بقلم المخرج المسرحي الكبير : عصام السيد
هذا العام تحل الذكرى الخامسة و الأربعين لانتفاضة الخبز المصرية التى قامت فى 18 و 19 يناير من عام 1977، تلك الانتفاضة التى اسماها السادات ( انتفاضة الحرامية ) فى محاولة منه للتهوين من شأنها و احتقارا لمن قاموا بها ، فقد كانت إهانة لعصره و شاهدا على فشله فى قيادة هذا الشعب ، و هو من كان يأمل أن يحوز مكانة أفضل من عبد الناصر فى قلوب الجماهير ، فلقد أعطى لهذا الشعب – من وجهة نظره – أكثر مما أعطى عبد الناصر ، الذى مات قبل أن يزيل آثار العدوان و ترك له تركة ثقيلة اقتصاديا و عسكريا .
لم يعترف السادات يوما – كأى بطل تراجيدى يسير إلى حتفه مدفوعا من القدر – أن الانتفاضة نتاج طبيعي لسوءات فترة حكمه الكثيرة و اختياراته الخاطئة و بطانة السوء التى اجتمعت حوله لتقنعه بأنه ( ملهم ) و نتاج أيضا لانفراده بالقرار و اتخاذه قرارات اقتصادية مصيرية برغم أنه أبعد ما يكون عن فهم الاقتصاد و ربما السياسة أيضا.
فقد اعترف الجميع بأنه لا يجيد اللعب بأوراقه ، فهاهو صديقه ( كيسنجر ) يعترف أن الأمريكيين كانوا على استعداد لتنفيذ أى طلبات له مقابل خروج الخبراء السوفيت من مصر و لكنه قام بهذه الخطوة بلا مقابل ، فلم يستفد من الأمريكيين و فى نفس الوقت اكتسب نفور السوفيت !!
الحقيقة أننى بمرور الأيام أصبحت أظن أن السادات كان أسوأ من حكموا مصر حظا، فقد أتى من الظل إلى صدارة المشهد بديلا لمعبود الأمة العربية ( ناصر ) الذى أحبه الناس منتصرا و مهزوما ، و احتضنوه حيا و ميتا ، و اعتبروه رمزا لعزتهم وكرامتهم، و تغنى به الأصدقاء و احترمه الأعداء ، و كانت تلك المحبة الغامرة غير المشروطة – التى وصلت الى رثائه حتى ممن اعتقلهم – أكبر مشاكل السادات ، فلقد حاول مرارا أن يُنسى الناس عبد الناصر ، و لكن المقارنة لم تكن فى صالح السادات أبداً . فمنذ اللحظة الأولى جلس على مقعد مهتز القوائم ، و عندما ظن أنه استقر بعد أن تخلص من شركاء الحكم فيما أسماه ثورة التصحيح سرعان ما اهتز مقعده مرة أخرى تحت وطأة هتافات الحركة الطلابية فى يناير 72 بسبب عدم تحقيق وعده بأن يكون عام 1971 هو عام حسم احتلال اسرائيل لسيناء أو ما كان يطلق عليه وقتها (إزالة اثار العدوان) ، ثم ثار عليه الطلاب مرة أخرى فى يناير 73 للإحساس بأن المعركة ( أصبحت مجرد مضغة فى الأفواه )، كما كتب توفيق الحكيم و نجيب محفوظ فى بيانهما – الذى وقع عليه أكثر من مائة من الكتاب و الصحفيين و المفكرين – للتضامن مع الحركة الطلابية و تأييدا لمطالبها .
و بعد انتصار أكتوبر ظن السادات أن الدنيا قد دانت له ، فحاول أن يُصدّر للناس صورة القائد الذى حقق النصر الوحيد على الخصم العنيد ، و أنه نجح فيما فشل فيه عبد الناصر . و تخيل أنه سيصبح معبود الجماهير ، و لكن مع اتفاقية فك الاشتباك الثانية بدأت الجماهير فى العودة الى موقفها منه قبل النصر .
و فى قمة إحساسه بالانتصار على العدو – و على عبد الناصر أيضا بالانقلاب على كل مبادئه – بدأت الاضرابات العمالية تنتشر و تصبح متكررة بسبب تردى الحالة الاقتصادية ، ففى عام 75 كانت إضراب عمال المحلة التى شارك فيه 30 ألف عامل اعتراضا على تدنى الأجور ، و فى عام 76 كان أول إضراب لعمال النقل العام للمطالبة برفع أجورهم التى لا تتناسب مطلقا مع غلاء المعيشة ، فقد ارتفع مستوى التضخم من 4 % الى 13 % خلال ثلاث أعوام ، بينما كانت صحافته تُبشّر بالرخاء القادم على يد أمريكا بعد عودة العلاقات معها ، و زيارة نيكسون لمصر . و أخذت وسائل الاعلام تتغنى بسياسة الانفتاح التى انتهجها السادات على خلاف سلفه عبد الناصر ، و أن تلك السياسة ستملأ مصر بأنهار من العسل . و على قدر ضخامة الحلم كانت خيبة الأمل عندما اكتشفت الجماهير أن أنهار العسل لا يغترف منها سوى المجموعة المحيطة بالسادات ، و بدأت روائح تزكم الأنوف و أسماء لفاسدين تتردد، كلها من دائرته المقربة !
عامين من النفخ فى البالون حتى انفجر ، فالسادات كان يعلم صعوبة الحالة الاقتصادية، و لكنه لم يستطع الاستفادة من الارتماء فى الحضن الأمريكى سوى بافتتاح فروع لـ ( ويمبى و كنتاكى ) و بعض البنوك الأجنبية ، و هذا لا يسمن و لا يغنى من جوع ، حتى عندما لجأ إلى بعض الدول العربية آملا فى جمع عشرة مليارات يصلح بهم حال الاقتصاد لم يجد سوى اثنين ، و لم يبق أمام الحكومة سوى إجراءات تقشفية حادة ، و برغم التحذيرات الأمريكية للسادات بأن هناك نار تحت الرماد و أن مصر على صفيح ساخن ، فقد أصرّ على أنه قادر على ضبط الأمور و إبقائها تحت السيطرة ، و بالفعل قامت الحكومة فى يناير 77 برفع أسعار أكثر من 25 سلعة أساسية بداية من الخبز حتى البنزين مرورا بالسجائر .
و على عكس توقعاته ثارت قلعة الصناعة فى حلوان بمجرد انتشار خبر رفع الدعم، و كانت أول المعترضين ، فعند انصراف وردية المساء من عمال حرير حلوان والحديد والصلب إلتقوا بزملائهم عمال وردية الصباح ليبلغوهم أخبار رفع الأسعار ، ليخرجوا جميعا إلى الشارع معلنين رفضهم لتلك القرارات التى تعنى لهم مزيدا من الجوع . و على الجانب الآخر من القاهرة خرج عمال النسيج بشبرا الخيمة .
واستجابت كلية هندسة عين شمس للنداء و تبعهم عمال الترسانة البحرية فى الأسكندرية و بعد قليل ترددت الهتافات فى مدن عدة و تحولت المظاهرات إلى عمليات تخريب و نهب خاصة للملاهى الليلية فى شارع الهرم ، كما تمت مهاجمة بعض أقسام الشرطة بما فيها مديرية أمن القاهرة و قطعت المواصلات و تم حرق بعض السيارات.
فى اليوم التالى ازدادت المظاهرات حدة و انتشرت فى كل الجمهورية ، حتى قيل أن السادات كان فى استراحته باسوان يجرى حديثا صحفيا مع مراسلة أجنبية عندما لاحظ دخانا كثيفا فسأل ماهذا ؟ فأجابته المراسلة إنها ربما كانت مظاهرات القاهرة قد وصلت إلى اسوان ، فأجابها متسائلا : مظاهرات ؟ ، وواضح من التساؤل أن هذا كان خارج مخيلته تماما ، فلم يكن يتخيل أن يكون جزاء انتصاره هو تلك الفوضى ، و لم يطرح على نفسه سؤالا عن أخطائه و لكن بحث – هو و أركان حكمه – عن شماعة يعلقون فشلهم عليها ، فصدرت الصحف المصرية الحكومية تحمل عنوانا واحدا عن اكتشاف ( مؤامرة شيوعية لقلب نظام الحكم ) برغم أن قوى اليسار نفسها فوجئت برد فعل الجماهير و اعترفت بأنها حركة عفوية من جماهير طحنها الغلاء . و أنهم تنبهوا لتلك الهبة و حاولوا المشاركة فيها و لكن حركة الجماهير كانت أسرع .
و على الفور تحركت أجهزة الدولة لتلقى القبض على آلاف من المحامين و الفنانين و الطلاب و الكتاب و الصحفيين بتهمة المشاركة فى أحداث الشغب أو الانتماء الى تنظيم شيوعى ، و تم تحديد 4 تنظيمات مختلفة . الغريب فى الأمر أنه لم يتم القبض على أيا من التنظيمات الدينية التى أحياها السادات لمواجهة الحركة الطلابية ، و أطلق يدها فى الجامعة و فى النقابات برغم أن المظاهرات تضمنت شعارات دينية واضحة و غريبة على التنظيمات اليسارية تماما مثل : لا اله الا الله .. السادات عدو الله .. يا حاكمنا فى عابدين .. فين الحق و فين الدين ، بينما شعارات العمال و الطلاب كانت واضحة و لا تخلط بين الحقوق الاجتماعية و الدين ، فكانت الهتافات الأساسية والمتكررة هى : سيد مرعى يا سيد بيه ( رئيس مجلس الشعب و أحد أكابر الرأسمالية المصرية و صهر السادات ) كيلو اللحمة بقى بجنيه .. هو بيلبس آخر موضه .. و احنا نعيش عشرة فى أوضه .
انتهت الانتفاضة سريعا بمجرد الإعلان عن التراجع عن رفع الأسعار و نزول الجيش ( لأول مرة بعد ثورة يوليو ) لتنفيذ حظرا للتجول . و لكن ظلت تلك الانتفاضة غصة فى قلب السادات و كلما تذكرها ثار ، و أطلق أوصافا غير لائقة على صانعيها ، و كعادة أى بطل تراجيدى أعماه القدر عن تجنب السقوط ، فقد استمر السادات فى ارتكاب الأخطاء ، فقام بخطوة الصلح المنفرد مع العدو الإسرائيلى معتقدا أنه بهذا سيحقق نصرا خارجيا يعوضه عن فشل الداخل ، و لكنه كان فشلا جديدا بسبب شروط كامب ديفيد المجحفة – و التى استقال بسببها اثنان من وزراء الخارجية المصرية – كما أطلق السادات العنان للجماعات الدينية حتى اغتالته فى 1981 ليحقق مصيره كبطل تراجيدى ، بدأ حكمه بتمثيلية هدم المعتقلات و إطلاق الحريات ، و أنهى حكمه و كل السياسيين من كل التيارات فى سجونه.