نادر عباسي .. تجليات المايسترو السيمفوني بأصابع ذهبية
كتب : محمد حبوشة
الموسيقى هى أجمل هدايا السماء للبشرية الهائمة في الظلام .. تنقي وتنير أرواحنا ، كلما عزفت الموسيقى أو سمعتها تعاظمت فيك الحياة أكثر ولم تعد بركة صغيرة، بل أصبحت بحجم المحيطات كل واحد منا يصلي لله حسب النور الذي فيه، وأنا اخترت الموسيقى المبدع المايسترو (نادر عباسي) ليكون ضيفنا في باب (في دائرة الضوء) هذا الأسبوع انطلاقا من إيمانه العميق بأن الموسيقى هى حقا نداء صلاة فيها الروح تتطهر، ولسان يقوله :الموسيقى مسرحية خلود مؤقتة في الوجود الفاني، الموسيقى تخلق الإنسان من جديد في هيئة سوية مع كل انعطاف.. أو انحراف.. أو تملل أو انكسار.
نعم فالموسيقى تخلق الإنسان من جديد في هيئة سوية مع كل انعطاف، وهى الفاتحة في مصحف الوجود، وهناك شيء عجيب في موسيقى (نادر عباسي) بل لعلني أقول أن موسيقاه هى أعجوبة بحد ذاتها، ومقامها يكمن ما بين الفكر والعالم الظاهر، أجل.. موسيقاه وسيط مشع بين العقل والمادة، فهي تقترن بهما وفي نفس الوقت تختلف عنهما، هى روحية لكن يعوزها الإيقاع، ومادية لكنها غير مقيدة بمكان لذا تخففوا من أجسادكم قليلا مع (عباسي) واصعدوا السلالم الموسيقية برفق ثم ألقوا بكامل أرواحكم من هناك فالأرض إسفنجية والفراغ صديق، لا تفزعوا هذا الصوت فى اللحن هو ملاك ظل على مادته الأولية.
أيتها الموسيقى الرائعة التي يقدمها (نادر عباسي) في تجلياته المرعبة بأنامله الذهبية.. إن في أنغامك الساحرة ما يجعل جميع لغاتنا عاجزة قاصرة، فموسيقاه هى تلك القوة السحرية المستمدة من الحضارة الفرعونية التي تحول أفكارنا إلى العواطف .. إذن فالموسيقى معه هى روح الحياة، بل الموسيقى هى وسيط بين العالمين الروحاني والمادي، وهي صوت الوجود المتسق الأنغام والانعطافات.. إنها همس العوالم غير المنظورة، الموسيقى عنده هي المرأة الجميلة وتصوروا الدنيا بلا نساء جميلات حين تعزف الموسيقى، ولأن الموسيقي حياة، فهي برهان أكيد على وجود عوالم أخرى غير هذا العالم المادي المحدود، وهي وعد شبيه بقوس قزح يترجم ذاته من المشاهدة إلى السماع.
يهيئ لي أن صوت موسيقى (نادر عباسي) كما سمعت وشاهدت ولمست ذلك في موكب (نقل المومياوات الملكية وطريق الكباش بالأقصر) أنها تأتي امتداد لحضارة مصر، حيث الروح التي تسكن الجسد من قديم الأزل عبر لحن ممتد بطول وعمق التاريخ يأتي معه من السماء بفعل عازفين على الأرض للموسيقى.. إغواءتها هى التي تدخلنا في مهب الحنين والذكريات، وهى من تشتت خواءنا الموهل وتستحوذ على مدافن الروح .. لا شيء سوى الموسيقي تخترق هذه العزلة الموهلة لأرواحنا تستلطف أجوائها ببصيص أمل.
من الصعب معرفة ما تستثيره موسيقى (نادر عباسي) في دواخلنا، لكن ما نعرفه هو أن موسيقاه تصل إلى منطقة غائرة العمق إلى الحد الذي لا يستطيع حتى الجنون نفسه التسلل إليها، هل تحب الصمت ؟ .. نعم !، ولكن فقط عندما يكون كاملا مع موسيقى (عباسي) الآسرة للقلب والعقل والوجدان، فموسيقاه تحافظ على التوازن بين الطبيعة والشيء الضروري لحياة كل مخلوق مع مساعدتها على تخفيف الحزن للروح، حينما أصمت إليها فإني أكون قد ذهبت لمكان.. سافرت عبر الأزمة، حيث تتحول فيه كل الموجودات إلى نغم وموسيقى، موسيقاه فقط من يمكنها إيقاف الأوجاع و قرع طبول الذكريات، وهى حوار منفرد، وخيط من النور إما أن نلمسه بعمق فتعمّق إنسانيتنا وإما أن نمر بجانبه بغباء فنتحمل الظلمة التي يورثها بعد ذلك.
لقد أثبت (عباسي) أن الموسيقى لا تشيخ، فذكريات الحضارة القديمة تحتاج إلى شمس وضياء وموسيقى مشبعة بالعصرية، حينما اغدو وحيدا مع نفسي أراجعها وتراجعني .. حينها فقط أفهم ماهية الموسيقى، و ما أنت إلا آلة كمان تعزف لي في آخر الليل أرقى الألحان.. إن عذوبة موسيقاه توطد آمالي بوجود أبدية جميلة فلون موسيقاه لاتجعلنا نبقى غرباء أبدا، فهي كالروح لا تعرف إلا الأزل والأزل صفة إله لا يموت وموسيقى الإله في فناء الصدى تعيد فقد السنين لتسقي بمطالعها بذور الأمل حنينا، وتهمس في آواخرها لمستمعيها (ابقى حيا) فالحياة لك، وما أجمل أن تكون الموسيقى علاج للألم عندما يعم الخراب ويقتحم مظاهر الحياة الروحية والمادية كلها لا يبقى شيء سوي الموسيقى، ليس من أجل العزاء فقط، بل من أجل تجديد ثقتنا بالوجود.
الموسيقى التي قدمها المايسترو (نادر عباسي) في موكب نقل المومياوات الملكية وطريق الكباش بالأقصر كان لها المفعول السحري والسلطة المهيمنة في إخراجنا وإبعادنا عن الكآبة والملل والحزن، فتحت تأثير هذه الموسيقى يبدو لي أن أشعر بما تشعر به، وحقا أن تفهم ما لا أفهم.. إنها يمكن أن تفعل ما لا يمكن القيام به، فعندما كان يقود الفرق المشاركة في العزف والغناء تشعر معه وهو يحلق معنا في آفاق علوية أن الموسيقي هى الحب يبحث عن كلمة، كما أن الحياة بلا موسيقي خطأ فادح، فالموسيقى هى من الأمور التي تدخلنا في أجواء مختلفة منها الهدوء والاسترخاء ومنها التوتر، بحيث تصبح الموسيقى أسمى من أن تكون أداة للهو والسرور، فموسيقى (نادر عباسي) حقا تعطيك المجال لتهرب من الحياة من ناحية، وأن تفهم الحياة بشكل أعمق من ناحية أخرى، الموسيقى عنده هى دم يتدفق فى عروق الحياة، وهى زهرة تنمو في القلب و الروح، وتزهر في الأفكار ورائحة الحياة.
ولأن الموسيقى كالشعر والتصوير تمثل حالات الإنسان المختلفة وترسم أشباح أطوار القلب وتوضح أخيلة ميول النفس وتصوغ ما يجول فى الخاطر وتصف أجمل مشتهيات الجسد فى سكينة الليل يحيى عاطفة الأمل، لهذا فالموسيقى لدى (نادر عباسي) كما بدت لنا في تجليات (المومياوات والكباش) هى لون من ألوان التعبير الإنسانى، فقد يتم التعبير فيها وبها عن خلجات القلب المتألم الحزين، وكذلك عن النفس المرحة المرتاحة؛ وفى الموسيقى، قد يأتى المرء بشحنة من الانفعالات التى فيها ما فيها من الرموز التعبيرية المتناسقة.. فى (مقاطع) معزوفة يحس بها مرهف الحس أو من كان (ذواقة) ينفعل ويتفاعل سماعيا ووجدانيا وفكريا، يحس بها إحساسا عميقا وينفعل به انفعالا متجاوبا، مثله مثل أى من الكائنات الحية مع تلك الأجساد المحنطة، في رحلتها الأخيرة حين كانت تنطق بالحضارة .. في لحظات تجليها وانتقالها من المتحف المصري إلى متحف الحضارات.
ولعل موسيقى (عباسي) من حين لآخر تفاجئنا بعنفوانها ودهشتها وتشعرنا بطفولتنا الدائمة وإلا من يملأ هذا الخواء المفجع الذي يزداد اتساعا فينا كل يوم؟، وفي (موكب المومياوات وطريق الكباش) كانت موسيقاه هى القانون الأخلاقي.. إنها كانت تعطي الروح للكون وأجنحة للعقل وتحليق إلى الخيال والسحر والمرح في الحياة، ولكل شيء مستمد من حضارة الأجداد، ولقد أكد في الموكبين أن الموسيقى هى سلام روحي يخلص القلب والعقل من اضطرابات الواقع، ووسيلة لانفراد الروح والهروب من بشاعة هذه الحياة، وهى الملاذ الوحيد للارواح المرهقة، لأنها باختصار تبعث في نفوسنا البهجه والفرح.
يقول جبران خليل جبران: (الموسيقى كالمصباح.. تطرد ظلمة النفس.. وتنير القلب.. فتظهر أعماقَه، والألحان في قضائي.. أشباح الذّات الحقيقية أو أخيلة المشاعر الحيَّة.. والنفس كالمرآة المنتصبة تجاه حوادث الوجود وفواعله .. تنعكس عليها رسوم تلك الأشباح وصور تلك الأخيلة، ومن أجل ذلك جعل منها (نادر عباسي) في فتنة مبهرة لحنا يجعلك تسافر بعيدا عن واقعك المحزن.. لتحلق في عالم وهمي جميل ..هو ما ستتذكره دوما مهما طال الزمن.. وسيبقى هذا اللحن كالتوقيع المحفور في ذهنك أبدا.. فما أقوى الموسيقى حين تلامس القلب وترتبط بحدث مصيري (كما ذلك حدث في الموكبين) ..فتلك هى القوة الكامنة في الموسيقى لن يدركها أي كان إلا هذا الإنسان المصري صانع الحضارة عبر التاريخ.
ولد نادر جمال محمود عباسي في القاهرة، وبرزت موهبته الموسيقية منذ صغره، وقرر أن يدخل هذا العالم من الباب الأكاديمي متلقيا كل الدعم من والده، ومخالفا رغبة والدته في دراسة الطب، وتتلمذ على يدي أساتذة المعهد العالي للموسيقى في الكونسرفتوار، وتخرج منه بدرجة بكالوريوس لآلة (الفاجوط) عام 1985، ثم تبعها عام 1986 بكالوريوس في التأليف الموسيقي من ذات المعهد.
تابع أيضا دراسة الموسيقى فحصل على بكالوريوس في الغناء الأوبرالي من معهد الكونسرفتوار في جنيف عام 1992، ثم تخرج عام 1999 من الأكاديمية العالمية للتعبير الموسيقي للأوركسترا السيمفونية في مدينة ليون في باريس بدرجة دبلوم في قيادة الأوركسترا، وخلال مسيرته الفنية الحافلة بالإنجازات استطاع نادر عباسي أن يثبت موهبته من خلال نجاحه في العديد من المهام التي أُوكلت له.
شارك عام 1986 في أوركسترا القاهرة السيمفونية كعازف أول على آلة الفاجوط، ثم في أوركسترا جنيف في الفترة الممتدة من عام 1987 وحتى عام 1992، أيضا انضم نادر عام 1989 كعازف لنفس الآلة إلى المجموعة الأوركسترالية (لوزان ميشيل كوربو) وبقي فيها حتى عام 1995، ولأنه فنان موسيقي متعدد المواهب انضم أيضا إلى أوبرا جنيف كمغني أوبرالي من عام 1992 وحتى عام 2001، وبعد تخرجه بشهادة الدبلوم في قيادة الأوركسترا عام 1999، أصبح نادر عباسي عام 2001 مديرا فنيا وقائدا لأوركسترا القاهرة وبقي كذلك حتى عام 2011.
وفي نفس الفترة وتحديدا عام 2004 اختير نادر لقيادة أوركسترا السلام في باريس ولا يزال حتى الآن، وانضم عام 2008 إلى لجنة التحكيم الخاصة بمسابقة الغناء الأوبرالي في السويد وبقي فيها حتى عام 2013، ولم يبخل نادر عباسي خلال مسيرته الفنية على الفن بأي شيء، فاستمر بتأليف العديد من قطع الموسيقى العالمية والعزف على آلة الفاجوط إضافة للغناء بصوت منقطع النظير، وتشهد له أهم المسارح العالمية بموهبة كبيرة ظهرت من خلال مشاركاته في عدد من الأوبرات في معظم دول العالم مثل أوبرا عايدة وأوركسترا مارسيليا الفيلهارموني عام 2006.
وأخيرا كانت إطلالتيه المميزتين من خلال (موكب نقل المومياوات الملكية وطريق الكباش)، حين كانت الموسيقى تنساب مغزولة بالكلمات الهيروغليفية تستدعي عظمة الأجداد، يقود تلك الملحمة بحركات يديه الحساسة، والتي أبهر بها المايسترو نادر عباسي العالم، من خلال قيادة أوركسترا وكورال الاتحاد الفيلهارموني، في حفلين تجلت من خلالهما براعة المايسترو البارع التي شكلتها سنوات طويلة من الخبرة، في قيادة الأوركسترا والكورال على الهواء مباشرة، وهو ما يتطلب قدر كبير من الدقة والانظباط، لينجح في إخراج لوحة فنية موسيقية غنائية غير مسبوقة لى النجو الذي يليق بمصر الجديدة وحضارتها القديمة الملهمة للعالم في مجلات الفن والفكر والعلم والمعرفة في كافة مجالات الحياة.
أما الجوائز التي حصل عليها نادر عباسي خلال مسيرته الحافلة بالنجاحات فهى: منحه المعسكر الدولي للموسيقى في الولايات المتحدة جائزة الامتياز والريادة، والجائزة الأولى لموسيقى الحجرة مقدمة من المجلس الأعلى للثقافة عام 1986، وفي عام 1992 منحته مؤسسة أصدقاء الكونسرفتوار في جنيف جائزة مسابقة المؤلف الموسيقي موتسارت، ثم في عام 1996 نال أيضا جائزة التأليف الأولى للأوركسترا، تبعتها جائزة الفيرتيوزيه عن عامي 1990 و1996.
وقف المايسترو (نادر عباسي) على مدار مسيرته الفنية الممتدة على أكبر مسارح العالم لقيادة العديد من الأوركسترا العالمية، أهمها مارسيليا الفيلهارمونى، بوردو الفيلهارمونى، أوركسترا لشبونة الفيلهارمونية (البرتغال)، أوركسترا إنشيون الفيلهارمونية (كوريا)، أوركسترا ساكرامنتو الفيلهارمونية في الولايات المتحدة الأمريكية، بالإضافة إلى أوركسترا من فرنسا، سويسرا وروسيا، وتمت دعوة أوركسترا أوبرا القاهرة تحت قيادته إلى العديد من المهرجانات والإنتاج الأوبرالي والحفلات الموسيقية في العالم، منها سالونيك، اليونان، المكسيك، ألمانيا، بكين، والصين.
وفي النهاية لابد لي من تحية تقدير واحترام للمايسترو البارع (نادر عباسي)، الذي يتقن كل مايجب أن يكون بروحه، لذلك استطاع أن يصل إلى العالمية، ويكون محطة يقف عندها كل مصري، واستطاع أن يمزج بين لغات الأديان الإبراهيمية بكاتدرائية القديس بطرس شمال فرنسا، أيضا مزج بين مؤلفات الإيطالي روسيني، والأمريكي برنشتاين، والعربي على عثمان، ونجح في تأسيس أوركسترا (الاتحاد الفيلهارموني) واختار أكفأ العازفين في مصر، وأقام عدة حفلات وبرامج تليفزيونية، وفضلا عن كل ذلك فهو بارع فى الموسيقى الكلاسيكية، وله أسلوبه الخاص والمميز الذى يعرفه به الجمهور ويتفاعل معه يتحرك تصفيقا وصمتا، وفقا لإشارة من يده أو إيماءة من عصاه، ولمع اسمه فى العديد من المحافل الموسيقية الدولية كواحد من أهم قادة الأوركسترا على مستوى العالم، ورغم أن المجال الذى احترفه عباسى فى الأصل والأساس غربى إلا أنه استطاع أن يقنع الأوروبين والغرب أن هناك فى الشرق من يستطيع أن يقدم فنونهم بشكل أفضل.