بالسيارة، ولكن بعد بضع ساعات وأنا في عز النوم استيقظت على طرق متكرر على الباب، فإذا الطارق خادمتي (نعيمة) تقول: إن قنصل مصر جاء ليخبرني بأن جلالة ملكة العراق تدعوني إلى حفلة شاي في القصر الملكي بعد ساعات قليلة، وعلي أن أعد نفسي لهذا اللقاء.
وفى الموعد المحدد أدخلت إلى بهو كبير زاد طوله على ثلاثين مترا وقد اصطفت على جانبيه عقيلات الوزراء والسفراء والوزراء المفوضين، والقناصل وكرائم العقيلات حتى انتهيت إلى الملكة في صدر البهو فاستقبلتني بإبتسامة جميلة، فتقدمت منها وصافحتها، فتلطفت مهنئة بسلامة الوصول وقائلة إنها مسرورة بهذا اللقاء الذي كانت تتوق إليه من أمد طويل، وزادت الملكة من لطفها فاقترحت أن تقيم ابنتي في ضيافتها ورعايتها طول مدة إقامتنا.
وفي اليوم التالي دعانا الملك (فيصل الأول) إلى حفلة شاي أخرى، أنا و(عزيز) وابنتي، وفي مساء اليوم نفسه مثلنا على مسرح أقيم خصيصا في حديقة القصر رواية (غادة الكاميليا) ولم يشهدها إلا أعضاء الأسرة المالكة والوزراء والسفراء، وبعد انتهاء التمثيل فوجئنا بالملك ومدعويه يفدون علينا في غرفتنا بالمسرح ويقدمون لنا التهنئة الحارة والإعجاب الشديد.
وبدأنا أول ليالينا على مسرح بغداد، فإذا الجمهور يزحف عليه زحفا، كأنه السيل العرم، وبلغ من شدة زحفه أنه حطم باب المسرح ومدخله وهم يتسابقون إلى احتلال المقاعد والممرات، وبلغ إيراد الحفلة مبلغا لم يكن في حسباننا أو تصورنا، وبين فصول الرواية وكانت – السلطان عبدالحميد – صعد إلى المسرح شاعر العراق الكبير (جميل صدقي الزهاوي) وألقى قصيدة حياني فيها وقد قال فيها :
ما شاهدت عيني ممثلة كفاطمة الشهيرة
أبدت جلال الفن حتى في مواقفه الخطيرة
جاءت تداعب دجلة إبان ثورته الأخيرة
جمعت إلى الفن الجميل، جمال طلعتها المنيرة
وجه صبيح ذو رواء مثل زنبقة نضيرة
الصورة الحسناء راوية، إلى حسن السريرة
لله أنت وللبراعة، من ممثلة خطيرة.
وفى أثناء إلقائه قال لي (عزيز عيد) وهو متأثر من هذه الحفاوة: يجب أن تقابلي هذا الاستقبال العظيم بعمل إنساني، إن فيضان دجلة قد طغى وأهلك منازل كثيرة، فللتتبرعي بإيراد اليوم – حفلة الافتتاح – لضحايا الفيضان، فما إن انتهى (الزهاوي) من قصيدته حتى أسرعت وقبلته شاكرة، وأعلنت تبرع الفرقة بإيراد هذه الحفلة لمنكوبي فيضان دجلة والفرات.
ولا تسل عن أماوات الشكر التى تجلت فى التصفيق الحاد الشديد والهتاف العالي الصاعد إلى عنان السماء من هذا الجمهور الحاشد، ولا تسل كذلك عما استقبلت به هذه اللفتة منا من أهل العراق، هيئاته الرسمية وطبقاته الشعبية، فأقبلوا على تكريمنا حتى كنا ندعى إلى ست حفلات في اليوم الواحد، حتى السفارة البريطانية أقامت لنا حفلة تكريم، واختتمت القنصلية المصرية هذه الحفلات بإقامة حفلة لنا ردت فيها بالنيابة عنا على جميع الجهات التى كرمتنا ورحبت بنا، وطالت إقامتنا في العراق نحو شهر زرت فيه معالمه الشهيرة كقصر زبيدة، وجامع الكاظمية، وغيرها، وغادرناه بعد أن اطمأنت نفوسنا إلى النبت الفني الذي غرسناه في أرض العراق الشقيق سينمو ويزدهر على طول الأيام.