كتب : محمد حبوشة
يبدو واضحا أن هنالك تحولا في مسار الدراما السورية التي يتم تصنيفها عادة في فئة (الواقعية الاجتماعية)، فبعد أن كان هذا النمط من المسلسلات يركز في الأعوام العشرة الأخيرة على حكايات الجنود وآثار الحرب والدمار على المجتمع السوري، ويزيف الحقائق بهدف تلميع صورة النظام تارة، أو في محاولة للعزف على أوتار الأزمة عبر الميلودراما التي تعكس المأساة، لكن في هذه السنة الأخيرة اختفت مظاهر العسكرة تماما، لتحل محلها حكايات الحب وقضايا اجتماعية مختلفة، كتجارة المخدرات والإدمان والتهريب للبشر والسلع الغذائية، فضلا عن شحن الأجواء بحالات من الإرهاق النفسي الذي يميل في غالبيتها نحو السوداوية أو (التعتير) – على حد المصطلح الشعبي الذي كثيرا ما يقوله الشوام في هذه الأيام – واصفين به حال غالبية المواطنين السوريين الذين نزحوا عن أرضهم وبلادهم.
ومن تلك النوعية من الدراما الواقعية يأتي مسلسل (شتي يا بيروت)، صحيح أن الاسم يخفي ميلا إلى أنه مسلسل لبناني، لكن الواقع أنه ينتمي إلى دراما الواقعية السورية الجيدة في ثوب مغاير يستدعي أن (تشتي بيروت) نوعا من الدموع التي تغسل الروح وتطهر النفس حزنا على ما يحدث في الشام العتيقة، ليؤكد هذا المسلسل المدهش في تفاصيله وأحداثه التي تتأرجح بين الحزن الكثيف ولحظات الفرح العفوية البسيطة أن الفن الأصيل له دور كبير في الارتقاء بمستوى الوعي الذهني والحس الوجداني للإنسان يجعله أكثر تحضرا وإحساسا بالآخر، وأقوى انتماءا وحبا لمجتمعه وأسرته، إلى آخر هذه الصفات الحميدة التي تساهم في تقدم الأمم، ويقر في نفس الوقت، أن للدراما التليفزيونية وخاصة التي تعرض في حلقات يومية تأثير جاذب وطاغي وملح على أذهان المشاهدين في مجتمعات مازال يقترب من ثلثها أميا، ولا تقوم مؤسساتها التربوية بدورها المأمول، عندئذ يصبح ما يعرض في هذا الجهاز المنزلي المسيطر هو المثل والقدوة.
يرصد العمل قضايا التهريب بكل أشكاله وعوالمه الخفية إلى الثأر والانتقام بين الأخوة وأبناء العمومة، كما يطرح قضايا اجتماعية ووجدانية أخرى، ويجعل من كل تفصيل في هذا المسلسل حقيقي، وإن كانت الحكاية من وحي الخيال كما يقول الكاتب، فإنها على قول بطل المسلسل (عابد فهد): عمل من رحم المجتمع، ودراما غنية بالأحداث، وهو بمثابة دعوة للنقاء كالمطر عندما يغسل الهموم والنفوس، مضيفا: (جميعنا نعيش أزمة اجتماعية اقتصادية بكل معنى الكلمة، والعمل يعكس الواقع، فمظعم الشخصيات هى ضحايا، حتى المجرم نجد أنه ضحية المجتمع الذي لا يحتويه ويرفضه بشكل أو بآخر)، وشخصية (عبدالله) أو (أبو العز) – التي لعبها (فهد) بحرفية عالية واتقان عبر لغة جسد تؤكد براعته في التجسيد الدراما الذي ينتمي للون التراجيديا الإنسانية – وهى ليست استثناء إذ يلهث وراء نفسه لينقذ عائلته، فتراه يخرج من حفرة ليقع في أخرى.
تفاجئ الحياة (عبدالله) بأمور لم يكن يتوقعها، سواء من خلال علاقته بحبيبته التي ضحى من أجلها وانتظرته بدورها طويلا كي تتزوجه، وصولا إلى الحاجة الملحة للمال والطمع الذي يعمي القلوب والبصيرة ويجعل من الواعي جاهلا، ويقصد هنا (عابد فهد) علاقة عبدالله بشقيقه (عبد القادر) الذي يلعب دوره (إيهاب شعبان) عازفا عزفا شجيا على المشاعر الداخلية للشخصية، معتبرا أن العداوة بينهما هى فخ وقع فيه الأخير، عندما قامت حبيبته وابنة عمه (يم/ لين غرة) بإغرائه من الزواج منها بعد أخذ تار أبيها من أخوه (عبد الله).
أتوقف بقدر من التامل في براعة تجسيد (عابد فهد) عند مشهد في منتصف الحلقات (في عرض البحر، قارب نجاة صغير يبحر من لبنان باتجاه أوروبا، محملا عشرات الحالمين بحياة أفضل.. فجأة، يرن الهاتف ليستقبل (عبد الله/ عابد فهد) اتصالا من أخيه، يطالبه بالعودة إلى سورية لرؤية أبيه المريض، يحمل ابنه من أصحاب (متلازمة دوان) على كتفه ويعود، هذا المشهد يمر في مسلسل (شتي يا بيروت) قصة بلال شحادات، إخراج إيلي السمعان، ليبدو أشبه بصورة تحاول أن تختزل ضياع السوريين اليوم ما بين بلاد الغربة التي تلوح لهم بطيف المستقبل، وما بين بلدهم الأم وماضيهم المنهك والمتهالك.
وهنا يحاول (عابد فهد) بتعبيراته على الوجه الحالم والجسد النحيل أن يختزل، بنظراته التائهة في عرض البحر، ضياع السوريين، ليضيف إلى المسلسل المزيد من الكليشيهات والمشاعر الفياضة التي قلما يخرج عنها في أدائه لأدوار التراجيديا الإنسانية، إلا أن هذا الأمر يزيد المشهد سطوعا، عندما يتعلق بإشكالية شخصية (عبد الله) بحد ذاتها، التي تبدو شخصية مغلوبة على أمرها تجسد آلام وأوجاع اللاجئين السوريين في لبنان، لكنه يختلف عن البقية بكونه يعمل كمهرب، ويتاجر بأرواح البشر على الحدود البرية والبحرية.
هذا الازدواجية في شخصية (عبد الله) قد أظهرت لنا كفاءة عابد فهد في الأداء الذي وصفته من قبل بـ (داهية التمثيل) في تغريده الدائم خارج السرب كما في مسلسل (350 جرام) عبر أداء يتسم بمنتهى البساطة في ثوب مرتق بالتعقيدات المذهلة، فعابد فهد ممثل عرف عنه التحدي وقهر مناطق شائكة في قلب الدراما العربية وهنا في (شتي يا بيروت) بدا لي بشكل مغاير عن أدواره السابقة، حيث كان الهدوء سمة أساسية واعتمد طوال الوقت على تون الصوت المنخض، وأحيانا كان يلجأ إلى (قرار القرار) بشحوب متعمد مع عيون معبرة عما يجيش بداخله من أحزان أدت إلى كثير من التشوهات النفسية التي لازمته طوال الوقت، فضلا عن ضعف قلبه تجاه ابنه المصاب بمتلازمة دوان، فقد عزف على أوتار الشجن والحب والحنين والقسوة في مزيج أدائي يؤكد أننا أمام (داهية) في التمثيل عن كثب.
ومن خلال مشاهدتي على مدار حلقات المسلسل الثلاثين أدركت حقيقة مهمة، وهى أن هناك كثير من المشاهد التي تمر في مسلسل (شتي يا بيروت) ينجح فيها صناع المسلسل في الخروج من قوقعة الكليشيهات والصور النمطية الجاهزة التي يستهلكها الإعلام، يؤديها عابد فهد بحساسية عالية، ليعكس، دراميا، جزءا مهمشا من واقع اللاجئين السوريين في لبنان، كما هو الحال في المشاهد التي يقف فيها عاجزا أمام قسم الشرطة بعد اختطاف ابنه، كونه يدرك أن الأمر الوحيد الذي سيهتم به رجال الأمن اللبناني عند دخوله هو أوراق إقامته، لكن الجانب الآخر من الشخصية (المافيوي) الذي يجعل (عبد الله) شبيها بغالبية الأبطال السوريين في المسلسلات اللبنانية، يعكر صفو هذه اللحظات الدرامية الرائعة، التي تمر بشكل خاطف لترفع النسق الدرامي، كلما ابتعدنا عن الحكاية الرئيسية السيئة في المسلسل، والتي لا تشبه الواقع في شيء.
وبغض النظر عن الأداء وما ينجم عنه من تشويش في بعض اللحظات الدرامية الجيدة التي تتخلل الحكاية الميلودرامية الضعيفة – بحسب وجهة نظري رغم اعترافي بجودة الأداء من كثير من طاقم الممثلين – فإن مسلسل (شتي يا بيروت) يحتوي العديد من الأمور التي تجعله يستحق المتابعة؛ فالعمل على الأقل ينجح في صناعة بعض اللحظات الدرامية الجيدة، ويطرح قضايا اللاجئين والأحياء الفقيرة في لبنان بشكل هو الأفضل منذ مسلسل (غدا نلتقي) عام 2015، كما يثبت أنه ليس من السهل بمكان أن تمشي الإنسانية بموازاة ما لايمكن أن يلتقي معها كعالم الجريمة، الأمر يتطلب حنكة عالية في الكتابة وخبرة في تقاسم الحدود ما بين التعاطف والإدانة، وهذا ما استطاع فعله الكاتب بلال شحادات في مسلسل (شتي يا بيروت، الذي تحمست لانتاجه شركة (الصباح إخوان) ووفرت له كل أسباب النجاح.
ظني أن العمل جاء جادا في الطرح، خاصة قضية اللاجئين السوريين، وهذا ما افتقدته أحيانا الدراما المشتركة سابقا، كما أن اختيار الأبطال جاء مدروسا، فأغلب الشخصيات كانت بمكانها الصحيح، فعابد فهد كان جوكر في رسم ملامح القوة والضعف، الشدة واللين، وتفوق في رسم ملامح الأبوة بالعطاء الذي لا ينضب مع (أيوب/ حسن مرعي)، الأمر الذي لم نره كثيراً في الدراما سابقا، حيث كان يغلب على هذا النمط من العلاقات وجود الأم ودورها الرئيسي في حياة الابن، لاسيما إن كان من ذوي الاحتياجات الخاصة، ولكن إتقان إدارة الطفل في أدائه، وكذلك أسلوب التفاعل معه من قبل (عابد فهد و(بيسان/ إيناس زريق) قدما علاقة إنسانية صادقة، فكان (فهد وزريق) بمثابة أهل في الواقع وليس كممثلين على الشاشة، وهذا يحسب لهما نظرا لإتقانهما العالي لكل لحظة إنسانية عفوية جمعتهما بالطفل الذي ترك أثرا في كل مشهد ظهر فيه.
الصورة في العمل إجمالا جاءت احترافية، والجهد المبذول في الإخراج من قبل (إيلي السمعان) واضحا، فكانت المشاهد لا سيما في الحلقات الأولى من العمل جذابة ومشغولة بإتقان، وثمة تنقل سريع بين المشاهد التي حملت تشويقا عاليا، إلا أن ارتباكا واضحا بدا في التنقل بين المشاهد في منتصف العمل، مع أخطاء إخراجية عدة كادت تفقده بعضا من وهجه، خاصة في الحلقة (17) التي اختطلت فيها المشاهد الليلية مع النهارية التي ظهرت في آن واحد، لكنها عادت لمسارها الصحيح في الثلث الأخير من المسلسل متداركة تلك الأخطاء، وبقي العمل محافظا على (ريتم) عال من الجذب، مع استمرار الأحداث الجديدة التي لم تتوقف في الحكاية بذروات واضحة وحبكة متينة أنقذت الموقف، لتأتي الحلقات الأخيرة متوهجة خاصة الحلقتين (29و30)، وفي النهاية نجح العمل في إيصال رسائله تجاه نهاية وخيمة لممتهني التهريب، والمتمسكين بالانتقام لآخر نفس.
ولابد لي أن أذكر من أهم أسباب نجاح (شتي يابيروت) هو الأداء الجيد من جانب لكل (فادي أبو سمرة، عبدو شاهين، رامز الأسود، إليسا زغيب)، لكن تبقى (زينة مكي) من وجهة نظري مفاجأة مذهلة في أدائها لشخصية (نور) فقد جمعت بين شخصية (الساقطة) التي تحاول إنقاذ أهلها من الفقر بطريقة احترافية مزجت جيدا من خلالها بين الكره لمهنتها السيئة والحنو البالغ على أبيها وأختها، وقد ساهم (جيري غزال) في تأكيد القيم الإنساية والحب الحقيقي الذي لاتعجزه أية معوقات اعترضت طريق نور، أما الطفل أيوب (حسن مرعي) فهو ورق القصة الرابحة وحبرها المتدفق بالحيوية والإثارة، حيث يحضر كبطل ويعطي المضمون منحى البراءة والانسانية؛ يفضح الوجه الآخر للإنسان وقذارته ومدى إعاقته الحقيقية، تلك الإعاقة التي تنبع من الداخل الملوث بالهمجية والعنف والتصفية والقتل، ولأوّل مرة نشهد مثل هذه المشاركة الجريئة والصعبة والمتعبة حتما لطفل مثل أيوب، مشاركة أقل ما يقال فيها إنها تحد ومغامرة فنية لخدمة الإنسان.
كثيرة هى مشاهد الـ (ماستر سين) في حلقات (شتي يابيروت) الأولى والأخيرة، لكن أتوقف عند مشهد إبلاغ (عبد الله أو أبو العز) بموت (وليد أبوليلى) في الثلث الأخير من الحلقة رقم (29) والذي جسده عابد فهد بمونودارما فائقة الجودة على مستوى التعبير بالوجه في ظل لحظات من الصمت الموحش، كما جاء على النحو التالي:
يدخل أحد العاملين في محطة البنزين التي يملكها مع شريكه وليد أبو ليلي/ فادي أبو سمرة ليخبره بموت شريكه قائلا ريس أبو العز : أبو ليلى .. !
فيقول له أبو العز : شو به أبو ليلى؟.
يرد العامل : مات!.
فيرد أبو العز بقرار صوت محمل بالحزن والشجن: مات !!
تحولات مذهلة على وجه أبو العز من هول الصدمة ما بين الحزن والألم وفقدان الصديق وابتسامات ساخرة عاجزة أمام قدر محتوم وموت مفاجئ، تؤكد براعة (عابد فهد) في التعبير عن المشاعر الداخلية بانقباض العين وانبساطها وصمت الشفاه عن الكلام .. هى حالة مونودراما بأسلوب الميلودرانا تتجلى فيها مواصفات الممثل القادر على تحريك المشاعر، وإيصال حالة الاهتزاز الداخلي التي تنتابه بمجرد نظرة توحي بمكنون الشخصية من الداخل، وكأن بركان يغلي على وشك الانفجار، رغم حالة الصمت المطبق على المكان والأشياء من حوله.
بصوت شاحب غير مصدق يقول أبو العز : وليد .. ماااااااااااااااااات؟! .. روح انت روح.
يلتقط أبو العز موبايله في شك أن وليد قد مات مرسلا له رسالة صوتية : وليد انت وين ؟ .. خبريني .. طمني إيه.
ثم يغلق الموبايل ويتجه إلى قبر وليد ووجهه مصحوبا با بابتسامة ساخرة : وليد .. آااااخ ياوليد آااااخ . بقالي شهر عم أحكي معك وأقولك بلاها ياوليد .. هيك غلط اللي عم تعمله ياوليد .. عبث .. عنيد .. عنيد وحمار .. ايه انت عنيد وحمار .. هيك اللي ما باسمع كلمة رفيقه.
يلتقط أبو العز أنفاسه من جديد ويحاول التماسك قائلا : هيك بدك .. بدك تروح .. قررت تروح .. تتركني وتروح .. الله يرحم ترابك .. الله يرحمك يا وليد.
ثم يقرأ الفاتحة على قبره وينصرف منهينا مشهد من أقوى المشاهد في المسلسل، وذلك على الرغم من قصر المساحة الزمنية ولحظات الصمت الموحشة التي تعتلي المشهد، إلا أن تعبيرات وجه عابد فهد كان غاية في الصدق والإخلاص لرفيقه الذي رحل دون أن يسمع مشورته.