(قريتي التى هزمت أهل الشر) !
بقلم : محمد شمروخ
)إنا لله وإنا إليه راجعون.. توفي إلى رحمه الله تعالى فلان الفلانى وسوف تشيع الجنازة الساعة كذا).
أرهفت السمع جيدا مع صوت الميكرفون في المسجد القريب من بيتنا في قريتى الرئيسية بمركز نجع حمادي في أثناء قضاء إجازة قصيرة في عمق الصعيد الجوانى، وراح المتحدث في الميكرفون يكرر إعلان الوفاة مرارا ليبلغ الخبر، لأستمع إلى الاسم جيدا فإذا بالذي سمعته صحيح، فالمتوفى هو احد أبناء القرية من المسيحيين الذين يسكنون في شارع قريب من المسجد القابع في قلب القرية.
وتنفست الصعداء مع تحقق اليقين عندى، بأن كل المحاولات التى بذلت وتبذل وستبذل لبث الفرقة ونشر الفتنة، قد تحطمت على صخرة التماسك الذي يميز قريتنا التى أثبتت فشل كل الدعايات السوداء المباشرة وغير المباشرة التى كانت تصب في آذان الناس لتتسرب إلى أفهامهم على مدى عقود من السنين.
وما جعلنى في حالة من الاعتزاز والحبور بقريتى، هو أن المسألة لم تكن فقط مسألة تقليد في القرية بإذاعة أنباء الوفيات، ولكن بقاء التناغم بين سكان القرية والذي وقف ضد ما كان يحاك ويدبر في الظلمات لإحداث الوقيعة بين المصريين في كل مكان بعد انتشار ما يدعى بأفكار السلفية التى لا أنكر أنها سيطرت على كثير من مظاهر الحياة في الشارع المصري بالقرى والمدن (حرام عليك أن تترحم على مسيحي مات ومحظور أن تقدم تهنئتك بأعياده) فتراهم عبر قنواتهم ومواقعهم ومنابرهم ينشرون ثقافة الكراهية، متجاهلين الأمر الصريح المباشر الوارد في القرآن الكريم للمسلمين في كل زمان ومكان والوارد في الآية الكريمة رقم ٨ من سورة الممتحنة (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ)
هل فكرنا في معانى البر والقسط؟!
البر يا سادة لا يخفى عليكم أنه في أبسط معانيه، من أعلى درجات العمل الحسن، وأن القسط هو العدل والرحمة.
إن أحدا لم يتدخل لدفع الناطق بذلك الإعلان أن يقول ما قال بأي صيغة، ولم يكن هناك أي اعتراض عليه سابق أو لاحق حتى ولو من بعض الذين تظهر عليهم علامات التشدد، فالإرادة والضمير الجمعيين في القرية، تقبلا مثل هذا الأمر الذي يتكرر بصورة أو بأخرى في مواقف طريفة تخرج بمنتهى التلقائية، فأذكر على سبيل المثال، أنه في عزاء والدة صديق مسيحي بإحدى قرى محافظة المنيا، وكان يمتاز بخفة الظل، قام ليضع في جهاز الكاسيت الكبير الذي كان يبث ترانيم مسيحية، شريط قرآن للشيخ مصطفى إسماعيل ثم نظر إلى الحاضرين مبتسما وهو يقول: (كل الموجودين تقريبا مسلمين وحقهم يسمعوا الشيخ مصطفى إسماعيل)!
ولا ننسى مقرئ شبرا الشاب الذي ذهب لتقديم العزاء لأسرة مسيحية من جيرانه فتقدم إلى الميكرفون ليقرأ آيات من سورة مريم وسط قبول وترحيب من الجميع.
وسائق الميكروباص الذي خاطب جارته المسلمة وهو يقوم بتوصيلها إلى المستشفى حيث كان يعالج ابنها، فإذا ببقية الركاب يضجون بالضحك عندما وجه السائق الطيب حديثه للسيدة ليخبرها بأنه استيقظ في الفجر مخصوص ليطلب من العذراء مريم أن تشفى ابنها ويدعو له ساعة انطلاق أذان الفجر، أن يعود سالما لبيته بحق جاه النبي!
ففي واقع الشارع المصري في القرية أو المدينة، هناك قصص لا حصر لها تتحدى المحاولات المستميتة لنشر ثقافة الفتنة من جهات عديدة وتحطمها على صخرة التماسك الراسخ الجذور في تربة وادي النيل.
أعلم أن هذا الكلام سيغضب الكثيرين من (أهل الشر) الذين يعرفون أنفسهم وهم ليس شرطا أن يكونوا من بعض السلفيين أو الإخوان وحدهم، فهنالك أيضا من مدعى المدنية والعلمانية من يغضبهم هذا التمازج الذي لا يمكن أن اصفه بالعجيب، بل هو التمازج الطبيعي الذي لم أجد في قريتى سواه.
إن ما حمله إعلان الجامع أثبت أن القلوب ما تزال نقية وأن التلاحم يقف في وجه كل المؤامرات ويفسد كل المخططات.
ولشد ما أسعدني أن هذا الأمر متكرر ولقد أثار تعجبي وإعجابى بما سمعته، استغراب من حولى لأنها لم تكن المرة الأولى وبإذن الله لن تكون الأخيرة.
وليت الإخوة من مقدمى البرنامج الدينية أو ضيوفها الدائمين من أصحاب القضايا المخملية وفقهاء المترفين او معلمي (مدرسة التنوير الإعلامية الخاصة بمصروفات) ينتبهوا لمثل هذه الأمور ويتتبعوا الصور المضيئة التى يعج بها المجتمع وليخلعوا عنهم ثياب السخط على كل شيء واتهام الشارع بالوقوع تحت سطوة التيارات السلفية، فهذه صورة حية في قرية من عمق الجنوب. قدمت واقعة حية على أن الوعى الشعبي لا يلتفت لمحاولات بث الفتن وأنه يتفوق بمنتهى التلقائية على كثير من دعاوى رواد ما يسمى بحركة التجديد أو التنوير أو أي مسميات أخرى، فجهود كلا الفريقين من سلفيين وتنويريين، لاحت متهافتة أمام كلمات ترددت بمنتهى القوة التلقائية من ميكرفون مسجد بلدنا فأعادت إلي الثقة بعد أن كاد يصيبنى الارتياب من كثرة ما أسمعه وأراه ومن تقديم صورة سوداء مقبضة من فريقين أوشكا أن يسيطرا على الخطابين الإعلامي والديني، يعملان لصالح أي شيء إلا صالح هذا البلد!.