* كانت أول أغنية لي في مشواري هي (يا عم يا جمّال)، وكانت أغنية (يا عم يا بنا) سبب سعدي
* في بداية مشواري الغنائي كنت مجرد مقلد للكحلاوي
* عزيزة أمير كانت سببا في دخولي عالم السينما، وحسن الإمام أعادني إليها بعد انقطاع 14 عاما
* لا أنسى مكالمة صلاح جاهين لي وإعجابه بصوتي.
كتب : أحمد السماحي
مازالنا مع مشوار المطرب الشعبي الكبير (شفيق جلال) الصوت الذي تشم فيه رائحة حواري مصر الأصيلة، في الحلقة الماضية توقفنا عند ولادته وكيف ولد ميتا لولا شطارة (الدكتورشفيق) الذي قام بتوليد والدته، والذي حمل اسمه، كما توقفنا عند أهم الصعوبات التى صادفته في مشواره الفني، وكيف تأثر وبدأ مشواره مقلدا لكل من (محمد الكحلاوي، ومحمد عبدالمطلب، وعبدالعزيز محمود)، وظروف عمله مع فرقة (محمود شكوكو).
وفى هذه الحلقة سنترك الفنان الراحل (شفيق جلال) هو الذي يتحدث عن مشواره بنفسه، حيث عثرنا على وثيقة نادرة له في مجلة (فن) اللبنانية فى العدد رقم 133 الصادر بتاريخ 17 غسطس 1992، يحكي فيها جزء مهم من مشواره، فتعالوا بنا نعرف ماذا قال فى هذه الوثيقة:
عندما بدأت حياتي الفنية، لم تكن الدنيا على ما هى عليه اليوم، فلم نكن نعرف محطة إذاعة سوى تلك التى يتردد نداؤها الشهير (هنا القاهرة)، ولم يتبادر لذهننا يوما أن ثمة شيئا اسمه الإذاعة المرئية أو التليفزيون، وهكذا كان على الفنان أن يتجول القرى والنجوع لكي يعرف الناس بفنه، فقد كانت الإذاعة حكرا على المطربين الكبار كأم كلثوم التى كانت تخصص لها الإذاعة مساحة كبيرة من ساعات البث كل يوم، كان ذلك عام 1941 حيث بدأت المسيرة بتقليد الأساتذة الكبار (محمد الكحلاوي، محمد عبدالمطلب، عبدالعزيز محمود)، وكنت اتقاضى أجرا في الليلة الواحدة عشرة قروش فقط، وإذا أردت أن أزيده قليلا كان علي أن أمسك (طربوشي) وأجول به بين الناس في القاعة عسى أن أحصل على (تعريفة، أو قرش صاغ).
يا عم يا جمال
استمرت الحال على هذا المنوال حتى أشار على كاتب الأغاني المعروف (عبدالفتاح شلبي) بأن استغل فرصة أنصات الناس وأقدم أغنية خاصة بي بعيدا عن تقليد المطربين الكبار، وبالفعل امتثلت لرأيه، وغنيت أول لحن عرفني الناس به وهو (يا عم يا جمّال)، وشيئا فشيئا بدأت اتراجع عن تقليد الغير لأغنى أغاني الخاصة، حتى جاء اللقاء الحقيقي بيني وبين المستمع العربي في العاشر من أغسطس عام 1948 وبالتحديد في الساعة الحادية عشر إلا عشر دقائق، ففي تلك الفترة كنت أشارك فى العمل مع فرقة (محمود شكوكو) على المسرح القومي بالأسكندرية.
وكان معي بالفرقة (كارم محمود، ثريا حلمي، سعاد مكاوي، هدى شمس الدين، مازن الأنصاري، إبراهيم حمودة)، وأذاعت لي الأذاعة أغنية (يا عم يا بنا) ولم أكن أتوقع مطلقا رد الفعل الذي تحقق بعدها، فقد كنت أجلس في شرفة المسرح ظهيرة اليوم التالي، وإذ ببعض المواطنين يشيرون نحوي قائلين: (يا عم يا بنا)، ولم يمر سوى شهر واحد وأذيعت الأغنية للمرة الثانية.
مقابلة الملك فاروق
يواصل (شفيق جلال) كلامه قائلا: حدثت المفاجأة التى لم تخطر على بالي يوما، فقد طلب الملك (فاروق) أن يستمع لهذه الأغنية فى استراحته، التى تقع بجوار الأهرامات، وذهبت إليه وغنيت أمامه، وسعدت كثيرا حين وجدته يردد معي بعض أجزاء الأغنية، وقبل أن أفارق المكان، نفحني غلافا صغيرا، ما كدت افتحه في الشارع حتى تبينت بداخله مائتي جنية، وهو مبلغ كبير جدا، يساوي بمقاييس هذا العصر عشرين ألف جنية، خاصة لو علمنا أن العشرة قروش في تلك الفترة كانت تتيح لصاحبها أن يشتري رطل لحم، ورطل سمن بلدي، رطل قوطة (طماطم) ملوخية، ويتبقى من العشرة قروش نصف مليم أيضا.
فى هذه الفترة كنت أعمل في فرقة (شكوكو) مقابل مائة وثلاثين قرشا في الليلة، وعندما عملت في فرقة (علي الكسار) في روض الفرج، كنت اتقاضى أربعين قرشا، وهو مبلغ معقول إذا علمنا أن عمالقة الغناء آنذاك ممن كانوا معي في الفرقة مثل (كارم محمود، إبراهيم حموده، حامد مرسي) يتقاضون في الليلة الواحدة جنيها لكل منهم، ومع هؤلاء كان (إسماعيل ياسين) الذي ذاع صيته في السينما يحصل على ستين قرشا، و(عمر الجيزاوي) صاحب اللون الصعيدي الفريد يحصل على ثلاثين قرشا، و(محمد الجنيدي) الذي يحصل على ثلاثين قرشا.
عزيزة أمير
هكذا كانت علاقتي بالفن مجرد مقلد للمطربين الكبار تارة، ومؤد ضمن جماعة مسرح روض الفرج، حيث كان مسرحا صيفيا، وكان علينا أن ننشد للجمهور حتى غياب الشمس، ولكن تغيرت الحال عندما جاء من يخبرني يوما أن السيدة (عزيزة أمير) الفنانة الكبيرة ورائدة السينما المصرية، والأستاذ المخرج (محمود ذوالفقار) سألا عني في قهوة (السلام) بشارع (محمد علي) ويطلباني في أمر عاجل، وعلمت فيما بعد أنهما بصدد إنتاج جزء ثان من فيلم (طاقية الإخفاء) الذي انتجته (عزيزة أمير) ، وأخرجه (نيازي مصطفي)، وذلك بعنوان (عودة طاقية الإخفاء).
ولكن المطرب (محمد الكحلاوي) الذي كان بطل الفيلم الأول، طلب أجرا بلغ اثنى عشر ألف جنية، فى الوقت الذي حصل في الفيلم الأول على ربعمائة جنية نظير التمثيل والغناء، وهكذا بدأت السيدة (عزيزة أمير) تبحث عن البديل الذي يقلد (الكحلاوي) في الغناء.
لم أنم في تلك الليلة وتخيلت نفسي نجما يركب سيارة فاخرة، ونسيت أنني (أتشعبط) في الترماي الذي كان يقلني من العتبة لـ (روض الفرج) نظير ستة مليمات، ومع أول تباشير الصباح انطلقت إلى فيلا (عزيزة أمير) بالهرم، لكنني لم أجدها في منزلها، وعلمت أنها تنتج فيلما لإسماعيل ياسين بعنوان (البني آدم) يتم تصويره فى ستوديو (لاما) بحدائق القبة، وعدت أدراجي إلى هناك، غير أنني وصلت متأخرا، وكانت في فترة الغداء، وانتظرتها زهاء خمس ساعات حتى عادت وسمح لي مدير الاستديو بالدخول.
فلما طرقت باب مكتبها، ودخلت فوجئت بالأستاذ (محمود ذوالفقار) الذي سألني عن سر الزيارة فأخبرته أنهما سألا عني بالقهوة في شارع (محمد علي) فسألني مستنكرا: (أنت مين يا بني؟!) فقلت له: شفيق جلال، فعاد يقول بغضب: أنا لا أعرف شفيق جلال ولا خليل عمر، واتفضل من هنا.!
عودة طاقية الأخفاء
غادرت المكان ودموعي تسبقني إلى الخارج، وعدت للمنزل فوجدني والدي على هذه الحال، ولما كان يعرف مديرا للحسابات بالاستديو طلب منه التوسط عند السيدة (عزيزة أمير) والأستاذ (محمود ذوالفقار)، ونجحت الوساطة بالفعل، وذهبت لزيارتهما من جديد، وفى هذه المرة كانت السيدة (عزيزة أمير) موجودة غنيت لها أغنية معروفة للكحلاوي غناها في مقدمة فيلم (بنت ذوات)، وبمجرد أن قلت (يا ليل) دقت السيدة (عزيزة أمير) على صدرها وقالت: (ياروحي عليك أنت كنت فين من زمان) ووقعت معي عقدا بثلاثة أفلام كان أجري في الأول ثلاثين جنيها، والثاني أربعين، والثالث خمسين، وهكذا عملت في السينما عام 1946 بفيلم (عودة طاقية الإخفاء).
سمير صبري يعيدني للسينما
توالت الأفلام حتى عام 1958 حيث انقطعت العلاقة فجأة ولسبب غير مفهوم، وعادت عام 1972 باللقاء الذي جرى فى أحد ملاهي شارع الهرم حيث فوجئت بوجود المخرج (حسن الأمام) والفنان (سمير صبري) إلى المائدة المواجهة لي، وقدمت لهما التحية المعتادة، وفور انتهاء فقرتي ذهبت للجلوس معهما، وفي أثناء الحديث أمعن الأستاذ (حسن الإمام) في وجهي قليلا ثم قال لسمير صبري: (شلبي أهه يا سمير)، والواقع أنني خشيت أن يكون قد نسى اسمي، ولكن سرعان ما عرفت أنه يعد فيلم جديد اسمه (خلي بالك من زوزو) واختارني للتمثيل فيه أمام (سعاد حسني، وتحية كاريوكا وحسين فهمي، ونبيلة السيد وسمير غانم).
مكالمة صلاح جاهين
قبل أن يتركني (حسن الإمام) صافحني قائلا: يوم الجمعة انتظر مكالمة من الأستاذ (صلاح جاهين)، ثم اذهب إليه لكي توقع عقد الفيلم، بالفعل تلقيت مكالمة رائعة من الشاعر الكبير (صلاح جاهين) قال لي فيها كلمات رائعة عن صوتي، وعن إعجابه الشديد بلوني الغنائي، وهكذا عدت للسينما فقدمت حوالي 29 فيلما كان آخرها (كابوريا) وفي هذا العام شاركت ببطولة فيلم (الدلالة) مع المخرج حسن الصيفي لكنه لم يعرض بعد.
مشواري مليئ بالفن
إلى هنا ينتهي كلام (شفيق جلال) عن مشواره الذي قدم فيه حوالي 400 أغنية أبرزها (أمونة، شيخ البلد، بهانة، بنت بحري، يا أم الخلخال، عهد الهوى، فكر في اللي فاتوك، ماتبتسميش، كحيل العين، عيون الصبية، يا زين الملاح، بقى ده اسمه كلام، أنا من الفيوم يا وله، تحت شباكك، دنيا الحب، صباح النور، أيه معنى الحظ، كعب البنت ريال مدور، الواد حنكورة، الحق مش عليك) وغيرها، كما أنه برع في المواويل الشعبية التى مازالت محفورة في وجداننا حتى الآن مثل (موال الأصيل، موال عيني، سبع سواقي، موال الصبر، تاجر الصبر، يا خسارة الحر لما تغيره الأيام).
وقدم العديد من الأوبريتات والصور الغنائية في الإذاعة منها (أنوار والقاهرة، الزفة، تفاريح، رحلة شباب، رمضان كريم، زفة العروسة، وعين الغزلان).
ريا وسكينة والآنسة حنفي
قدم (شفيق جلال) للسينما العديد من الأفلام منها (عودة طاقية الأخفاء، الآنسة حنفي، ريا وسكينة، خلي بالك من زوزو، زنقة الستات، الدلالة، كابوريا، فضيحة العمر، نوارة والوحش، حادي بادي، ليالي الحب، رجال لا يعرفون الحب، العمر لحظة، حافية على جسر الذهب، شلة الأنس، ممنوع في ليلة الدخلة، الدموع الساخنة، بالوالدين إحسانًا، بديعة مصابني، البحث عن المتاعب، بمبة كشر، حكايتي مع الزمان، نشال رغم أنفه، غازية من سنباط) وغيرها.
الرحيل
تزوج (شفيق جلال) مرة واحدة، ولم ينجم إلا ولد واحد هو (جلال شفيق)، الذي سلك طريق أبيه في الغناء، وفي عام 1998، بدأت حالته الصحية في التدهور، بسبب مشاكل متعددة في الكلى ظل يعاني منها إلى أن فارق الحياة يوم 20 مارس عن عمر يناهز الواحد والسبعين عاما إثر أزمة قلبية تعرض لها ونقل بعدها إلى مستشفى السلام ضاحية المهندسين بالقاهرة.
رحم الله مطربنا الشعبي الكبير (شفيق جلال) أحد مظاليم الفن المصري.