كتب : محمد حبوشة
فطر الإنسان على احترام والديه وتقديرهما والعناية بهما، وجاء القرآن الكريم الذي عني بإتمام مكارم الأخلاق ليركز على هذه القيم فأمر المسلم بتقدير والديه وطاعتهما، حتى لو كانا غير مسلمين، ونهى عن عقوق الوالدين وأمر ببرهما ووصلهما، لكن المشاهد للواقع المحلي ينفطر قلبه جراء ما يشاهده بعينيه من تفشي مظاهر العقوق في المجتمع بصورة ملحوظة، فبالأمس القريب شاهدنا صورة من هذا من العقوق ممثلة في الفنان الكبير (رشوان توفيق) وزميلته الفنانة القديرة (شريفة ماهر)، وكانا لهما أثرا بالغا في التعاطف من جانب المجتمع كله، لكن الدراما الاجتماعية حكاية (تاج راسنا بابا) ضمن سلسلة (نصيبي وقسمتك 4) تترجم هذه التراجيديا بمشاعر إنسانية غاية في الروعة على مستوى القصة التي كتبها (عمرو محمود ياسين) بقلمه الرشيق.
كتب (عمرو محمود ياسين) الحكاية في خمس حلقات بمداد من الحب والشفقة على جناح التراجيديا بالغة الأثر وبكاميرا المخرج (محمد الخبيرى) استطاع فريق التمثيل عبر أداء بارع لكل من (صلاح عبد الله، منة فضالي، أحمد رفعت، إسلام جمال، بسمة داوود ، تامر يسري، منة بدر تيسير، إسراء أحمد، وظهور خاص لبرسوم جميل)، بدعم قوي من المنتج الشاب أحمد عبد العاطي، أن يؤكدون على عبارة جميلة للخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، قال فيها: (الهداية من الله والتربية من الآباء) ونحن الآن في زمان فتن وزمان قل فيه الاحترام والتقدير، وعندما أوصى الله الأبناء بالآباء خيراً فإن ذلك كان لعلمه أنهم قد يتجاهلون آباءهم، أما الآباء فإن فطرة الرحمة موجودة في قلوبهم.
ولقد أكد الفنان القدير (صلاح عبد الله) بأدئه العذب على أن الأب لايمكن أن يتمنى الأذي لأبنانه حتى ولو كانوا قد أساءوا له من خلال شخصية (مجيد النعمان) الأب الذي أخلص لمهنة التعليم وعلم أجيالا كثيرة، لكنه فشل – على حد تعبيره – في تربية أبنائه الذين عاملوه بالقسوة وارتكبوا في حقه جرائم بشعة لاتوزي حجم عطائه وتفانيه، ولا شك أن عقوق الوالدين من أعظم الذنوب عند الله، وكثير من الناس يظنون أن عقوق الوالدين هو الضرب والصراخ عليهما ورميهما في ملجئ أو في دار العجزة أو مصحة نفسية، كما جاء في حكاية (تاج راسنا بابا) ونحو ذلك من الصور التي تذكر في بعض وسائل الإعلام وتذكر في القصص، وهذا التصور وإن كان صحيحا في جزئية منه إلا أن صور العقوق كثيرة ومتعددة، فمجرد أن يقول الابن لوالده (أف) أو يبدي تضجره فهذا من أنواع العقوق التي نهى عنها الله تعالى بقوله: (فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما) و(أف) هى أقل درجات الانزعاج وإظهار الضجر، كما جاء على لسان (هاجر الشيمي/ منة فضالي) زوجة الابن الأكبر (طارق/ أحمد رفعت)، فقد يأمر الأب (مجيد) ابنه بشيء فيغير الابن نبرة كلامه ويظهر انزعاجه مما أمره به والده فتكون (أف) أو نحوها من تغيير نبرة الصوت أو رفعه أو عبوس الوجه الذي يدل على عدم رضاء الابن وزوجته برأي أبيه وغيره من الطرق التي مآلها إلى هذا المعنى الذي ذكره الله جل وعلا في كتابه العزيز واعتبره من المحرمات وهو من صور العقوق والعياذ بالله.
وبطريقة سلسلة للغاية رغم تحمله مرارة العقوق بشكل ميلودرامي شاهدت حكاية (تاج راسنا بابا) بقدر من الشجن والترحم على الأبوة التي ضاعت في زماننا المادي الردئ إلى درجة أن يشرع الابن في الموافقة على تحطيم معنويات الأب ومساومته على أرثه في حياته، غير مدرك أن العقوق من أكبر الكبائر في الإسلام واعتبره الشرع من السبع الموبقات، وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله علية وسلم قال (لا يدخل الجنة قاطع) وأعلى درجات قطيعة الرحم هي قطيعة الوالدين، لأن البعض قد يهجر والديه أو تكون العلاقة بينهما فيها نوع من الهجر بين الأب وابنه، لاسيما إن كانت بينهم قضية مالية أو أن الأب لم يعدل مع الأبناء فيأتي الابن فيعق والده أو يهجره أو لا يكلمه، وقد تصل الأمور بينهما إلى المحاكم، كل هذا من صور العقوق، وبعض الناس يقول والدي ظلمني.
وحتى لو حدث ذلك فإنه لا يعني أحقية الابن بأن يعاقب والده على ما قام به من الأعمال فهذا بينه وبين الله جل وعلا، فيجب على الشاب أن يظهر لأبويه الإحسان والبر مهما فعلا به، حتى لو أمراه بمعصية الله جل وعلا وترك طاعة الرحمن، ولو وصل الأمر إلى أن أمره بالكفر والشرك بالله، قال تعالى: (وإن جاهداك على أن تشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما وصاحبهما في الدنيا معروفا)، ويبدو لي أن (عمرو محمود ياسين) قد عالج الحكاية التي اعتمد فيها على روح النص القرآني بذكاء كبير في سرد شجي وبحبكة درامية لاقت نجاحا كبيرا طوال فترة عرض الحكاية التي تلخص كثيرا من المآسي الإنسانية التي نعيشها حاليا، ولعلها تطفح على سطح الأحداث كما هو موجود في صفحات الحوادث أو عبر الشاشات البغيضة التي تطرح عشرات من الحالات اليومية المنفرة.
لايدرك كثير من الأبناء أن دعاء الآباء للأبناء من أهم أسباب صلاحهم وقد أمرنا الشرع في مثل هذه الحالات بالالتجاء إلى الله في إصلاح الأبناء لأن الإنسان قد يتعب في تربية ابنه ويبذل جهد ورغم ذلك يكون مصيره الفشل والانحراف، قال تعالى: (والذين يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين واجعلنا للمتقين إماما)، والمتأمل في أحوال الأبناء مع آبائهم في وقتنا الحاضر يري عجبا وأصبح عقوق الأبناء للوالدين ظاهرة منتشرة بشكل كبير خاصة في مرحلة المراهقة حيث غاب في كثير من منازلنا احترام الأبناء للآباء وعدم إعارة اهتمام لغضبهما أو رضاهما ومع تدفق الثقافات والعادات الوافدة ازدادت معاناة الآباء من ظاهرة التمرد التي تعني الرفض والعصيان وعدم الالتزام بأوامر الآباء، والتمرد في أوساط الأبناء وخاصة المراهقين منهم مسالة خطيرة على الفرد نفسه وعلى الأسرة والمجتمع.
وتبدأ شرارة التمرد في البيئة الأسرية أولا، وذلك برفض أوامر الوالدين وعدم الانصياع لهما، فمن الأبناء من يسيء الأدب مع والديه إما بالتصرف الخاطئ أو النظرة الحادة أو العقوق الظاهر والبعض يهجر والديه بالكلام والبعد عنهم، وهناك أبناء يصرخون في وجوه آبائهم، وهناك من يضرب والديه، بل وصل الأمر إلى أقصى درجات العقوق وذلك بأن يقتل الابن أباه أو أمه مبررا ذلك بحرمانه من حقوقه الشرعية متناسيا أن الأب أو الأم حر فيما يملك طالما كان موجودا على وجه الحياة، وهو ما كاد يقبل عليه (طارق/ أحمد رفعت) و(سيادة/ بسمة داوود) بعد الوقوع في شرك تدبير شيطاني من جانب (هاجر الشامي/ منة فضالي) التي راحت تدبر وتخطط في حقد وضغينة لإهلاك صحة والد زوجها حتى يتسنى لهم الحجر عليه وبيع أرض المدرسة التي كان ينوى (مجيد النعماني) التبرع بها بعد وفاته للدولة.
ربما كانت هنالك أسباب كثيرة في سلوك الأب (مجيد النعماني) منها أسلوب التربية الخاطئ منذ الطفولة، والشدة المتناهية على الأبناء أو الدلال الزائد، للابنة الصغرى (مريضة القلب) والتسلط في التعامل مع الأبناء الكبار ومصادرة آرائهم وإرادتهم والتشديد عليهم، ومنها كذلك غياب الحوار الأسري بين الآباء والأبناء، وعدم التركيز على معرفة أصدقاء الأبناء ورفقائهم الذين يكون لهم دور كبير في تشكيل فكر الأبناء مما ينعكس على أخلاقهم وتصرفاتهم، وكذلك كثرة نشوب المشاكل التي أدت بالضرورة إلى التفكك الأسري بسبب الاختيار السيئ للابن (طارق) لزوجته (هاجر) ولا ننسى أثر ذلك من جانب المسلسلات الأجنبية والفضائيات التي لها دور كبير في انتشار ظاهرة العقوق وزرع بذور التمرد في الأبناء تحت عنوان (الحرية الجديدة) وتغير مفاهيم التربية في هذا العصر.
أستطيع القول بأن حكاية (تاج راسنا بابا) قد لخصت واحدة من أعقد مشكلاتنا الحالية بالتركيز على الجوانب التراجيدية الناجمة عن عقوق الأبناء لأبيهم رجل التربية والتعليم (مجيد النعماني)، لكن الفارق في هذه الحكاية هو الأداء من جانب الفنان الكبير صلاح عبد الله في تقمصه لشخصية الأب بمشاعر فياضة، ظهرت في تعبيرات وجهه عشرات المرات وخصوصا عيناه اللتين لم تتمكنا من إخفاء نظرة الحزن والأسى من خلف (نظارته الطبية) ولغة جسده التي عبرت عن المشاعر الداخلية بحرفية عالية، ولا أخفي إعجابي الشديد بأداء منة فضالي التي لعبت دور (هاجر الشيمي) بطريقة لم ألحظها عليها من قبل، فقد كانت الشرر يتطاير من عينيها بشكل يصيبك بالصدمة والكره إلى حد التقزز من حالة الجشع التي كانت تعتريها، ما يثبت نضجها وتفوقها في التجسيد الدرامي على نحو مغاير.
كذلك حال مع (أحمد رفعت) في هدوئه وصمته الطويل في انحياز أعمى على جناح العاطفة التي يحملها بين جوانحه لهاجر، حتى أفاق على صدمة خيانته لها مع صديقه الممثل (حسام/ تامر يسري) بطل فيلمه الجديد، وقد بدا لي (رفعت) موفقا في أدائه حتى (مشهد ما قبل النهاية)، حيث أخفق في إظهار مشاعره تجاه والده لأن بكائه جاء مصطنعا لايعبر عن الحالة، وعلى أية حال أعجبني أداء (إسلام جمال) بلغة عيون حساسة جدا في إبراز صورة الحقد والتخطيط للشر الذي يجاري فيه شقيقة (هاجر) بطريقة غاية في الروعة والجبروت، خاصة في مشاهده مع زوجته (سيادة/ بسمة داوود) في التأرجح بين العنف والعاطفة المزيفة في سبيل الاستيلاء على أموال أبيها (النعماني)، بينما جاء أداء كل من (بسمة داوود منة، بدر تيسير، إسراء أحمد) ناعما يتأرجح بين الدفء والرومانسية والبراءة.
هنالك أكثر من مشهد (ماستر سين) في ثنايا الحلقات الخمس، لكني أتوقف أمام مشهد اجترار الحزن والأسى جراء عقوق الأبناء بين (مجيد النعماني/ صلاح عبد الله) وصديق عمره (يوسف أرمانيوس)، والذي أفضي في النهاية إلى موت الأخير متأثرا بجراح صديقه، حيث جاء على النحو التالي:
يدخل (يوسف) على (مجيد) مروعا على أثر محاولات من الشغالة الجديدة له قائلا في لهفة مناديا : مجيد .. مجيد انته فين؟!
مجيد : يوووسف .. تعالى يا يوسف.
يوسف : مجيد البت الجديدة اللي انتوا جايبنها دي ماكنتش عاوزه تدخلني .. أنا دخلت غصب عنها .. فيه ايه ؟!
مجيد : ولادي .. ولادي يا يوسف .. العصابة اللي متجوزين منهم مضيقين عليا أوي .. مش مخليني أتكلم مع حد ولا حد بيكلمني .. ولادي .. وكمان لعبوا في التليفون بتاعي بوظوه .. لا باتصل بحد ولاحد بيتصل بيا .. ولادي عاوزين يموتوني .. عاوزين يخلصوا مني.
يوسف : اهدى .. اهدى بس .. أمال فين حالة الحب والحنية اللي كنت بتقولي عليها ؟!
مجيد : بيكدبوا علشان عاوزيني أسيب لهم المدرسة .. بيكدبوا .. كل مشاعرهم طلعت مزيفة .. مغشوشة مش حقيقية .. كل ده علشان مصالحهم وأطماعهم .. أنا حاعمل ايه بس يا خويا .. أنا خلاص باتمنى اني أموت .. ما باشفوفش في عيون ولادي غير الجشع والغش والخداع .. دول اتوحشو قوي يايوسف .. أنا معرفتش أربي ولادي.
يوسف : بس يا مجيد .. بس.
مجيد : والله نفسي أموت واستريح .. يارب .. يارب.
يوسف : بس .. بس .. هدي نفسك .. ربنا موجود .. بس بقى خلاص ياحبيبي.
مجيد : ربنا بعتك ليا علشان تصبرني.
لحظات مرت كطيف عابر حيث يموت يوسف فجأة على كتف صديقه مجيد متأثرا بجراح عقوق أبنائه.
يشعر مجيد بثقل على كتفه غير مرك موت يوسف قائلا : انت قابلت حد منهم بره .. انتى ايه روحت مني فين .. انت نمت ولا ايه .. يوسف .. يوسف .. يوسف .. ايه ده .. يوسف .. يوسف يا خويا يا حبيبي .. ايه : ردي عليا .. رد عليا يا يوسف .. رد .. يوسف .. لا .. لا والنبي .. يوسف مش انتا .. بلاش انتا .. دا أنا اللي عايز أموت .. أنا اللي عايز أموت يا يوسف .. لا .. لا والنبي .. رد عليا يا يوسف .. يوسف مش حأقدر أعيش من غيرك يا يوسف .. لا .. لا .. يوسف مااااااااات !!.
عندئذا ينتهي المشهد مخلفا مصيرا غامضا لمجيد الذي يدفع به أبنائه في مصحة نفسية يكتشف على أثرها (طارق) خديعة زوجته (هاجر) بدس عقاقير الهلوسة في طعام فينتفض لإصلاح ما أفسدته ويذهب للبكاء بين يدي والده.