بقلم : محمود حسونة
يعي عشاق السينما الهوليوودية أنه من النادر أن تجد فيلماً أمريكياً يخلو من الدعاية السياسية للولايات المتحدة، ويكرس النموذج الأمريكي منقذاً للبشرية ومقاوماً للشر الإنساني ومدافعاً عن الكوكب من هجوم كائنات الكواكب الأخرى الافتراضية، وفاضحاً لكل المتآمرين على الاستقرار الإنساني، ليأتي فيلم (لا تنظر للأعلى) سابحاً ضد هذا التيار القوي، ومحذراً من أن أمريكا يمكن أن تقود العالم إلى الخراب والكوكب إلى الفناء بفضل جهل ساستها وتحكم الرأسمالية المتوحشة في القرار، وتفاهة إعلامها، وتحول الشعب هناك إلى قطيع لا تشغله سوى أخبار النميمة الفنية والشائعات وحكايات السوشيال ميديا.. أما الأخبار العلمية فقد أصبحت في ذيل القائمة إن كان لا يزال للذيل وجود، واكتشافات العلماء ليست سوى هرطقات لا ينبغي أن يلتفت لها أحد، حتى لو حملت تهديداً من خطر يهدد الوجود الإنساني وينذر بفناء الأرض على من فيها.
(Don’t look up) أو (لا تنظر للأعلى) اسم للفيلم يحمل صيغة الأمر لسكان الأرض بعدم النظر للأعلى، وكأنه يحثهم على الرضا بالواقع وعدم مراقبة أحوال الدنيا وعدم الالتفات لمشاكل الكوكب وكلام العلماء الذين هم في نظر الساسة والإعلام ليسوا سوى مهرطقين يسعون باكتشافاتهم لنشر الخوف من المستقبل بين الناس.
حكاية الفيلم قد يعتبرها البعض مجرد خيال، ولكنها واقع، حيث يحذر الفيلم من مذنب ضخم متجه نحو الأرض، يبلغ قطره عشرة كيلو مترات وبحجم جبال ايفرست، وسيرتطم بالأرض خلال 6 أشهر و14 يوماً مما سيؤدي إلى فناء البشرية، حيث تصل قوته إلى قوة مليون قنبلة نووية من تلك التي دمرت بها الولايات المتحدة هيروشيما وناجازاكي اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية، وهى رؤية خيالية تتساوى مع مخاطر التغير المناخي الذي يهدد باختفاء مدن وبشر وبدأ في التسبب في العديد من الكوارث الطبيعية غير المعتادة مثل العواصف والأعاصير والحرائق والبراكين والزلازل، ناهيك عن فيروس كورونا والذي أصبحت إصاباته اليومية بالملايين، وما زالت البشرية عاجزة عن محاصرته رغم حملات التلقيح والتوصل إلى أدوية، ولكن كل ذلك لم يمنع طوفان العدوى المتضاعف مئات المرات من متحور إلى آخر.
الفيلم يلعب بطولته النجم صاحب الرسالة (ليوناردو دي كابريو) الذي عرفناه وسيماً ودونجواناً ثم فاجأنا بأدواره الإنسانية العميقة، والمهموم بقضية التغير المناخي والذي أنتج في هذا الصدد الفيلم الوثائقي (الجليد على النار)، دي كابريو يلعب دور (بروفسور مندي) في مركز لأبحاث وعلم الفضاء يتوصل بالحسابات العلمية إلى أن المذنب سيرتطم بالأرض بعد 6 أشهر و14 يوماً وذلك بعد اكتشاف الباحثة ديبياسكي والتي تؤديها جنيفر لورنس لوجود هذا المذنب؛ يتحركان سوياً في محاولة لتنبيه أولي الأمر بالخطر الذي يهدد بفناء البشرية.
يتم نقلهما للقاء الرئيسة الأمريكية أورلين وتجسدها صاحبة الرصيد الوافر من جوائز الأوسكار (ميريل ستريب)، ولكنهما لا يلقيان أي اهتمام من الرئيسة المشغولة بالبحث عن مخرج لفضيحتها الأخلاقية، وبانتخابات الكونجرس، والمستسلمة إرادةً وقراراً للأثرياء أصحاب الفضل عليها وعلى حزبها وممولي حملتها الانتخابية، وبعد انتظار وانتظار تلتقي الرئيسة بالعالمين لتستهين بأمر المذنب وتسخر من كلامهما وتحذيراتهما بأن ارتطامه بالأرض يهدد بفناء البشرية، ولعل هذا الموقف السينمائي يذكرنا بالموقف الواقعي للرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الذي استهان بكل التحذيرات من التغير المناخي، بل وانسحب من اتفاقية باريس بشأن التغير المناخي، وعندما ظهر فيروس كورونا استهان به، ولم يبد اهتماماً إلا بعد أن وجد الفيروس يصيب الملايين ويقتل الآلاف من شعبه، وبكل وقاحة سياسية حاول استغلاله قبل البحث عن لقاح له، في الصراع الأمريكي الصيني.
العلماء لا يعانون فقط من جهل وجشع صناع القرار، ولكن أيضاً يعانون من الإعلام، الذي رسم له المخرج آدم مكاي صورة في الفيلم تتطابق مع الواقع، فبعد جهد نجح العالمان في الوصول إلى أحد أشهر برامج التوك شو، وباعتبار أن خبر فناء الكوكب بلا قيمة في إعلام اليوم فقد تم وضعه في ذيل البرنامج، بعد أخبار الإثارة والثرثرة والفن، ومثلما كان العالمان هدفاً لسخرية الرئيسة الأمريكية، كانا هدفاً لسخرية مذيعين جاهلين مستفزين، حيث تحولا واكتشافهما إلى مادة لاستهزاء المذيعين، وكأن برامج التوك شو لديهم ولدينا أصبحت نموذجاً للخواء الإعلامي، ومن يقدمون هذه النوعية وغيرها في تليفزيونات اليوم يشترط فيهم التفاهة و(النطاعة) والأنا المتضخمة وفقدان الوعي الوطني والسياسي. ولا شك أن المخرج قصد تقديم المذيعة في صورة امرأة متعددة العلاقات تتباهى بأنها عاشرت عدد من رؤساء أمريكا السابقين، لكشف العلاقات الخفية واللاأخلاقية بين نجمات التوك شو وصناع القرار.
الطرف الثالث الذي يمكن أن يكون سبباً في فناء البشر والكوكب هو مواقع التواصل الاجتماعي التي كرست ديكتاتوريتها كمروج للتفاهة ورافض لكل هادف وجاد في حياة الشعوب، وبعد أن تحولت إلى أداة أمريكية للتحكم في العالم والسيطرة عليه.
في النهاية يصطدم المذنب بالأرض ويدمرها، وقبل وقوع الاصطدام تهرب الرئيسة مع حيتان المال في غواصة ضخمة، ليظهروا في المشهد الأخير عرايا، بعد أن فقدوا الغطاء الجماهيري والإنساني الذي يستمدون منه قيمتهم.
(لا تنظر للأعلى) صرخة سينمائية تحذر من المخاطر التي تهدد الكوكب ولا تلقى الاهتمام المناسب من صناع القرار في العالم، ولا من الإعلام الكلاسيكي ولا ما يسمونه الإعلام الجديد، صرخة تنتصر للعلم والعلماء في مواجهة الفساد السياسي والاجتماعي والاعلامي، صرخة شارك فيها بأعلى الصوت المتألق دي كابريو، وشاركته التألق جنيفر لورنس في دورين سينالان عنهما أو على الأقل أحدهما جوائز في موسم الجوائز المقبل، ولكن الفيلم ضم أسماءً مبهرة ليقدمها في أدوار لا تتناسب وقيمتهم الفنية ومن هؤلاء كانت (كيت بلانشيت) في دور المذيعة اللعوب، و(ميريل ستريب) في دور الرئيسة الأمريكية، وإن كانت ستريب بعدائها المعلن لترامب تحب أن تقدم دوراً ينال منه بصرف النظر عن حجمه على الشاشة.
mahmoudhassouna2020@gmail.com