بقلم الدكتور : ثروت الخرباوي
(يا لحُمرة الخجل).. قلت هذه العبارة ذات يوم، وقد اقتبستها من كاتب لا أتذكر اسمه الآن، المهم أنني عندما اقتبستها كان يجلس معي ثلاثة أصدقاء، الأول لا يسمع، والثاني لا يرى، والثالث سيناريست كبير، فقال الأول الذي لا يسمع: لم أسمع من عبارتك إلا حرف النداء يا ، فمن كنت تنادي؟، وقال الذي لا يرى: سمعت كلمة حُمرة وهي مستمدة من اللون الأحمر، فما هو اللون الأحمر؟، وقال المؤلف السيناريست: سمعت كلمة خجل فما هو الخجل؟.
يا حرف نداء: يا أيها السادة أعترف أنني أخطأت في المقال السابق عندما خلطت بين فيلمي (طائر الليل الحزين، والدنيا على جناح يمامة) للمرحوم طيب الذكر وحيد حامد، فوضعت اليمامة بدلا من الطائر، وعذري في ذلك أنهما طائران، فسامحوني بالله عليكم.
يا حرف نداء: يا أيها السادة، انتهيت إلى أننا معظم أصحاب الصنعة يسرقون أو يقتبسون من أصحاب الصنعة في بلاد الفرنجة، إذ أن قريحة وخيال الفرنجة أوسع من خيال وقريحة العرب، ولذلك سأقتبس لكم عبارة قيلت في فيلم أمريكي لا أتذكر اسمه هى: (الخيال أوسع من المعرفة، فالمعرفة لها حدود والخيال ليس له حدود)، وسأضيف لها من عندي: (ولكن خيال العرب محدود لذلك يعجزون عن إنتاج المعرفة رغم أنهم أصحاب نافورة الخيال : ألف ليلة وليلة)، وكنا نتحدث عن صديقي المرحوم وحيد حامد واقتباساته، أو وسرقاته.. رحمه الله، ولا يظنن أحدكم أنني أخرجت هذا الرجل من قبره لأحاكمه – حاشا وكلا – ولكن طالما أن أفلامه أصبحت ملكا لنا، نشاهدها ونستمتع بها ونتعلم منها، لذلك فمن حقنا أن نحاكم تلك الأفلام.
يا حرف نداء: (يا نخلي عيشتكوا هباب) هذه هي النصف الثاني من عبارة (الكباب الكباب) وهو النداء الذي سمعناه وحفظناه وضحكنا منه وعليه في فيلم (الإرهاب والكباب) وكتب النقاد، وأشاد المادحون، وتم توزيع الجوائز، وعندما تمر علينا حادثة من حوادث الإرهاب تجدنا نقول: رحم الله وحيد حامد، هل تتذكرون فيلمه (الإرهاب والكباب)؟ وكيف أن الشرطة عجزت عن مواجهة رجل أعزل لا يملك سلاحا ولا غيره، وكيف أن رُكب الوزير ارتعشت وهو يستجيب لنداء الكباب، فرحنا كلنا لأننا كنا لا نحب الوزير، وكنا نريد أن نشمت في الشرطة، لماذا؟ كان هذا الفيلم عام 1992، وكانت السنوات الأولى من حكم مبارك قد مر منها إحدى عشر عاما، وكانت قبضة الشرطة قد أصبحت ثقيلة نوعا ما على أقفية المواطنين، وبدأ التبرم من التضييق واستمرار فرض حالة الطوارىء، وجاءت انتخابات 1990 لتنسحب كل الأحزاب السياسية من الانتخابات ما عدا حزب التجمع، فكان من الطبيعي أن تبدأ خطة جميلة محفوظة في كل الأنظمة اسمها (خطة التنفيس) فلنسخر في فيلم أو مسلسل من الشرطة ولنضحك عليهم، وليس هناك مانع من أن نقهقه بصوت مرتفع ونحن نرى وزير الداخلية، أو مساعد الوزير وكبار قيادات الشرطة وهم في (حيص بيص) أمام ولد غلبان لا حيلة له ولا قوة، هذا الولد الغلبان هو أنا وأنت وكل ولد ضاعت حقوقه في قسم شرطة، أو في أقبية أمن الدولة، فعندما يرى وزير داخلية مبارك بهذا الضعف نكون قد خففنا من الكبت الذي في داخله، فكان فيلم الإرهاب والكباب، وغيره من أفلام سارت على وتيرته.
حُمرة من اللون الأحمر: المهم هل كان لدى وحيد حامد خيال إنتاج فكرة يحقق بها مراد السياسة؟ طبعا لأ ، لذلك لجأ إلى الاقتباس، أو قل السرقة ثم التمصير، فأخذ سيناريو الفيلم الأمريكي (Dog Day Afternoon – يوم حار جدا)، واليوم الحار جدا، أو القائظ تشتد فيه الحرارة فتحمر الوجوه، وقد احمرت وجوه الأمريكان انفعالا مع هذا الفيلم الذي قام بتأليفه وإعداد السيناريو له الكاتب الأمريكي الأشهر (فرانك رومر بيرسون) المتوفى في عام 2012 والذي نال جائزة الأوسكار عن هذا الفيلم ، والعديد من الجوائز الأخرى عن أعمال أخرى، وكان يعتبر من رموز السينما الأمريكية، واشترك معه في إعداد السيناريو الكاتب الأمريكي (ليزلي والر) وهو مؤلف كبير حاصل على الماجستير في الأداب من جامعة كولومبيا، ومن أشهر كُتاب روايات الخيال في أمريكا، وله العديد من القصص المصورة الشهيرة جدا، وقد توفاه الله عام 2007.
المهم أيها السادة أن كاتبنا وحيد حامد لجأ إلى سيناريو فيلم (عصر يوم حار جدا) وكان هذا الفيلم قد حاز شهرة واسعة على مستوى العالم إذ أنه كان قد نال جائزة الأوسكار، فأخذه وأحدث به بعض تغييرات حتى ينطبق على الواقع المصري، فقد كان البطل الأمريكي الممثل (آل باتشينو) الذي يقابله في الإرهاب والكباب الفنان (عادل إمام) دخل البطل الأمريكي بنكا، ودخل البطل المصري مجمع التحرير ليكون للفيلم مذاقا متعلقا بالبيروقراطية على حسب أن هذا المجمع كان يحتوي على كثير من المؤسسات والهيئات الحكومية، وإدارات الجوازات، وووثائق السفر والهجرة وما إلى ذلك، من تلك الإدارات التي تقابلك فيها البيروقراطية وجها لوجه فيحمر وجهك من الغضب.
ويسير الفيلمان بشكل متوازي نوعا ما، مع اختلاف سبب دخول (آل باتشينو) للبنك، مع سبب دخول عادل إمام لمجمع التحرير، فآل باتشينوا يريد قرضا لينفقه على عملية جراحية لتحويل (جنس) لصديقه، وهو أمر يتفق مع مفاهيم المجتمع الأمريكي، في حين أن عادل إمام كان يريد أن ينقل أولاده لمدرسة قريبة من بيته.
في الفيلم الأمريكي تقف الشرطة عاجزة، وكذلك في الفيلم المصري، في الفيلمين سنجد مواطنا ضعيفا مثل كل المواطنين الضعفاء، يعاني في حياته، وتقف ضده سلطة غاشمة قوية لا تهتم بقيمة الفرد، الفيلم الأمريكي اعتبره النقاد هناك أنه من الأفلام المعادية للنظام الأمريكي، وجبروت هذا النظام وسيطرته على أفراده، لكننا في الفيلم المصري اكتفى النقاد بالإشادة بالفيلم وبتمثيل عادل إمام وإخراج شريف عرفة، ولم يتطرق النقاد وقتها للجانب السياسي، إذ أن المطلوب هو الفيلم فقط لكي يكون تنفيسا لنا جميعا، وليس من المطلوب كشف غطاء الحلة وإلا لاحمرت وجوهنا من البخار الحار المتصاعد منها.
في الفيلم الأمريكي تعاطف الجمهور والرهائن مع المختطف آل باتشينو، وهتفوا نداء شهيرا هو (أتيكا أتيكا) وأتيكا هذه هي سجن أمريكي في أمريكا، ثار السجناء في هذا السجن واستولوا عليه، وحدثت مواجهات أمنية بينهم وبين الشرطة والجيش مات على أثرها كثيرون، وسبب هذه الثورة في السجن أنه وصل إليهم أن سجينا بأحد السجون بكاليفورنيا اسمه (جورج جاكسون)، وهو كاتب شيوعي أحمر من أصول أفريقية قد تم قتله، ومع الظروف السيئة للمساجين في سجن (أتيكا) قامت ثورتهم وسيطروا على السجن، ووقع قتلى واحمرت أرض السجن من الدماء الحمراء.
من وقتها أصبح نداء (أتيكا أتيكا) مرتبطا بالحرية، يصيح به المتظاهرون وهم يسيرون في مظاهراتهم، لذلك استخدمه الكاتب الأمريكي (فرانك بيرسون) في الفيلم وجعله نداء المتعاطفين مع الخاطف آل باتشينو، وهو نداء نفهم نحن منه أن المجتمع الأمريكي رغم مظاهر الحرية التي تتشدق بها أنظمته الحاكمة، وحزبيه (الجمهوري والديمقراطي) إلا أن الناس هناك يفتقدون للحرية الحقيقية، فكل حركة لهم مكبلة ومقيدة بنظام لا يمكن أن يفلت منه أحد، كل واحد فيهم يجب أن يكون رقما في منظومة عددية متكاملة، من ظن أن المجتمع الأمريكي تخلص من (العبودية) فهو واهم، لازال الأمريكان عبيدا، والسادة الكبار هى الشركات العملاقة، وكل من يعمل فيها هو أحد العبيد الجدد.
الخجل كلمة لا يعرفها المقتبسون: وحيد حامد عندما اقتبس فيلم (عصر يوم حار جدا) اقتبسه دون حياء، وقام بتمصيره دون خجل، فلا حياء في العلم والدين، ولا خجل في السينما، المهم أن وحيد حامد كان يريد أن يغير من
هتاف (اتيكا أتيكا)، فطالما أن الأمر هو اقتباس فلك أن تغير وتُمصِّر وتضع بصمتك، إذ لا يمكن أن يجعل وحيد حامد المتعاطفين مع الخاطف يهتفون معه مثلا عن (يا رئيس الجمهورية إحنا زهقنا من الحرامية) أو (فينك فينك يا عدالة، إحنا فـ ظلم يا رجالة) أو أي هتاف آخر يعبر عن الذي يعانيه المواطن بشكل حقيقي، ولكن لأن هذا ليس هو المطلوب منه، لذلك أصبح النداء هو: (الكباب الكباب يا نخلي عيشتكوا هباب) فنضحك جميعا لأن المواطن المصري الغلبان ليست له أمنية غير الكباب، ويا حبذا لو أضفنا إليه السلطات، وخذ بالك، سَلَطات، وليس سُلطات، حتى لا يلتبس الأمر لدى بعضهم، المهم أنه كانت هذه سخرية كبيرة من المواطن المصري الضعيف، إذ كان يجب بعد أن يقوم المؤلف باستخدام وسيلة التنفيس، أن يستدير على المواطن ليرضي الجهاز الأمني، وهذه هي طريقة وحيد حامد التي سنكتب عنها ونحن نتناول معالجته لمسلسل الجماعة في الجزء الأول، حيث كان يتفنن في أن يمسك العصا من منتصفها ليُرضي الحكومة ـ لا الشعب ـ ويُرضي الإخوان في ذات الوقت، وخذ بالك من مسيرة وحيد حامد رحمه الله، فهو في زمن السادات كتب أفلاما ينتقد فيها نظام عبد الناصر الأمني مثل فيلمه (طائر الليل الحزين) الذي كتبنا عنه في مقال سابق، وفي بداية حكم مبارك كتب أفلاما ينتقد فيها الفساد في نظام السادات ، مثل فيلمه (الغول) الذي تكلمنا عنه أيضا سابقا، ويا لحمرة الخجل.
نحن الآن في نهاية هذا المقال الذي طال، لذلك يجب أن ننهيه على أن نعود لكم في المقال القادم لنكمل لكم تلك السلسلة.