أحب (صلاح منصور) أن يطمئن على مصر، فأغضب (حسين كمال) وخرج المشهد صادقا
* اشتغل صحفي فني في مجلة روزاليوسف) وكان أول حوار له مع أسمهان
* كان أحد الكبار السبعة فى الإذاعة المصرية
* أخرج للمسرح (بين القصرين) لنجيب محفوظ، و(الفراشة) لرشاد رشدي
كتب : أحمد السماحي
نحيي هذه الأيام الذكرى الـ 43 لرحيل عملاق الفن المصري الفنان المدهش (صلاح منصور) الذي رحل عن حياتنا يوم 19 يناير عام 1979 بعد حياة شخصية مليئ بالمعاناة والمآسي، وتحمل لحظات خطيرة اقتربت به أحيانا من الموت من خلال أمراض متنوعة، وصبر على مجموعة من العلل في جسده، وبكبرياء الفنان والإنسان رفض أن يعلن عن ضعفه على الملأ، حتى يظل يعمل ولا يهرب منه المنتجين، لأنه كان فى حاجة إلى العائد المادي الذي يأتيه من عمله كممثل.
وظل يعاني كأب لمدة عشر سنوات بسبب ابنه الأصغر (هشام) الذي أصيب بضمور في أعضائه وعالجه بلا فائدة، كان يطير معه – كما ذكر الناقد عبدالغني دواد – كل عام لعلاج الصمم والتخلف لكنه توفى بعد إجراء عملية جراحية له فى لندن، فأصيب بصدمة عصبية أدت إلى مرضه، خاصة أنه كان ثاني ابن يموت له بعد استشهاد ابنه الأول أثناء حرب أكتوبر عام 1973، ورحل (صلاح منصور) بعد رحيل ابنه الثاني بثلاث سنوات.
فلاش باك
ولد (صلاح منصور) بالقاهرة عام 1923 وتلقى دراسته الثانوية في مدرسة (الخديوي اسماعيل) حيث أحب التمثيل في هذه الفترة ومارسه مع زملائه الطلبة، ثم التحق بالعمل فى التربية المسرحية في عام 1938 بوزارة المعارف وتحول إلى الصحافة ليعمل محررا فنيا بمجلة (روزاليوسف) عام 1940 وكان أول حديث يجريه فى المجلة مع الفنانة (أسمهان) !.
وفى تلك الفترة التقى بأستاذه الفنان (زكي طليمات) الذي أشاد بموهبته وشجعه على الالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية الذي تخرج منه عام 1947 ، وظل حتى آخر يوم فى حياته يحمل مشاعر الوفاء والاحترام للفنان (زكي طليمات) ويجلس أمامه مجلس التلميذ من أستاذه.
ألف ليلة وليلة
بدأ حياته الفنية في السينما قبل تخرجه إذ عمل مع الرائدة السينمائية (بهيجة حافظ) في فيلم (زهرة) عام 1946، وفي عام 1947 شارك بدور شرير ظريف في فيلم (عبيد الدهب) إنتاج وبطولة المطربة (ملك)، لكن لظروف إنتاجية لم يخرج الفيلم للنور، وفى هذه الفترة عمل في الإذاعة المصرية وصنع مجده الإذاعي فيها حيث قدم مئات من الأعمال الخالدة التى لا تنسى في مسلسلات وأوبريتات وصور غنائية، نذكر منها دور (قاسم) في برنامج (علي بابا والأربعين حرامي)، وشخصية (ضبوش العكر) في الصورة الغنائية (عوف الأصيل)، ودور (محمد الخياط) في برنامج (قسم)، و(الأمير زياد) في أوبريت (رابعة شهيدة الحب الإلهي)، وأوبريت (عزيزة ويونس)، كما شارك في المسلسل الشهير (ألف ليلة وليلة) لمحمد محمود شعبان، هذا غير عشرات المسرحيات العالمية التى قدمها في البرنامج الثقافي.
حبيب الروح
نجاحه الكبير في الإذاعة والذي جعله واحدا من السبعة الكبار في الإذاعة المصرية، شجع كثير من المنتجين والمخرجين للتعاقد معه للتمثيل في السينما فظهر فى العديد من الأدوار الصغيرة التى كان يغلب عليها الشر فشارك فى (شاطئ الغرام، المليونير، حبيب الروح، بداية ونهاية، مع الذكريات، لن أعترف، الشيطان الصغير) وغيرها من الأفلام التى كان دوره فيها لا يتجاوز دقائق معدودة.
علامات بارزة
أتاحت عشرات الأدوار الصغيرة والثانية لـ (صلاح منصور) أن يبرز جانبا من موهبته بقوة حضورة وصوته الواضح النبرات الذي يتميز بالصفاء والعمق مما يجعله قريبا من الأذن، بالإضافة إلى تكوينه الجسماني الذي وظفه في تقمص الشخصيات المختلفة التى يقوم بأدائها، حيث كان بارعا في تقديم أدوار الفئات البسيطة والشعبية، فهو أشهر عمدة عرفته السينما المصرية من خلال فيلمه الشهير (الزوجة الثانية)، والزوج الشهواني في (المستحيل)، والأب مزدوج الشخصية في (البوسطجي)، الإمام أحمد في (ثورة اليمن)، الضابط المغلوب على أمره في (ثمن الخوف) وغيرها من الأفلام.
الإخراج المسرحي
فضلا على قيامه ببطولة عشرات المسلسلات التليفزيونية التى بدأها مع بداية الإرسال التليفزيوني في مصر أشهرها (الضباب، وعلى هامش السيرة، الحب الأخير)، ولم يقتصر عطائه على السينما والتليفزيون لكنه شارك في عشرات المسرحيات التى لم يكتف فيها بالتمثيل فقط، ولكنه مارس الإخراج المسرحي أيضا وقدم أكثر من تجربة مسرحية مثل (بين القصرين) لنجيب محفوظ، و(الفراشة) لرشاد رشدي.
حسين كمال يغضبه
كان المخرج الكبير (حسين كمال) عاشقا لموهبة (صلاح منصور) لهذا استعان به في بعض أفلامه الأولى، وأطلق العنان لموهبته التى مسها مسا رقيقا في فيلم (المستحيل)، لتصبح في (البوسطجي) هادرة كاسحة كالشلال، وليجعل منه بعد ذلك واحدا من أقطاب الممثلين المساعدين فى تاريخ السينما المصرية.
ولقد أسعدني الحظ بإجراء أكثر من حوار مع المخرج الكبير (حسين كمال) أحداهما نشر على صفحة ونصف في جريدة (الحياة اللندنية) وأثار جدلا كبيرا وقتها، وفي أحد الحوارت ذكر لي مخرجنا الكبير هذه القصة: كنا نصور فيلم (البوسطجي) عام 1967 فى إحدى قرى الصعيد في شهر مايو ودخل علينا شهر يونيو، وبدأت الأخبار تتوالى من الإذاعة المصرية عن حربنا مع إسرائيل وكنا نصور المشهد الأخير في الفيلم الذي يحمل فيه الأب (سلامه / صلاح منصور) ابنته (جميلة / زيزي مصطفى) على يديه بعد أن قتلها!
وفجأة وجدت (صلاح منصور) يضع تحت الجلباب الذي يرتديه راديو صغير ترانزيستور، حتى يطمئن على أخبار الحرب بين مصر وإسرائيل، وفجأة لمحت الراديو، ورغم أن المشهد صامت لا يتحدث فيه، إلا أنني أوقفت التصوير، وذهبت إليه وأنا غاضب جدا ووضعت يدي في صدره وأخرجت (الراديو الصغير) ورميته في الأرض وكسرته برجلي.. (مش كسرته دشدشته)، وقلت له بعلو صوتي وأمام فريق العمل وبعض أهل القرية التى نصور فيها: (اتفضل يا أستاذ إحنا بنشتغل والموقف في الفيلم لا يحتمل ومش وقت سياسة ولا حروب!).
وفجأة وجدت (وش صلاح منصور) تغير وغضب بقوة والدموع بدأت تنزل في صمت، فقبضت على هذه اللحظة وقلت بعلو صوتي: دور، هنصور وذهبت إليه وهو صامت، مسحت دموعه بيدي لأن عيب الرجل الصعيدي يبكي، وصورنا المشهد فجاء عالميا، وأشاد بأدائه أكثر من نجم مصري وعالمي.
رحم الله الموهبة الطاغية (صلاح منصور) صاحب الأدوار والشخصيات المحفورة كالوشم في أذاهننا وأبصارنا والتى تحتاج موضوعات وموضوعات حتى توفي حقه.